دراسات شرعية
النفاق والمنافقون.. تنبيهات وأخطار
بقلم: د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
(إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في
الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية
الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟ ، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه
وخربوه؟ ، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟ ، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول
غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه
من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، [أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ
وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] [البقرة: 12] ) .
هذا بعض ما سطّره ابن القيم (رحمه الله) في التحذير من النفاق ... والمنافقين [1] ، الذي هو موضوع هذه المقالة، وسيكون الحديث عن خطر النفاق والمنافقين من خلال ما يلي:
1- خطر المنافقين داهم:
فالمنافقون أعظم خطراً وضرراً من الكفار المجاهرين، كما أن المنافقين أغلظ
كفراً وأشد عذاباً.
قال ابن القيم عنهم: (طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من
النار، قال (تعالى) : [إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] [النساء: 145] ، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبليةُ المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال (تعالى) : [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، والمراد: إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً، ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل، صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم ... وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الإيمان ما لم يصل إلى المنابذين بالعدواة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، قال (تعالى) عن المنافقين: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ] [المنافقون: 3] ) [2] .
2- تحذير القرآن منهم:
حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان
الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين
سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمئة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم (رحمه الله) :
(كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) [3] .
3- تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من النفاق:
خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من النفاق والمنافقين، وحذّر
وأنذر من سلوك المنافقين، وحذر من الوقوع في شُعَب النفاق في أحاديث كثيرة.
فعن عمران بن حصين (رضي الله عنهما) مرفوعاً: (إن أخوف ما أخاف
عليكم بعدي: منافق عليم اللسان) [4] .
قال المناوي في التفسير [1/52] : (كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم،
منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه
وتفحصه وتقعره في الكلام) .
وقال المناوي أيضاً [1/309] : (أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو
منه) .
4- خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق:
كان سلفنا الصالح (رحمهم الله) مع عمق إيمانهم وكمال علمهم يخافون النفاق
أيما خوف، فقد أخرج البخاري تعليقاً أن ابن أبي مليكة (رحمه الله) قال: (أدركت
ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
قال الحافط ابن حجر [الفتح1/111] : (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلِّهم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، ... وأبو هريرة ... فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء كعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم..) .
وكان أبو الدرداء (رضي الله عنه) إذا فرغ من التشهد في الصلاة يتعوذ بالله
من النفاق، ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: وما لك يا أبا الدرداء أنت ... والنفاق؟ فقال دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه [5] .
وكان الحسن البصري (رحمه الله) يقول: (ما خافه -النفاق- إلا مؤمن، ولا
أمنه إلا منافق) [أخرجه البخاري تعليقاً] [6] .
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن
يأمن على نفسه النفاق) ! [7] .
يقول ابن القيم: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل
هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم،
فكان عمر يقول لحذيفة: ناشدتك الله، هل سماني رسول الله مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً [8] ، يعني لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس، وليس
معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك) [9] .
فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك الأسلاف الأبرار من خوف شديد من النفاق
ودواعيه، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان، فمع ضعف الإيمان
وغلبة الجهل تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه! .. فالله المستعان.
5- المنافقون كثر:
ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين: أنهم كثيرون،
منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري (رحمه الله) : (لولا المنافقون
لاستوحشتم في الطرقات) [10] .
وقال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر
الأرض، وفي أحواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون
في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في
الفلوات، سمع حذيفة (رضي الله عنه) رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال:
يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك) [11] .
ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب
وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً
بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (ولهذا لم
يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان
ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق، ولما قوي الإيمان وظهر
الإيمان وقوته عام تبوك: صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه
قبل ذلك..) [12] .
6- سهولة الانخداع بهم:
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول
الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب،
فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال
(تعالى) : [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة: 47] ، وقال (سبحانه) : [وَإن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ] [المنافقون: 4] .
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيراً، وشرهم مستطيراً، حيث
يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.
ولذا: خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة (المنافقين) في القديم
والحديث، وكما قال الذهبي (رحمه الله) في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي
والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن: فهو من صوفية الفلاسفة
أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبون إلى
صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي -صلى
الله عليه وسلم- ولا يعلم بهم، قال (تعالى) : [وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ
لا تَعْلَمُهُمْ] [التوبة: 101] ، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين
وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى: أن يخفى حال جماعة من المنافقين
الفارغين عن دين الإسلام بعده (عليه الصلاة والسلام) على العلماء من أمته) [13] .
7- انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا:
ومما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر الذي لا يُخرج
عن الملة قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد،
والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله (تعالى) ، وعدم تحديث
النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر، لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر
المخرج من الملة، وفي هذا يقول ابن رجب: (والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى
النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على
المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن
يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً) [14] .
