في دائرة الضوء
بقلم: محمد محمد بدري
في مكة، وحين كان الإسلام يعيش غربته الأولى: كان النبي -صلى الله
عليه وسلم- يخاطب بدعوته أفراد مجتمعه كافة، ويُؤَثِّر فيهم تأثيراً إيجابيّاً، كان
من آثاره: نشأة الجيل القرآني الفريد الذي أزال الله على يديه غربة الإسلام الأولى، وأقام على أكتافه دولته القوية العزيزة.
واليوم.. عادت غربة الإسلام ثانية للذين يقولون ربنا الله، يدعون لدينه،
ويتبنونه منهاجاً، ويعملون لنصرته، ويتخذون ذلك غاية لهم، حمل الغرباء
السعداء بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم بالحسنى، حملوا راية الإسلام
لبدء الجولة الثانية لهذا الدين، وليُخْرجِوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة الله
وحده.. وبدأ الناس يعودون إلى الإسلام، يريدونه رائقاً صافياً كما أُنْزِل أول مرة
بلا غبش ولا ركام.
ولا شك أن أخوف ما يخافه خصوم الإسلام: أن تمتد للدعوة الإسلامية جذور
في أوساط (الأمة) ، وأن ينشأ لها في (قواعدها) تأييد أو تعاطف.. من أجل ذلك:
كانت خططهم دائماً تقوم على محاولة فصل الدعاة إلى الله عن عامة الأمة، فإذا
استجابت الدعوة الإسلامية لهذه الخُدْعة، وصنعت هوة بينها وبين الناس تحت أي
دعوى فقد انفصلت عن أرضها وقاعدتها، وبدأت طريق الهلاك العاجل أو الآجل! !
ومن هنا: فإننا لا بد أن ندرك أن دعوتنا لا حياة لها إلا بقلب الأمة النابض،
وأن عِلْمنا لا بد أن يكون في محاولة هداية أفرادها وإصلاحهم، دون ممالأة أو
ذوبان في شهواتهم، بل لأننا ندرك (أن من يعتزل الناس لأنه يحس أنه أطهر منهم
روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً.. لا يكون
قد صنع شيئاً كبيراً.. لقد اختار لنفسه أيسر السبل وأقلها مؤونة..
إن العظمة الحقيقية: أن يخالط المسلم هؤلاء الناس وهو مشبع بروح السماحة
والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم،
وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستواه بقدر ما يستطيع.. وليس معنى هذا أن يتخلى المسلم
عن آفاقه العليا ومثله السامية، أو أن يتملق هؤلاء الناس ويثني على رذائلهم، أو
أن يشعرهم أنه أعلى منهم أفقاً، بل لا بد من التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة
الصدر، لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد) [1] .
فالداعية الإسلامي: رجل يحب الناس، ويحبه الناس؛ فلا فجوة بينهم وبينه.. وهو في حركته روح تسري في قلب الأمة، فتحييها بالقرآن.. وجسد يسعى في
سبيل تحرير الأمة من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي
تمارسه الأنظمة العلمانية المتغربة والغريبة عن الأمة وعن دينها.. وعقل يلمؤه
الوعي..
بل العمل الإسلامي: جهاد (أمة) ، وليس جهاد (حزب) أو (جماعة) أو
(تنظيم) ، ولذلك: فإن الدعوة الإسلامية تواجه أعداءها بـ (الأمة المسلمة) بعد
إحيائها وإخراجها من حالة الالتباس والاغتراب، فتكون مواجهتها لهم مواجهة قوية، وليست مواجهة (غرباء) لا يجدون من يقف معهم أو ينتصر لهم! !
