مجله البيان (صفحة 236)

إسرائيل بعد أربعين سنة دولة مضطربة

إسرائيل بعد 40 سنة ...

دولة مضطربة

عن THصلى الله عليه وسلم Guardian Weekly (1/5/1988)

إعداد: قسم الترجمة بالمجلة

بلغت إسرائيل أربعين سنة من عمرها ولازالت في اضطراب وحيرة تشبه

حالتها عند قيامها.

لقد تمكنت إسرائيل من استيعاب ضعف السكان الأصليين من المهاجرين،

وحولت مساحات شاسعة من الصحراء إلى أرضٍ زراعية منتجة، وأنجزت

إنجازات هامة في مجالات الصناعة والزراعة، ويحق لها أن تفتخر بأعلى نسبة

من المثقفين القادرين على القراءة والكتابة؛ وبنسبة عالية من الكتب المنشورة

تضاهي أعلى النسب في العالم.

لكن الاحتفالات هذا العام ألغيت بسبب اعتذار الضيوف الأجانب عن الحضور

تحت تأثير الخوف أو الاشمئزاز من الانتفاضة الفلسطينية التي هزت أركان البلاد

منذ ديسمبر الماضي، وتصرف الحكومة تجاهها، من جهة أخرى فإن الإسرائيليين

أنفسهم لهم مشاغل أخرى.

إن سن الأربعين هو سن النضج، يعي فيه المرء هويته وحدوده، لكن الأمر

يختلف بالنسبة لإسرائيل، فجميع المسائل الأساسية المتعلقة بوجودها لا تزال دون

حل، وهي على الرغم من قدرتها العسكرية والاقتصادية لا يزال موضوع بقائها

هشاً معرضاً للخطر، فالإسرائيليون لا يعرفون بعد شكل وطبيعة الدولة التي

يعيشون فيها، وهم مختلفون على تحديد هويتهم، ومختلفون على من هو

«اليهودي» وإلى الآن لم يتفقوا على تحديد موقفهم من اليهود خارج إسرائيل، ومن

غير اليهود الذين يعيشون داخلها، وفي الوقت الذي يتفاخرون به باستقلالهم تراهم

يزداد اعتمادهم يوماً بعد يوم على قوة أجنبية هي الولايات المتحدة الأمريكية التي قد

لا تتفق مصالحها إلى الأبد مع مصالحهم، وقبل كل شيء؛ فإنهم - إلى الآن- لم

يجيبوا على السؤال المصيري: ما معنى حصولهم على دولة، وهل إسرائيل

حصن منيع يحتمي فيه اليهود من عالم معاد لا يرحم خلف جدران عالية مشحونة

بالأسلحة؟ ! أم إنها دولة مثل سائر الدول، لها سفارات، وحلفاء، وأصدقاء،

وأعداء، أي هي وطن يعيش فيه الشعب اليهودي كجزء من المجموعة الدولية؟

يقول الخبير في الشؤون السياسية شلومو أفنيري:

(لو سألتني عن رأيي لأخبرتك أن أبشع دور لعبته عداوة العرب الدائمة لنا

هو أنها شغلت إسرائيل - منذ وجودها - بالصراع من أجل البقاء حتى إننا لم نجد

من الوقت ما يساعدنا على اتخاذ قرار حول طبيعتها) .

لقد أطلقت الانتفاضة الفلسطينية شرارة جدل علني عنيف سوف يشتد في

الانتخابات المقبلة في شهر نوفمبر، وإن هذا الجدل ليس بين العرب واليهود بل هو

بين اليهود أنفسهم، ولم يعد الخلاف حول مصير الأراضي المحتلة إلا مسألة واحدة

من مسائل كبيرة.

أثناء الفترة التي ركزت وسائل الإعلام العالمية الانتباه فيها على الانتفاضتة

كانت أفضل المؤسسات في إسرائيل تعاني من أزمات بالغة الحدة، فالخدمات

الصحية تكاد تنهار تحت وطأة الإضرابات الطويلة المتتابعة التي يقوم بها الأطباء

والعاملون في الحقل الصحي، وكذلك الجامعة العبرية - وهي أفضل جامعة في

البلد - مهددة بالإفلاس، والمدارس الحكومية في تدهور مستمر بسبب قلة التمويل،

والكثير من الإسرائيليين يرون أن خطر البيروقراطيين وعجرفتهم يضاهي خطر

رماة الحجارة في غزة في تهديده للمعنويات العامة ولسلامة إسرائيل.

وتعاني إسرائيل كذلك من أزمة قيادة؛ فقد انتهى جيل دافيد بن غوريون،

وغولدا مائير، وموشى دايان، ومناحيم بيغن، وزعماء إسرائيل الحاليون أصغر

حجماً وأقل تأثيراً.

