محاضرات وندوات
نجيب محفوظ..
خلفية فكرية لفنه الروائي
(1 من 2)
بقلم: د. مصطفى السيد
ولد نجيب محفوظ في 11/12/1911م في وقت لم تكن الساحة الثقافية في
مصر تعيش لحظة المخاض بين يدي ميلاد ثقافة جديدة مبهمة المعالم ملتبسة
الخطوط، لم يكن الأمر كذلك؛ لأنه منذ تولى (محمد علي) (1769م 1849م) حكم
مصر بدأ مشروع تهميش جزء كبير من الإسلام وإقصائه عن الحضور الشامل في
وجدان كثيرين من أفراد المجتمع وسلوكهم، كما جرى إبعاده عن أكثر مؤسسات
الدولة، وحصره في المساجد والجوامع، وإضعاف أكبر معاقله التاريخية في أرض
الكنانة (الأزهر الشريف) ، وذلك لحساب المدارس والبعثات الأجنبية التي شكلت
العمود الفقري للبنية الثقافية الجديدة، ولقد سبقت البعثات التي أرسلها (محمد علي)
إلى فرنسا هذه المدارس ومدارس البعثات الأجنبية إلى زحزحة الأزهر والأزهريين
عن مكانتهم التاريخية بوصفهما مرجعين تربويين وعلميين في مصر وخارجها ... أيضاً.
ولقد أدى تقلص دور الأزهر والأزهريين في الحياة المصرية وتمدد المشروع
الغربي إلى فتح كثير من منافذ البلاد الفكرية والثقافية أمام ذلك المشروع، ولا سيما
شطره الفرنسي الذي أراد نابليون أن يجعل من أرض الكنانة أولى البلاد الإسلامية
التي يزرع في تربتها بذور الثورة الفرنسية (1789م) .
يقرأ (جومار) الخبير الفرنسي الذي رافق نابليون في حملته على مصر، ثم
أصبح مشرفاً على المبتعثين المصريين أيام (محمد علي) إلى فرنسا، يقرأ إجاباتهم
فيعلق عليها قائلاً:
(يظهر من فحوى كتاباتهم: أنهم قبل أن يكتبوا يفكرون بعقل فرنسي لا بعقل
عربي، فمن المنتظر أن الخرافات الشرقية ستمحى من عقولهم تدريجيّاً) [1] .
هكذا يرى هذا الفرنسي في هؤلاء المبتعثين بداية واعدة تؤذن بتفتت البنية
العقلية العربية والهوية الإسلامية لهؤلاء الطلبة، فيقربهم ذلك من اعتماد المرجعية
العقلية للحضارة الغربية ويعدهم للدوران في فلكها.
دور رفاعة الطهطاوي:
لقد ترتب على مشروع (محمد علي) انكماشاً وتهميشاً لدور الأزهر التاريخي
والمستقبلي [2] ، ومما يبعث على الأسى: أن هذا التراجع للأزهر شيوخاً وطلاباً
قد تم على أيدي بعض الأزهريين، ويعد الأزهري (رفاعة الطهطاوي) (ولد عام
1801م) ضمن هذا السياق (ممثلاً حالة نموذجية لوضع العالِم ضمن مشروع (محمد
علي) التحديثي، ف (الطهطاوي) نشأ وتشكل في سياق التجربة الجديدة، ووجد في
الشيخ (حسن العطار) (أستاذه، وشيخ الأزهر فيما بعد) القدوة والموجه، فالشيخ
(حسن العطار) هو من العلماء القلائل الذين فتنتهم علوم المحتل الفرنسي ووقعوا
تحت وطأتها، إن حداثة سن (الطهطاوي) ، والمرجعية الفكرية التي مثلها بالنسبة
إليه الشيخ (العطار) ، مضافاً إلى ذلك نشأته الفقيرة: جعلت من الآفاق التي فتحتها
أمامه سياسة (محمد علي) الأسس التي صاغت توجهه اللاحق عبر مختلف الكتابات
التي حبّرها بعد رجوعه من فرنسا والتي شكلت تعبيراً دقيقاً عن واقع العالم الملحق
بمنطق الدولة الناشئة، والمشارك في تنفيذ سياستها انطلاقاً من موقعه هذا) [3] .
