مجله البيان (صفحة 2379)

البيان الأدبي

- نصوص شعرية -

مؤتمر الشهداء..

(محاولة لمسرحة الشعر)

إعداد [*] :محمد الصالح حسن

- هل تذهب إلى اجتماع هذا المساء يا صلاح؟ ! .

بادر إبراهيم ذو الثمانية عشر ربيعاً صديقه صلاح بالسؤال، ليرد عليه:

وماذا سنفعل في هذا الاجتماع؟

سيناقشون الحوادث الأخيرة للمجاهدين في سبيل استقلال أرض الإسراء

والمعراج.

وماذا في ذلك من جديد يا أخي؟

إن هذا الاجتماع لن يتكرر! ! ، لقد دُعيَ إليه ممثلو الحل السلمي، وفوق

ذلك: دُعيَ إليه أربعة من الشهداء.. أحدهم من شهداء حرب 48، والآخر من

شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا، والثالث من شهداء مذبحة الخليل، ورابعهم من

شهداء عمليات عز الدين القسام.

حدّق صلاح في وجه إبراهيم مندهشاً، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئاً.. إن

إبراهيم نفسه هو أحد الشهداء! !

في المساء، كان صلاح يتخذ مقعده في المدرسة المغلقة، التي اتخذت مركزاً

للمؤتمر، وقد اكتظت بكثير من الحضور، بالطبع لم يندهش صلاح عندما رأى

عدداً من الحاضرين يرتدي أكفانه البيضاء بينما جُرحه يثعب دماً، يملأ القاعة

برائحة تشبه المسك.

صعد المنبر مدير المؤتمر بعد تلاوة آيات من القرآن ليبتدئ الحديث:

في أول الأمر أسأل:

هل ضيع الدم مجراه؟

أم أن هذي الجرائد قد سرقت لونه؟

وهل هذه الأرض حد يضيق ويكبر

كي نكبر الآن ثم نضيق

كيفما شاءت الريح أو شاءت الأنظمة؟

في أول الأمر أسأل:

هل نغلق الحلم في وجه أيامنا القادمة؟

حدثت جلبة في القاعة بعد هذه المقدمة المباغتة، ثم استدعى مدير المؤتمر

أحد الأطفال من الصفوف الأمامية ليلقي كلمة الافتتاح:

نحن جيل الحروب..

نحن جيل السباحة في الدم..

ألقت بنا السفن الورقية فوق ثلوج العدم

نحن جيل الألم

لم نر القدس إلا تصاوير

لم نتكلم سوى لغة العرب الفاتحين

لم نتسلم سوى راية العرب النازحين

ولم نتعلم سوى أن هذا الرصاص مفاتيح باب فلسطين

فاشهد لنا يا قلم

أننا لم ننم

أننا لم نقف بين (لا) و (نعم)

أكمل المقدم حديثه قائلاً:

سنسمح لممثل الحل السلمي بالحديث أولاً؛ حيث إن وقته الثمين مليء

بالمقابلات والمفاوضات ولن يسمح له بالاستمرار معنا إلى آخر المؤتمر.

صعد الممثل منبر القاعة وانطلق في حديثه:

أخيراً تعلمت أن جهاد اليهود ضلال..!

وبوابة.. للمجاعة!

وأن عِناق اليهود شجاعة!

وأن نضالي الحقيقي تفريغ ذاكرتي..

من حكايا دمائي المضاعة!

ووهم القتال..

وحسبك من شر لفظٍ سماعه

فقط.. طلقوا وهمكم واتبعوني

فإني كرهت سجون الكرامة! !

أنا خلف وجه الصقور اختنقت عقوداً..

فما أجمل الآن وجه النعامة!

عندما أنهى الرجل حديثه اندفع أحد الشهداء الذين كانوا يجلسون على المنصة

وقد تركوا تحتهم بركة من الدماء، اندفع قائلاً:

كيف تنظر في يد من صافحوك..

فلا تبصر الدم في كل كف؟

إن سهماً أتاني من الخلف..

سوف يجيئك من ألف خلف

فالدم الآن صار وساماً وشارة

لا تصالح، ولو توجوك بتاج الإمارة

عندما سمع صلاح والده الشهيد انبرى واقفاً وهو يقول بصوت مدوٍّ:

أقول لكم: لا نهاية للدم..

هل في المدينة يضرب بالبوقِ، ثم يظل الجنود على سرر النوم؟

هل يرفع الفخ من ساحة الحقل.. كي تطمئن العصافير؟

إن الحمام المطوق ليس يقدم بيضته للثعابين..

حتى يسود السلام،

فكيف أقدم رأس أبي ثمناً؟

بعد كلام صلاح قام مجموعة من الشباب الحاضرين ليهتفوا بصوت واحد:

ستبقى الدماء

أول الضوء.. والماء

أول من منح الناس قاماتهم

كي يروا مجدهم

وستبقى الدماء.. ونَتْبعها

مثلما يَتْبع القلب في نبضه

آخر الأنبياء

حاول مدير المؤتمر تهدئة الموقف المتفجر في القاعة بعد أن امتلأت بالضجيج:

فقال مؤكداً كلام الحضور:

من يجرؤ الآن أن يخفض العَلَم القرمزي الذي رفعته الجماجم

أو يبيع رغيف الدم الساخن المتخثر فوق الرمال

أو يمد يداً للعظام التي ما استكانت (وكانت رجال..)