يقول الفيلسوف اليهودي دافيد هارتمان:

(لابد أن تعود أربعون سنة علينا بشيء من مبادئ الحكمة، لقد انتهت فترة

المراهقة لدينا ... لقد كانت لنا آمال صباً كبيرة مثل حرب الأيام الستة والضربات

الساحقة في لبنان، ولكن الصراع الآن هو بين سياسة قائمة على الرعب النابع من

أزمة نفسية من جهة وبين سياسة التعقل من جهة أخرى إن الناس بحاجة لتزعامة،

ولكن البلاد لا تزال محكومة بعقلية الأحياء والحارات، ولا يزال الساسة ضيقي

الأفق، ومن الصعوبة بمكان العثور على شخص قادر عن التعبير عن رؤية قومية

حقة) .

لقد كان الصهاينة الأوائل يتوقون إلى تكوين دولة يهودية، على غرار

سويسرا تكون صغيرة ومحايدة وهادئة، فقد كتب ثيودور هرتزل مؤسس الحركة

الصهيونية عام 1896 يقول:

إننا كيهود سوف نعيش: أحراراً على أرضنا، وسنموت في سلام في بيوتنا، وسيتحرر العالم بحريتنا، وسيستغني بمالنا، وسيرتفع بعظمتنا، وإن أي عمل نقوم به هناك لمصلحتنا الخاصة سينعكس على بقية العالم خيراً وبركة

وسيكون له مردود قوي.

كانت تلك أحلاماً وردية، إلا أنها لم تحسب حساب أمرين مشؤومين غيرا

وجه الصهيونية [1] :

أولاً: كان الهولوكست الذي أجبر الصهاينة على استبدال تصورهم لدولة

مثالية مؤلفة من نخبة من الرواد بخطة عملية تستهدف إعادة إسكان مئات الألوف

من اللاجئين في وقت قصير.

ثانياً: كان هناك عداء السكان العرب في فلسطين وفي الدول المجاورة لما

يسمى الآن إسرائيل، وهو عداء لا يروض ولا يستكين، فقليل من الصهاينة من

استطاع إدراك مشكلة العرب، فأنصار الصهيونية الأوائل تصوروا أن العرب

سرعان ما سيقبلون بالحضور اليهودي في فلسطين، وسيرحبون بالامتيازات

الاقتصادية التي ستنجم عن ذلك، حتى عندما خاضوا حرب الاستقلال ضد خمسة

جيوش عربية سنة 1948 فإن أغلب الإسرائيليين - حسب رأي شلومو أفنيري -

توقعوا أنه بمجرد انتهاء الحرب سوف يقبل جيرانهم العرب بالأمر الواقع [2] لكن

هذا لم يحصل، فقد ولدت إسرائيل في حلبة الصراع ولما تخرج من هذه الحلبة منذ

ولادتها، فحتى الآن يتحدى الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع

غزة بالحجارة والزجاجات الحارقة، ولكن حتى الآن لا يوجد بديل سياسي مقنع

يضمن في الوقت نفسه حق إسرائيل في الوجود ويلبي مطالب الفلسطينيين في

الحصول على وطن. فعقلية الذي يعيش تحت الحصار؛ والحساسية المفرطة تجاه

الأمن؛ والخوف من هؤلاء الذين لا يعترفون بحقك في الوجود، ويسعون بكل

الطرق إلى تدميرك؛ ... كل هذا لا يزال جزءاً من كابوس يجثم على صدر كل

إسرائيلي.

لقد أخطأ الصهاينة الأوائل التقدير في شيء آخر كذلك، فقد توقع الكثير منهم

أنه بمجرد قيام الدولة اليهودية فإن يهود الشتات سيتقاطرون من كل الأنحاء على

«أرض الميعاد» طائعين، ولكن أغلب الذين عادوا فعلاً خلال السنين الماضية كانوا

لاجئين، فيهود الغرب الأثرياء ظلوا بعيداً، حيث إن قيام إسرائيل قد ضاعف من

نفوذ الكثير منهم سياسياً، ومن ثقتهم بأنفسهم في الدول التي يقيمون فيها، وقلل من

رغبتهم في المجيء إلى إسرائيل الأمر الذي يثير التوتر والغضب بين شقي اليهود

الإسرائيليين والأميركيين وهى مشاعر مشحونة تطفوا أحياناً على السطح بين الفينة

والأخرى يعجب المرء لحدتها، كالتراشق الذي احتدم حول قضية الجاسوس

(بولارد) أو سياسة القبضة الحديدية التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي المحتلة.

إن أمة تعيش في سلام قد تجد من المفيد أن يكون جزء من أبنائها خارجها،

يعملون في تقوية وتحسين مركزها خاصة إذا كانوا كجاليات تتمتع بنفوذ لكن بالنسبة

لدولة صغيرة تعيش تحت الحصار فإنها بحاجة إلى تجميع كل قواتها داخل جدرانها. يقول المؤرخ الأمريكي آرثر هيرتزبرغ:

(مهما كانت لباقة الإسرائيليين فإنهم لم يتخلوا أبداً عن المبدأ الذي اختطه)

ابن غوريون بكل فظاظة بقوله: إن اليهودي الحق هو من يعش في إسرائيل

فقط.