بل استفحل الأمر، وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صوراً أو أنواعاً من
النفاق الأكبر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: الاستهزاء بدين الله (تعالى) ، والفرح
والسرور بانخفاض دين الإسلام وهزيمة المسلمين، وكذا العكس..، والإعراض
التام عن حكم الله (تعالى) ، ومظاهرة الكفار ضد المسلمين ...
إن على الدعاة إلى الله أن يَحْذروا مكايد المنافقين ومسالكهم، فلا ينخدعوا بهم، أو يتساهلوا معهم، وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره وشعبه؛ مخافة أن
يصيبهم، وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم في الماضي والحاضر لكي
لا يقعوا في شراكهم، وأن يجتهد المصلحون في تحقيق تزكية النفوس وتربية
الأجيال على الإيمان الصحيح، والقيام بالعبادة ظاهراً وباطناً، فالمنافقون أرباب
ظواهر لا بواطن، وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك المنافقين من خلال لحن
القول، كما قال (سبحانه) : [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ القَوْلِ] [محمد: 30] .
قال شيخ الإسلام: (فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقْسَم عليها، لكن
هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله) [15] .
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) : ما أسرّ أحد سريرة إلا
أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.
8- الرد على منكري النفاق:
وأشير إلى مسألة مهمة، وهي: أن النفاق موجود وواقع، خلافاً لمن أنكره
من طوائف المرجئة، فقد زعم صنف من المرجئة أنه ليس في هذه الأمة ... نفاق [16] .
قيل للحسن البصري: إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق،
فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من طلاع (ملء)
الأرض ذهباً [17] .
وقال سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاثة،.. وذكر منها:
نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق [18] .
وحمل أولئك المرجئة حديث عبد الله بن عمرو: (أربع من كن فيه كان ... منافقاً ... ) على المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث تلبسوا بهذه الخصال الأربع [19] .
وليس لهم أن يحتجوا بما أخرجه البخاري عن حذيفة (رضي الله عنه) ، حيث
قال: (إنما كان النفاق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأما اليوم فإنما هو
الكفر بعد الإيمان) ؛ حيث قال الحافظ ابن حجر (رحمه الله) : (والذي يظهر: أن
حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان
وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم
احتمال خلافه، وأما بعده: فمن أظهر شيئاً فإنه يؤخذ به ولا يترك لمصلحة التآلف
لعدم الاحتياج إلى ذلك) [20] .
وبالإضافة إلى ذلك: فقد نصّ حذيفة على وقوع النفاق بعد عهد النبوة في عدة
أقوال، ومن ذلك قوله (رضي الله عنه) : (المنافقون الذين فيكم شرّ من المنافقين
الذين كانوا على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: وكيف ذاك؟ ،
فقال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون) [21] .
وجاء رجل من المرجئة لأيوب السختياني، فقال: إنما هو الكفر والإيمان،
فقال أيوب: أرأيت قوله: [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ] [التوبة: 106] ، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب:
اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على ... نفسي! [22] .
ولعل هذا الأثر يكشف سبب إنكار أولئك المرجئة للنفاق، فهذا المرجئ ... يقول: -صلى الله عليه وسلم- إنما هو الكفر والإيمان، ومقصوده: أن الإيمان شيء واحد إذا ثبت بعضه ثبت جميعه، وإذا زال بعضه زال جميعه، فلا يجتمع عندهم في العبد إيمان وكفر أو نفاق أصغر، ولذا: احتج عليه أيوب بالآية الكريمة [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ..] فهذا صنف جمعوا بين إيمان ومعاصٍ، وخلطوا
عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأمْرهم إلى الله (تعالى) ، فليسوا من أهل الإيمان المطلق
التام، كما أنهم ليسوا كفاراً مطلقاً.
وقد غلط المرجئة في ذلك، فليس الإيمان شيئاً أو شعبة واحدة، بل إن
الإيمان شعب متعددة كما في حديث شعب الإيمان وكذلك الكفر والنفاق شعب متعددة.
ويدل على ذلك: ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: (ثلاث من كن فيه فهو منافق:
إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، فقال رجل: يا رسول الله،
ذهبت اثنتان، وبقيت واحدة؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن ... شيء) [23] .
قال الذهبي: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو
شعب ويزيد وينقص..) [24] .
وقال شيخ الإسلام: (وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب،
كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة..) [25] .
وأمر آخر، وهو: أن مقالة الكرامية، وهم من طوائف المرجئة، بأن
الإيمان: قول باللسان، قد تكون سبباً في إنكارهم النفاق ونفيه، فالمنافق عندهم
مؤمن، مع أن الله (تعالى) قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله (سبحانه) : [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ] [البقرة: 8] .