كي تكون قوائم مائدة للتواقيع

أو قلماً

أو عصاً في المراسم؟ .

ثم أردف: والآن، أيها السادة، مع ضيف المؤتمر.. الشهيد محمد أحد

أعضاء خلايا عز الدين القسام، ويحكي لنا قصتَه الشهيدُ إبراهيم، فليتفضل.

صعد إبراهيم إلى المنبر وعندما همّ بالحديث سبقته دموعه، فتحامل على

نفسه وهو يحكي قصة معلمه الشهيد محمد:

اشترى في المساء

قهوة، وشطيرة

واشترى شمعتين، وغدارة، وذخيرة

وزجاجة ماء!

عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد

ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض..

من حول مائدة مستديرة

ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء

كان صوت البكاء قد ارتفع في القاعة عندما تقدم إبراهيم إلى محمد سائلاً:

كان يمكن أن تنحني لتظل

على قيد خبزك

أو تدفع العشب عن باب بيتك

كي لا يدل عليك

وتُقتل، كالفأر أو كالحصان!

كان يمكن أن تشرب الكأس مرّاً

وتطوي ضلوعك حين تهان

كان يمكن أن تلجم الخيل فيك

ويصدح صوتك بين القيان

ونعرف أنك حين أنيخوا..

جمحت

وحين اطمأنوا قتلت الأمان

وها أنت تعبر هذي الشوارع

مَن حدّث الضوء عنك

ليومئ هذا الصباح إليك

ويهتف مبتهجاً..

هو ذا (الإنسان)

كانت عيني محمد محدقة إلى الداخل وهو يتذكر إخوانه من الشهداء الذين قضوا نحبهم قبله وهو يجيب:

هو الدم يرفع قاماتنا فوق هذا الحطام

هو الدم يستنهض الأرض فينا

فلا عاصم اليوم إلا من اختزن العشب في جرحه ثم نام

كتبنا لأحبابنا جثة وانتظرنا بريد العظام

وما وصلتنا رسائلهم بعد

ما وصلتنا عناوينهم في الظلام

كان المشهد دراميّاً بعد كلمات الشهيد محمد.. فقد غصت القاعة بالنحيب المختلط بالهتاف، وتحول المقدِّم إلى شهيد مذبحة صبرا وشاتيلا قائلاً:

أيها الإخوة الأعزاء، إن معنا شهيداً فريداً هذه الليلة، إنه مصعب الذي

صُلِب وعذب حتى الموت..

تقدم إليه مدير اللقاء يحاوره بينما يرد عليه الشهيد بالنظرات؛ فقد قطع لسان قبل أن يصلب:

على ضوء صوتك ننزف حزن السنين الطويلة

تنساب فينا اخضراراً ورملاً

ونسأل: هل قتلونا كثيراً؟ !

تقول: انظروا لجراحي تُجِب

ونسأل: هل قيدوك طويلاً؟ !

تقول: انظروا للغصون تجب

على ضوء صوتك نعزف نبضاً

فتنساب فينا غناءً وخيلاً

نسأل: هل صلبوك طويلاً؟ !

تجيب خروقُ المسامير في راحتيك.. وفي نظراتك

على ضوء وجهك نغفو قليلاً

لنبدأ في الفجر موسمنا

وبينما كان صلاح يراقب الحوار وقد دمعت عيناه، أحس بحنين إلى الحديث

مع أبيه؛ فإنه لم يحاوره منذ عشرة أعوام عندما طبع على خده قبلة لم يره بعدها،

فقام منطلقاً إليه، إلا أنه ما أن قارب على الوصول إلى المنصة إذ بالشهداء الأربعة

ومعهم إبراهيم يرتفعون كأنما تحملهم الملائكة ويتردد في القاعة أصوات تسابيح

وتحاميد غاية في العذوبة.

إلى أعلى.. إلى أعلى.. حيث يختفون بين ضجيج الأفواه وصمت العيون

الذاهلة..

انظروا.. انظروا..

هتف صلاح من على المنصة وهو يمسك بقطرات من دماء أبيه

دمهم ناصع كالحصى

سجّلوا في بياض العناقيد أحلامهم

هل ترون الثمار التي خلفوها؟

وإذ توصد الأرض أبوابها،

ترتديهم نجوم السماء فلا يرجعون

قل لهم يا أمير الجنادب أن يرجعوا

قل لهم إننا نعتلي تحت شمس سديمية طائر الذكريات

ربما يرجعون

فلقد صار للجلد لون التراب،

ولا شيء في الأفق إلا صهيل الجنون

ويتجمع حول صلاح جميع الحضور.. المقاعد.. العصافير.. الكلمات التي

قيلت منذ قليل.. رجال يرتدون أكفانهم إلا أنهم لم يقيدوا في سجل الشهداء بعد،

يتجمع الجميع ليهتفوا:

سنطلع من كل بيت تشتت

من كل جرح تفتت

من كل طفل هوى في البياض القتيل

توحدت الأرض فينا

فكل قتيل سيصبح جيل

وكل بنفسجة أحرقوها ستغدو بنفسجة المستحيل

أفاق صلاح على هذا الهتاف المدوي من إغفاءته القصيرة قبل أن ينطق

بالشهادتين، ويلحق بأبيه..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015