إن الحصار الدائم الذي تعيشه إسرائيل أوقف نموها في مجالات مهمة أخرى،

فالكثير من المؤسسات الاجتماعية الفريدة في البلاد مثل الجيش المدني والكيبوتسات،

والهستدروت، وبرامج الصحة والخدمات الاجتماعية، قد أنشئت قبل قيام

إسرائيل، وقد تلاشت الروح الاشتراكية التي قامت عليها هذه المؤسسات إذ أن

الدولة نفسها تكافح من أجل البقاء.

لمدة طويلة كان يكفي لهذه المؤسسات لكي تزدهر الدافع الخاص باليهود للعودة

إلى وطنهم الموعود.. والحياة الحرة في مجتمع يهودي خالص لكن في السنوات

الأخيرة ركدت هذه المؤسسات الأساسية، ومثاليتها تآكلت في ظل التهرب من

الحلول على الصعيد السياسي، ومن جراء التضخم المالي في أواخر السبعينات

وأوائل الثمانينات.

المزارع الجماعية تحتاج إلى تمويل ضخم من الحكومة لتبقى على قيد الحياة،

والهستدروت والخدمات الصحية والاجتماعية أصبحت إمبراطوريات مفضوحة

للتبذير والفساد، حتى حزب العمل الذي أسسه بن غوريون والذي كان قوة سياسية

متحركة أدركه الهرم، وقد فشل تحالف حزب العمل اليساري والليكود اليميني في

مواجهة هذه الأزمات الداخلية.

الانحرافات أعاقت السياسة الإسرائيلية، وقيدت الزعامة الإسرائيلية بتحالفات

أعاقت قدرتهم على اتخاذ القرار وأعطت للأحزاب الصغيرة نفوذاً يتجاوز حجمها

الطبيعي، لأنها كثيراً ما تمكنت من تركيع الحكومة بانسحابها من التحالف. إن

انتخابات 1984 تمخضت عن شلل أخير وأجبرت حزبي العمل والليكود على

التناوب على رئاسة الوزراء بين «بيريز» وخصمه السياسي اللدود «إسحاق

شامير» .

يقول جاد يعقوبي:

إنها حكومة ذات رأسين تعاني من انفصام الشخصية وهى عاجزة عن اتخاذ

قرارات مصيرية بسبب الطريق المسدود الذي وصلته، حتى لو كان بيغن أو بن

غوريون رئيساً للوزارء الآن فإنهما سيعانيان من نفس المشكلة.

قريباً سيكون على الناخبين أن يختاروا، وهذه المرة ستأتي الانتخابات بعد

الانسحاب من لبنان وحل المشكلة الاقتصادية في إسرائيل، وستكون الفروق أكثر

وضوحاً بين الأحزاب والبرامج اكثر واقعية. وقد يحاول السياسيون أن يرقعوا

الاختلافات بينهم مرة أخرى ولكن سوف تكون وراءهم أصوات أخرى تتحدث عن

الفروق الحقيقية.

ويعتبر الياكيم هيتسني المؤرخ والمنظر لحركة الاستيطان اليهودي في الضفة

الغربية: أن اليهود كانوا دائماً متميزين عن بقية العالم، إذ كانوا يعانون دائماً من

خليط من السحر واللعنة، نحن قوم كنا ولا نزال تحت رحمة القدر نؤمن بإله واحد

لا يرى، ولذلك اضطررنا لبناء جدران حولنا والبقاء في حالة استنفار قصوى ليل

نهار. كنا مجبرين على العيش في الجبال لا في السهول، حتى أننا خضنا غمار

حرب أهلية منذ ألفي سنة كانت بين من يريدون التفرد ومن لهم نزعة عالمية.

بالنسبة لنا يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ليست مجرد قطعة أرض وإنما هي

ساحة صراع. يدور عليها قتال دائم من أجل تأكيد هويتنا.

ويرى هيتسني أنه يجب على إسرائيل عدم التخلي عن الضفة الغربية إذا

أرادت الاحتفاظ بشخصيتها اليهودية.

أما يهوشافاط هاركابي الرئيس السابق للمخابرات العسكرية وأستاذ العلاقات

الدولية فيرى أنه للسبب نفسه يجب التخلي عن الضفة الغربية، فقد قال: «نحن

لا نستطيع أن نحارب العالم بأسره، ولا نستطيع التقوقع على أنفسنا أيضاً، فمما لا

خلاف عليه أن هذا البلد سيبقى صغيراً حتى في حالة إلحاق الضفة الغربية كاملة به، وقد نستطيع أن نبقى أحياء داخل حدود غير آمنة ولكننا لا نستطيع أن نستمر

كدولة يهودية إذا كان نصف شعبنا عازماً على محقنا، نحن بين أمرين أحلاهما مر

ولذلك يجب علينا اختيار الأقل سوءا ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015