كما أن غلاة المرجئة الجهمية ومن تبعهم ينكرون الأعمال القلبية، فيخرجونها
عن مسمى الإيمان، فالإيمان عندهم معرفة أو تصديق بلا عمل قلبي.
وهذا لا يعدّ إيماناً صحيحاً ولا مقبولاً، فالتصديق بلا نية أو عمل قلبي ... نفاق [26] ، فجعلوا هذا التصديق هو الإيمان، وبطبيعة الحال سينكرون النفاق.. والله أعلم.
9- الموقف إزاء المنافقين:
أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين فيتمثل في جملة أمور، منها:
1- النهي عن موالاتهم والركون إليهم، كما قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنتُمْ
أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ... [آل عمران: 118، 119] .
2- زجرهم ووعظهم: لقوله (تعالى) : [أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: 63] .
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم، حيث قال (تعالى) : [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ
إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً] [النساء: 105- 107] .
4- جهادهم والغلظة عليهم: لقوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] [التوبة: 73] .
5- تحقيرهم وعدم تسويدهم: فعن بريدة بن الحصيب مرفوعاً: (لا تقولوا
للمنافق (سيّد) ، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم (عز وجل) [27] .
وكان حذيفة يؤيس (يحتقر) المنافقين [28] .
6- عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله (تعالى) : [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم
مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ] [التوبة: 84] .
10- تنبيهات مهمة:
ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:
أولاً: علينا أن نفرق بين المداهنة وهي من خصال المنافقين وشعب النفاق
والمداراة، فالمداهنة: مجاراة أهل الكفر والفسق في باطلهم، وأما المداراة فهي:
مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم، أو تأليفاً لقلوبهم.
فالمداهن صاحب تلون وتذبذب، ويَلْقى كل طائفة بما تهوى، كما في حديث
أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تجدون شر
الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء ... بوجه) [29] .
قال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ
هو متعلق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي
يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق
ومحض كذب) [30] .
فالمداهنة محرمة ومذمومة، بخلاف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، كما في حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عندما:
(استأذن رجل في الدخول على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (بئس أخو
العشيرة) فلما جلس تَطلّق له النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط له،
فسألته عائشة، فقال: يا عائشة متى عهدتيني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله: من
تَرَكه الناس مخافة فحشه) [31] .
وقد بيّن أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة، ومراد النبي -صلى الله
عليه وسلم- في مسلكه تجاه ذلك الرجل.. (قال القاضي عياض: الفرق بين
المداراة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدين، أو الدنيا، أو هما معاً،
وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي -
صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع
ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه
حسن عشرة) [32] .
وقال ابن بطال: (حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تَلَقّاه بالبشر
كان لتأليفه، أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم
يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح) [33] .
ثانياً: ينبغي أن نفرِّق بين النفاق وما يعرض القلب من الغفلة والتغير بعد
الخشوع والإخبات.
يقول ابن رجب: (لما تقرر عند الصحابة (رضي الله عنهم) أن النفاق هو
اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور
قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد
والأموال.. أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأُسيْديِّ أنه
مرّ بأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) (فقال: كيف أنت يا حنظلة، قلت: نافق
حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول، قال: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- عافسنا [اشتغلنا بـ] الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا
كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وأخبره حنظلة بحاله، فقال (عليه الصلاة والسلام) : (والذي نفسي
بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم،
ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) [34] .
وقال النووي: (وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن
يكون ذلك منافقاً، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس بنفاق، وأنهم لا
يكلفون الدوام على ذلك) [35] .
والمقصود: أن أمر النفاق شيء، والغفلة والذهول شيء آخر، حيث يرد
هذا التغير على القلب، لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة، فيستغفر العبد ربه
وينيب.
ثالثاً: أن نفرِّق بين قبول الحق من كل شخص سواءً أكان مؤمناً أو كافراً أو
منافقاً، وبين موالاة ذلك الشخص ومودته، فالمنافق إذا قال صواباً، فإنه يقبل هذا
الصواب منه، ومع ذلك فله واجب العداوة والبغضاء بحسب نفاقه، وفي المقابل:
فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق، وإن وقع في زلة أو عثرة، فلا يُوَافَق على
زلته وعثرته، لكن يبقى له حق الولاء والنصرة حسب إيمانه وتقواه.
كما قال معاذ بن جبل (رضي الله عنه) : (واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول
المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نوراً) [36] .
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق، وأن يختم لنا بالإيمان
وبالله التوفيق ,