ولم ينته دور هؤلاء الأزهريين (القلائل) عند حدود المشاركة العلمية والعملية
في التغريب الذي بدأ على استحياء أيام (محمد علي) ليصبح مشروعاً شاملاً في أيام
محفوظ، لم ينته دورهم عند حدود تلك المشاركة، بل تطور إلى مدح ما قام به
(محمد علي) ، يقول (رفاعة الطهطاوي) :
(لو لم يكن للمرحوم (محمد علي) من المحاسن إلا تحديد المخالطات المصرية
مع الدول الأجنبية لكفاه ذلك، فلقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها
بوصال أبناء الممالك الأخرى لنشر المنافع العمومية، واكتساب السبق في ميدان
التقدمية) [4] .
وهكذا تحول الشيخ (رفاعة) إلى مجرد باحث عن كل ما يبرر ويدعم سياسات
(محمد علي) التحديثية التي كانت أساس الانفتاح على الغرب، وقد وصل في
أحايين كثيرة إلى حدود التهور والفجاجة، لقد كان المتوقع أمام المأزق الحضاري
أيام (محمد علي) العودة إلى التجربة الإسلامية الراشدة، لتحصين الأمة بدينها، لا
باستعارة حضارة لم تأت بتقدم، ولم ترتق بدين يمتلك عناصر الرقي ويحفظ على
الأمة وحدتها وشخصيتها ورسالتها.
دعاة التغريب ورموزه:
وبمرور الزمان أخذ الاتجاه نحو تغريب المجتمع العربي المسلم في مصر،
ومن ثم: بقية العالم العربي، أخذ يشتد ساعده ويكثر مساعدوه، ويتغلغل فكراً
ومفكرين في شؤون الحياة كلها، ويتقدم نحو مواقع كانت تاريخيّاً وقفاً على دعاة
التوجه الإسلامي.
وكان في دعم الدولة ممثلة بالخديوي (إسماعيل) حفيد (محمد علي) أقوى
الأسباب التي مكنت للمشروع الغربي في مصر، يضاف إلى ذلك: ضعف الدولة
العثمانية التي آذنت شمسها بمغيب، وزاد الطين بلة: غياب مخطط إسلامي يوقف
التداعي الداخلي.. هذه الأمور وأمور أخرى ليس هنا موضع سردها تركت الساحة
العربية المسلمة مشرّعة على شتى الاحتمالات، تستقبل شتى التحديات واهنة القوى
مشتتة الرأي؛ فاشرأبت أعناق دعاة التغريب من المثقفين لتقصر المرجعية
الحضارية على لندن وباريس، وجأر (أحمد لطفي السيد) (1870م 1963م)
بدعوته إلى الليبرالية الغربية، ومحاربته للجامعة الإسلامية، جاعلاً من سلبيات
الحكم العثماني منطلقاً لمجابهة أي توجه إسلامي، ومن إشرافه على الجامعة
المصرية (1925م 1941م) فرصة لا تفوّت لتأسيس هذه الجامعة توجهاً ولوائح
ومناهج على أصول الفكر الليبرالي الغربي.
وبالجملة: فلقد (انتقل الفكر القومي على يد (لطفي السيد) إلى مرحلة جديدة،
وقد تميز فكره السياسي بالخصائص التي ميزت فكرة الطهطاوي، وهي:
الإيمان ب: القومية المصرية، والديمقراطية الليبرالية؛ والدعوة إلى نقل
مقومات الحضارة الغربية، وإن تميز بأن تفكيره أكثر علمانية كما يتضح من
مهاجمته لفكرة الجامعة الإسلامية) [5] .
