قصة قصيرة
بقلم: خالد أبو الفتوح
امتطيت خيالي، عسى أن يقودني إلى واقعي، شحذت قلمي، وتوجهت
لحضور وقائع الجلسة، ولأن الموقع كان (شديد الحراسة) ؛ فقد استعملت سلاحاً
فعّالاً في التعامل مع هذه الحالة، وهو سلاح (الوضوء) ، كما إنني تحصنت بـ
(آية الكرسي، والمعوذات) .. وبعد ضروب من المناورات والمغامرات: تمكنت
من اتخاذ ساتر في إحدى الزوايا مرصداً لي؛ لمتابعة ما يجري..
حبست أنفاسي، أرهفت سمعي، وأطرقت رأسي، محاولاً لمح ما استطيعه
بطرف بصري..
قاعة كبيرة، يغلب عليها مظاهر البذخ والترف، يتصاعد من جنباتها دخان
أسود، ولأمرٍ ما فإن الإضاءة كانت تقتصر على مشاعل من نار علقت على الأعمدة
التي بدت كأعمدة المعابد الرومانية.. كان الحضور (الأباليس الصغار) يجلسون
على مقاعد وثيرة، حتى كأن الجالس عليها يبدو متكئاً، كما أن الضوء والظل كان
دقيقاً، بحيث يجلس كل عضو نصفه في الضوء والنصف الآخر في الظل..
الكرسي الإبليسي يبدو أنه مصنوع من حوض زجاجي ممتلئ بالماء، يعلوه شعار
دولته، استطعت لمح الحية والشمس من مكوناته، يضيء الشعار شعلة نار كبيرة،
ذكرتني بشعلة تمثال الحرية الشهير دائمة الاشتعال، أو شعلة الألعاب الأوليمبية..
فجأة.. انقطعت همهمات الحضور، وأخذوا في الوقوف.. دوّت في القاعة
أصوات موسيقية.. سددت آذاني بأصابعي، وظللت أرقب الموقف.. فإذا بإبليس
يدخل القاعة في مَخْيَلة وعنجهية وكبر، يلاحقه جمع كبير من المصورين، بينما
يفسح له حراسه الشخصيون الطريق.. شق طريقه وسط تصفيق الأباليس الصغار
وصفيرهم.. أخذ مكانه على كرسيه المائي، ثم أخذ الحضور في الجلوس.. رفعت
أصابعي عن آذاني.. صمت مطبق يخيم على (المجلس الإبليسي) ، خشيت معه أن
تُسمع دقات قلبي، ولكني استعنت بالله..
بدد إبليس مخاوفي من افتضاح أمري، حيث بدأ جلبةً مفتتحاً الجلسة:
باسم الذات نبدأ الجلسة.. أيها الأباليس.. يا شياطين الجن والأنس.. لقد
مر العمل الإبليسي بمراحل..
أحد الأباليس الصغار من وسط القاعة يقف مقاطعاً وهاتفاً:
عاش مؤسس الإمبراطورية الشيطانية.. باسم جميع الأبالسة والشياطين
نجدد الولاء والفداء.
إبليس: لقد مر عملنا بمراحل عديدة، وبذلنا جهوداً مضنية، حتى وصلنا
إلى نتائج مرضية، ولكنها لا تكفي لإشباع رغباتنا، وتحقيق أهدافنا..
إن النكسة التي لحقتنا عندما بُعث خاتم النبيين، بعد كبير نجاحنا في نشر
الشرك والفساد، تكاد تتكرر مرة أخرى الآن بخروج أتباع صادقين لهذا النبي من
جديد، يحاولون تطبيق ما دعا إليه.. لقد سبق أن قلت لكم: إنني لا أخشى
الاشتراكية والصعاليك المرتزقين منها، ولا الرأسمالية والأباطرة المنتفعين بها،
وقد تمكنا من يهود وعبدة المسيح، وأصبح عبدتي وأتباعي ينتشرون في أطناب
الأرض ... لم تبق إلا هذه الأمة، التي كلما أوشكت أن أتمكن منها استعصت عليّ
وأفلتت من يدي..
سنضرب بيد من حديد على هؤلاء الشرذمة الذين يعملون على إفاقة البشرية
ويحذرونها منا.. لم تبق إلا قفزة واحدة.. قفزة واحدة وأحقق أهدافي، لن أدعهم
يفسدون سلطاني..
ولكني الآن أرغب في الاطمئنان عليكم.. سأسمع منكم، ولتستفيدوا من
بعضكم، ليبدأ (جونليس) ..