ولكي تصل الدعوة الإسلامية إلى (إحياء الأمة) فإنه من الضروري أن تقوم
بترتيب أولويات أعمالها، وتراعي هذا الترتيب في دعوة الناس، وفي تنظيم
مراحل علاج المواقع الفاسدة، والبناء للواقع الإسلامي الصالح، وذلك من خلال ما
تتبناه من أفكار، ومنهاج للتربية، وأسلوب في العمل.. على النحو التالي:
1- الأفكار: لا بد أن تكون ملكاً للأمة، وليست حكراً على النخبة أو الصفوة، ومن ثم: فلا بد أن تكون باللغة التي تفهمها جماهير الأمة، وتقوم على حل
مشكلات الواقع، ورسم خطة المستقبل الأفضل.. فإنها إن كانت كذلك تحوّلت بإذن
الله إلى تيار عام كاسح، يغيّر بجهاده المستمر أسس الجاهلية الفكرية والخلقية
والثقافية السائدة في كثير من أحوال الأمة.
2-منهاج التربية: تربية كل فرد على الشعور بأنه (هو) المسؤول عن تغيير
واقع الأمة الإسلامية وليس (غيره) .. وأنه يمتلك القدرة على هذا التغيير إذا سعى
إليه بروح الائتلاف مع الأمة، والارتباط بجذورها، وعدم العزلة عنها أو مفارقتها.. ولذلك: فإنه لا بد أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ لأن ذلك أرضى لله،
وأنفع لعباده.
ولا شك أن هذا المنهاج التربوي سيُخْرِج بإذن الله دعاة إلى الحق يأخذون بيد
كل فرد في الأمة إلى الله، ولا يحصرون أنفسهم بين الجدران، بل يتغلغلون في
أوساط الأمة لتبسيط دعوتهم ودرء ما ألحقه بها الطواغيت والمبطلون.
3- أسلوب العمل: توسيع دائرة العمل للإسلام إلى أبعد حد ممكن، عبر
إقامة شبكة متكاملة من الروابط والعلاقات، ومد جسور التواصل مع مختلف طبقات
الأمة، بحيث تصبح العلاقة بين (الصفوة) و (عامة) الأمة هي علاقة إيجابية تقوم
على الحب المتبادل وتكامل الطاقات لخدمة الإسلام.. في صورة تتفق أو تقترب
من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى) [2] ، وقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعض بعضاً) [3] .
ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على فقه التعامل
مع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفتح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قدر
أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير
للإمكانيات.. ولايعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دماً جديداً في
قوة الباطل، أو أن يوظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني:
النزول إلى الساحة، وفهم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم،
ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ) [4] .
إن العاملين للإسلام عندما يكونون في الطليعة فإنهم يحصرون دائرة الصراع
مع الأنظمة العلمانية التي تجتال الناس عن دينهم وتحمل الأمة على التحاكم في
الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله.
ولا تنقل الدعوة الإسلامية الطليعية صراعها ومعركتها إلى الأمة التي يقع
عليها الكثير من المظالم، والتي تتطلع لليوم الذي تُحكَم فيه بالإسلام، وبشريعة
العدل الرباني.
إن الدعوة الإسلامية التي تنفذ إلى أعماق الأمة تمتلك السلاح الأقوى في
الصراع بين الإسلام والعلمانية، لأنها تمتلك قلوب عامة الناس بأخلاقها الحسنة
وفعالها الطيبة.. بينما تحكم العلمانية الأمة بنظم عسكرية قهرية، فتبقى معزولة
عن الأمة ومرفوضة من عامة الناس.
ولذلك: فإن الضغط على هذه الأنظمة العلمانية بـ (الأمة) ذات الولاء الثابت
للإسلام، قادر إن شاء الله (تعالى) على جرف هذه الأنظمة العلمانية (الورقية)
والإلقاء بها في مزابل التاريخ.
وبكلمة أخيرة: لا تقدر الدعوة الإسلامية على القيام بدورها ومسؤولياتها كاملة
إلا أن تمتلك رصيداً كبيراً في الأمة، وتستند إلى قاعدة عامة قوية، تدخل بها دائرة
المفاصلة مع الأنظمة العلمانية لإقامة الحكم الإسلامي.. ولكي تحقق هذا الهدف: لا
بد أن تشق الطريق نحو الأمة أكثر وأكثر، فتدخل في نسيجها الاجتماعي والثقافي
والاقتصادي، توظف كل ذلك لخدمة أهداف الإسلام، عبر الإحياء الإسلامي الكبير
الذي ينساب في خلايا المجتمع، ويسري في روح الأمة، فيحييها بالوحيين.