دور علي عبد الرازق الانهزامي:
في هذا المناخ الليبرالي أخرج (علي عبد الرازق) كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) سنة 1925م، مكملاً بذلك الشطر الآخر من دعوة (أحمد لطفي السيد) الذي
استمات في الدفاع عن القيم الغربية وتقديمها للشرق العربي المسلم بوصفها الدواء
الشافي لكل علل التأخر والتخبط، لقد أراد (علي عبد الرازق) أن ينهض بالشطر
الأهم من هذه الهجمة المتمثل بالدعوة الكاذبة القائلة بخلو الإسلام من العناصر
اللازمة لقيام دولة، وأن كل ما في الإسلام عن هذا الجانب لا يعدو بعض القيم
الأخلاقية التي هي أضعف من أن تشكل دولة بالمفهوم القديم لهذه الكلمة، فأنّى لها
أن تكوّن عناصر قيام دولة بالمفهوم المعاصر؟
الأدباء والدعوة لليبرالية:
ولم تكد العاصفة التي أحدثها (الإسلام وأصول الحكم) تهدأ حتى يفاجأ العرب
المسلمون في مصر وخارجها بكتاب (في الشعر الجاهلي) سنة 1926م، لا ليمثل
ثرثرة حول قضايا أدبية تتسع لأكثر من رأي، بل للتشكيك في صدق الحقائق
التاريخية الموجودة في القرآن الكريم، وإذا كان الجمهور المصري من عامة
وعلماء وأحزاب أكثرهم قد أدانوا الكتاب الضرار، فإن (أحمد لطفي السيد) عمل
بكل ما في وسعة مستغلاً حربة البحث العلمي واستقلالية الجامعة، ليواري بها
السوأة الفكرية للكتاب والكاتب، داعماً مثل هذه البحوث المشبوهة وأصحابها الذين
صُنعوا على أعين الغرب.
في هذا المناخ القاتم الذي يعد امتداداً لمشروع (محمد علي) ، و (رفاعة
الطهطاوي) ، و (حسن العطار) ، وما كان يحمل من بذور حضارية نافعة غطت
عليها وألغتها سيطرة الروح الغربية الطاغية على دعوته ودعاته، ثم تجلّى هذا
المشروع بداعية جَلَد ضاعف فيه من الجرعة الغربية، وقلّت فيه الروح الإسلامية
الواهنة التي صاحبت دعاة المشروع الأوائل، قصدت بذلك من أطلق عليه لقب
أستاذ الجيل: (أحمد لطفي السيد) ، ولم يكن (لطفي السيد) يعمل وحيداً، بل آزره
(علي عبد الرازق) و (طه حسين) من خلال ما كتبا، وأخيراً: يأتي تراجع الأزهر؛ ليزيد الطين بلة، ويبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين ...
بيئة نجيب محفوظ وثقافته:
في هذا المناخ القاتم يولد هذا الروائي الكبير ليمتص هذا الثقافة، ويغذو قلبه
وعقله بفكرها ومفكريها، يولد في مثل هذا المناخ الملوث الذي يشكل حصاراً
وتحدياً لكل محاولات البعث الإسلامي، يتنفس محفوظ في هذا الجو، وتتأسس
ثقافته، ومن ثم: إبداعه الروائي، تأسيساً يجعل منه اللسان الروائي لتجمع
(الضرار) .
لم يكن محفوظ ليتردد في الانتماء الثقافي والروائي والسياسي إلى تجمع
(الضرار) الذي يمكِّن عمليّاً وفي العمق للفكر الذي يتناقض مع الدين، في الوقت
الذي يعلن فيه الضراريون أنهم لا يعملون إلا لبعث الدين [وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ
الحُسْنَى] [التوبة: 107] .
وإذا كان الفكر الغربي يجد بعض المسوغات لتسويقه في بلاد المسلمين بما
يمتلك من منجزات في الميدان التقني، فبم نفسر انحياز الأستاذ (نجيب محفوظ)
لفكر منقرض مذموم في الكتاب والسنة؟ ، وكيف نفهم قوله لـ (جمال الغيطاني)
الكاتب الروائي: (إن العصر الفرعوني هو المرحلة المضيئة في مواجهة الواقع
المر الذي كنا نعيشه) [6] .