يقف أقرب الأبالسة الصغار إليه من جهة اليسار، يرتب هندامه في ثقة،
ويبدأ الكلام:
سيدي الرئيس، لقد كنا وما زلنا نركز على هدم البنية التحتية للإنسانية،
وذلك بالعمل على القضاء على الأسرة، وكان ذلك يتم عادة بالتحريش بين الزوجين
حتى يقع الطلاق، ولكني اتبعت منذ فترة تكتيكاً جديداً، وهو التركيز على
(العمليات الكبيرة) ، فبدل أن أهدم المجتمع أسرةً أسرة عملت على نسف هذا الشكل
الاجتماعي من أساسه، وذلك بعقد المؤتمرات والندوات للتنفير من هذا الشكل،
والدعوة إلى ذلك، بل إلزام جميع الأنظمة التابعة لنا بالعمل لذلك، وقد أثمرت هذه
العمليات في معظم البشر، عدا الأمة التي حذر فخامتكم منها.. فأرى تعميم هذا
الأسلوب والتركيز عليه.
إبليجور: أوافق (جونليس) على رأيه؛ فبدل الاقتصار على غانية تغوي
فرداً أو مجموعة: يمكننا نشر الرذيلة في هذه الأمة على نطاق واسع عن طريق
العمليات الكبيرة: بَثّ إباحي يصل إلى كل بيت، صور فاضحة لمن يملك ثمن
جريدة أو مجلة، أدوات زينة رخيصة، ثم بالعمليات الكبيرة أيضاً نصعِّب الفضيلة: أزمة إسكان، غلاء مهور ...
ويمكننا على هذا النسق إغراق الشعوب في الديون؛ لتذل لنا رقاب الأمة
بأكملها، ونستطيع قيادها.. كما يمكننا بهذه العمليات إثارة القلاقل والفتن؛ لتفتيت
القوى الكبيرة فيها واستنزافها..
ولكن تبقى الشرذمة التي حذرتم منها سيادة الرئيس هي العائق أمامنا.
إبليس: وماذا ترون في أمرها؟ .
إبلينوف: أرى فخامة الرئيس اتباع أسلوب (النّفَس الطويل) مع سياسة
تجفيف المنابع التي بدأتها منذ وقت بعيد، حيث ستنتهي هذه الشرذمة مع الزمن،
ولا يخرج غيرهم بعد تجفيف المنابع.
إبليس: مع أهمية ما ذكرت يا إبلينوف، ولكن الاكتفاء بذلك يُعد سذاجة.
زيزاليس: سيدي ومعلمي.. لقد فكرت في الأمر جيداً، فاستقر رأيي على
خطة، أقطع بأنها أفضل السبل، وقد اقتفيت فيها معلمي أثر تجربتك مع أبي البشر.. والخطة مزيج من سياسة الغرور وسياسة الخطوة خطوة، وتقضي بأن نُبقي
بعض المظاهر الخادعة لهم؛ ليغتروا بها، ونعمل على الإفساد من الداخل خطوة
خطوة، فيسكنون لهذا المظهر ولايقاوموننا، وخطوة خطوة أيضاً يألفون ما ألقيناه
إليهم..
فمثلاً: ندعهم يُصلّون في الظاهر، وباطنهم يعبد الشهوات، ونحرص على
اكتفائهم بمظاهر احتشام نسائهم، وفي المقابل: نعمل على أن يكنّ مثل نسائنا في
الباطن، كما يمكن أن نلهيهم عن محاربة اتِّبَاعِ فخامتكم بإقامة احتفالات ومظاهر
دينية.. وحتى.. وحتى محاربة صور محدودة من الشرك الصغير..
إبليس (مقاطعاً وغاضباً) : لا.. لا.. كفى يا زيزا.. لا أريد أن أسمع هذا
الكلام.. اجلسي يا زيزاليس.. لا أريد أن يُحارب الشرك في أي صورة مهما
صغرت.. لا بد أن تعلموا جميعاً أننا الآن في مركز قوة، وعدونا في أضعف
حالاته، ولا بد أن ننتهز الفرصة..
إن ما ذكرتيه أسلوب صحيح، ولكنه ليس الأسلوب الوحيد..
أريد حلاً للإجهاز على الفريسة ...
هالني ما يضمرونه، بل يظهرونه، أخذت أهدئ من روعي بقراءة آية
الكرسي والمعوذات مرة أخرى..
ما زال إبليس يواصل كلامه.. ثم سكت.. وتابع..
إبليس (ضاغطاً على النبرات) : هناك شيءٌ ما غيْرُ مريح يحدث في هذه
القاعة.. ما الذي يجري بيننا؟ ! ..
أدركت أنه آن أوان عودتي من (برلمان إبليس) ، خصوصاً وقد أشرف الفجر
على الدخول، لممت شتاتي، وشرعت أبحث عن مسلك للعودة، مكتفياً بما وقفت
عليه من دخائلهم..
ولكن.. لم ترفع الجلسة..