ولقد أتيحت لهذا الروائي الموسوعي الفرصة لكي يطل على الثقافة الإسلامية
من موقع علمي وموثوق، وذلك عندما سجل رسالة الماجستير عن (علم الجمال عند
المسلمين) بإشراف العلامة الشيخ (مصطفى عبد الرازق) (رحمه الله تعالى) ،
وكانت الفرصة لو تمّت ستتيح للكاتب الاطلاع على الثقافة الإسلامية من مصادرها
التي يعتد بها، لا من المشعوذين الذين ازدحمت قصصته ورواياته بشخوصهم
وآرائهم، إن الجلوس مع أمثال الشيخ (مصطفى عبد الرازق) كان سيشكل مكسباً
عظيم العائد والمردود لهذا الروائي المتمكن، لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو
خير، واستعاض بالشيخ (مصطفى عبد الرازق) أصدقاء كان يشرب معهم الشيشة
ويحتسي بعض كؤوس الويسكي والاستماع إلى أم كلثوم [7] .
تتلمذه على (سلامة موسى) :
كما استبدل بالشيخ رأساً من رؤوس الفكر الغريب عن روح الأمة وعن
تجربتها ومسيرتها، قصدت بذلك (سلامة موسى) الذي يقول عنه محفوظ:
(وكان لـ (سلامة موسى) أثر قوي في تفكيري؛ فقد وجهني إلى شيئين
مهمين هما: العلم، والاشتراكية، ومنذ دخلا مخي لم يخرجا حتى الآن) [8] .
إن (سلامة موسى) قد وجهه إلى العلم الذي جعل (كمال عبد الجواد) يقول
على لسان الكاتب في (قصر الشوق) : (أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن أبي قرداً
إذا شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبي حقّاً ما
سخرت مني سخريتها القاتلة) [9] .
لعله ليس من المبالغة القول: إن التصور الإسلامي بما يمنح المؤمن من
القدرة على تجاوز اليأس والإحباط، واستبدال التفاؤل بالتشاؤم، إن هذا التصور
عندما غاب عن رؤية الكاتب لمستقبل الصراع العالمي للإنسان فإنه جعل هذه
الرؤية (لا تحمل أملاً في خلاص الإنسان، ولا حلماً بالخلاص، والأديب الذي
يكتب بمثل هذه الرؤية، لا يُنتَظر منه أن يعيد تشكيل الواقع ليكشف عن رؤية
جديدة للإنسان والواقع، وغاية ما يمكن أن يقدمه هو الوقوف عند حدود تصوير
الواقع الذي يراه في صورة مأساة كاملة ومستمرة) [10] .
إن غياب هذا التصور قد أفقد الكاتب تلك النزعة المتفائلة والواعدة بمستقبل
أفضل للإنسان، تلك النزعة التي أخذها أمثال (ديكنز) و (تولستوي) و (همنجواي)
من نصرانية محرفة، فباعدت بين أدبهم واليأس والقتامة، في حين كان بمقدور
كاتبنا أن يفيد من روضة الإسلام (اللامتناهية) في هذا الموضوع، ومن روحية
الشعب المصري المفطور على الكفاح المتفائل، والمكتشف بحسه الروحي لحزم
النور في ليالي الظلام المتكاثف.
لقد أدار الكاتب ظهره، ونأى بقلمه عن الاستفادة من الكنوز الروحية لمصر
الإسلامية، وراح ينقل الهموم الغربية إلى الرواية العربية نقلاً جعل بعض النقاد
يقول: (إن جرأة مشروع محفوظ في (حكاية بلا بداية ولا نهاية) .. وهو طي
صفحة التصور الديني للعالم، وتكريس التصور العلمي بديلاً له ووريثاً، وأن
التصور الديني للعالم قد دبت فيه الشيخوخة، وفَقَد القدرة مثله مثل الشرايين حين
تصاب بالتيبس على الاستجابة لمتطلبات العصر الذي لا سنة له غير التغير) [11] .
وبقدر ما كان محفوظ يباعد ما بينه وبين التصور الإسلامي ويقترب من
الغرب المقيم من خلال مثقفيه ومسوقيه من العرب، والغرب البعيد في دياره
وأوطانه.. بقدر ما كان يفعل ذلك كانت أزمته تكبر وكان يسقطها على أبطاله مع
كثير من التعسف والقسر الفني والموضوعي للشخصيات لتكون مطواعة لتصورات
الكاتب.
لقد ظهر ذلك جليّاً في رواياته (اللص والكلاب) ، و (السمان والخريف) ، ... و (الطريق والشحاذ) ، وأجلى ما يكون في (دنيا الله) ، و (حكاية بلا بداية ولا نهاية)
ولينفجر مدوياً فادحاً وفاضحاً في آن معاً في (أولاد حارتنا) .
ولعلي اكتفي بشواهد من (الثلاثية) التي جسدت هذه الأزمة:
تأتي أقوال (كمال) بن السيد أحمد عبد الجواد أحد أبطال الثلاثية (بين
القصرين، قصر الشوق، السكرية) [12] لتجسد بصورة صارخة عمق الأزمة
الروحية لمحفوظ، مبرزة رؤيته القاتمة للدين، سواء بقيمته المعنوية في حفظ كيان
الفرد والأمة، أو لجهة دوره في الصراع المستقبلي، بوصفه أحد أهم عناصر
النصر في هذا الصراع، إن لم يكن بتطبيقه وفهمه الفهم الدقيق عنصر النصر
الوحيد.
وأقوال (كمال عبد الجواد) وغيره من أبطال محفوظ لا تظهر أزمة الكاتب
الروحية وموقفه من الدين فحسب، بل تبلور انعكاس أفكار (سلامة موسى) في
الكاتب ودعوة (محمد علي) و (رفاعة) إلى التغريب التي كانت لها تجلياتها في
مختلف مجالات الحياة العربية المسلمة في مصر، وكتابات محفوظ تمثل في إنتاجها
أحد أهم هذه التجليات.
ولقد دندن أكثر النقاد عن العلاقة بين محفوظ وأبطاله عامة و (كمال عبد
الجواد) بصورة خاصة، وإذا كان النقاد قد وقفوا على أرضية صلبة في استكشاف
معالم العلاقة بين كل من (نجيب محفوظ) و (كمال عبد الجواد) بوصف جهدهم عملاً
مشروعاً من الناحية النقدية، فهم قد تركوا إبداعات مهمة في رصد هذه العلاقة
وإثبات وشائج القربى بينهما، ومما أكد على عمق العلاقة: مقولات الكاتب نفسه
التي أصّلت مقولات النقاد ورسخت ما ذهبوا إليه [13] .
يقول محفوظ: (الثلاثية، وأولاد حارتنا، والحرافيش: هم أحب أعمالي إلى
نفسي، في الثلاثية كما قلت: جزء كبير من نفسي، يتمثل في شخصية (كمال عبد
الجواد) ، إن أزمة كمال هي أزمتي، وجانب كبير من معاناته هي معاناتي، من
هنا يجيء حبي للثلاثية وحنيني إليها) [14] .
لنستمع إلى ما أورده الكاتب على لسان (كمال عبد الجواد) ، ولِنَرَ المسافة
البعيدة التي قطعها في البعد عن الدين، ووقوعه في حيرة وشك قاتلين: (سيكون -
أي: كمال- في تحرره من الدّين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به) [15] ،
ويقول كمال مناجياً نفسه في (قصر الشوق) : (كان كأنما يود أن ينعي إلى الناس
عقيدته، لقد ثبتت عقيدته طوال العامين الماضيين أمام عواصف الشك التي أرسلها
(المعري) و (الخيام) ، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية، على
أنني لست كافراً! ، لا زلت أؤمن بالله، أما الدين! ، أين الدّين؟ ! ، ذهب كما
ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة -حبيبته-، وكما ذهبت ثقتي بنفسي، كفى
عذاباً وخداعاً، لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، أبونا آدم؟ ! ، لا أب لي، ليكن
أبي قرداً إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة
نبي حقّاً ما سخرت مني سخريتها القاتلة) [16] .
إن (كمال عبد الجواد) ، ومن قبله (إسماعيل) بطل (قنديل أم هاشم) لـ (يحيى
حقي) ، وبطل (الأيام) و (أديب) لـ (طه حسين) ، و (محسن) بطل (عصفور من
الشرق) لـ (توفيق الحكيم) ليسوا إلا فتية من سلالة (رفاعة الطهطاوي) [17] .