البيان الأدبي.. دراسات أدبية
معالم على طريق الأدب الإسلامي..
المرجعية التعبيرية والتصويرية والدلالية
(2 من 3)
بقلم: طاهر العتباني
قدم الكاتب في الحلقة الأولى تفصيلاً المعايير والأسس التي بنى عليها متبنو
مصطلح (الأدب الإسلامي) مقومات قبوله ووجوده، ثم بدأ بإلقاء الضوء على بعض قضايا الأدب من منظور إسلامي، معالجاً قضايا: التنظير والنموذج، والشكل والمضمون، ويواصل في هذه الحلقة معالجة قضايا أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
لا شك أن كل عملٍ أدبي ينتمي إلى فكر معين أو تصور محدد يحمل في
مضامينه ونسيجه الداخلي سماتِ هذا الفكر وذلك التصور الذي ينتمي إليه، لا
مجرد الفكرة التي يعبر عنها والدلالات التي يشير إليها.
ولقد رأينا كيف أن النموذج الغربي في القصيدة والقصة والمسرحية والرواية
حمل إلى جانب الفكرة التي يحملها والدلالة التي يعبر عنها ويريد إيصالها للقارئ،
حمل معها إلى جانب ذلك في نسيجه الداخلي من أدوات التعبير المختلفة من
الاستعارات والمجازات والصور التعبيرية.. قسطاً وفيراً من الصور والمجازات
والإشارات التي تضرب في عمق التاريخ الغربي منذ العهد اليوناني وحتى العهد
الروماني النصراني، وتمتح من قيمه التاريخية والفلسفية والمثيولوجية.
لقد رأينا كيف أن (الفردوس المفقود) (لميلتون) ، و (كوميديا) دانتي،
ومسرحيات شكسبير، والشعر الرومانسي ... وغير ذلك، رأينا كيف حملت هذه
الأعمال الأدبية الكبرى روحاً نصرانية، واتخذت من الكتاب المقدس (الأسفار
والأناجيل المحرفة) ، وكذلك التاريخ الأوروبي منذ العهد اليوناني بأساطيره وآلهته
المتعددة، التي مثلت العقائد الوثنية في ذلك العهد.. إطاراً مرجعيّاً انطلقت منه، لا
في موضوعات هذه الأعمال فحسب، بل كذلك في بنائها الداخلي وصورها
التعبيرية مما يمكن أن نسمّيه: المرجعية التعبيرية، والتصويرية، والدلالية.
ثم انتقل هذا التأثير إلى الأدب العربي المعاصر، فوجدنا الشعراء
والمسرحيين والروائيين يعتمدون كما اعتمد أولئك الغربيون على التاريخ اليوناني
بأساطيره ووثنياته، وكذلك التاريخ الروماني والأوروبي بماديته، بشكل عام،
كمرجعية تعبيرية وتصويرية ودلالية، فشاع في الشعر العربي المعاصر استخدام
الأسطورة للتعبير عن الفكرة وتصوير القضية التي يراد طرحها على المتلقي.
وكمثال مبكر على ما نقول: يمكن مراجعة بعض قصائد الشابي، وعلي
محمود طه، وعبد الرحمن شكري.. على سبيل المثال، لنرى كيف استخدم هؤلاء
هذه الأساطير في أشعارهم منذ وقتٍ مبكر.
فعند علي محمود طه مثلاً نرى كيف سيطر عليه جو الأسطورة اليونانية مما
ذكر طرفاً منه في مقدمة ديوانه (أرواح وأشباح) .
وفي الأعمال المسرحية المبكرة رأينا كيف اتخذ توفيق الحكيم من أسطورة
(جالاتيا) و (بجماليون) مرجعية تعبيرية، ودلالية لعرض فكرة قلق الفنان أو ...
الأديب إزاء فنه، وكذلك غيرها من مسرحياته.
ثم ما انتصف القرن الحالي حتى شاع هذا الأمر في أدب الشعراء والكتاب
والمسرحيين والروائيين العرب، وأصبح شعر ما بعد العقد السادس من هذا القرن
إلى يومنا هذا تهيمن على صوره ومرجعيته التعبيرية أساطير اليونان والرومان
وتاريخهم، وكذلك أساطير الفترات السابقة للعصر الإسلامي، كأساطير بلاد
الرافدين والآشوريين والفراعنة.. وغيرها من الفترات التي انقطعت حضاريّاً بعد
ظهور الإسلام، مثل أسطورة (عشتار) في العراق، وأمثالها في العصر
الفرعوني، كقصة (إيزيس وأوزوريس) الفرعونية.. وغيرها.
كل هذا سيطر على الأدب العربي المعاصر، وأصبح يشكل مرجعيته
التعبيرية والتصويرية والدلالية.
ونذكر على سبيل المثال عدداً من أولئك الذين شاع في شعرهم الاتكاء على
مثل ذلك من أساطير ووثنيات وميثولوجيات كإطار مرجعي وتعبيري للصورة،
والدلالة، بل والفكر.
من هؤلاء: السياب، ونازك، والبياتي من العراق، وما تلاهم من أجيال
الحداثة، وفي مصر: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وبعض
أشعار أمل دنقل، وفي سوريا وبلاد الشام: أدونيس، ومحمود درويش، وسعيد
عقل، ونزار قباني.. وغيرهم، وفي السودان: محمد الفيتوري وغيره.
ولم يعد الأمر يقتصر على الاستعانة في التعبير بعناصر مستمدة من هذه
الأساطير وما تدور حوله من الحديث حول الآلهة! وصراعها مع بعضها ومع بني
البشر، بل إن الأمر تعدى ذلك كله لتصبح الأفكار النصرانية كفكرة الخطيئة
والصلب وفكرة الخلاص، والاستهزاء بلفظ الإله فَيَرِدُ في أي سياق وفي أي نمط
تعبيري يقضي على قداسة هذه الكلمة ومفهومها في فكر المسلم وعقيدته، أصبح كل
ذلك أدوات تعبيرية وتصويرية، حتى لقد وصل الأمر بأحد نقاد الحداثة أن يقول:
(الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر
المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة أو اللغة المؤسساتية أو الفكر الديني،
وكون الله مركز الوجود، الحداثة انقطاع لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر
والفكر العلماني، وكون الإنسان مركز الوجود.
الحداثة ليست انقطاعاً نسبيّاً فقط، بل هي أعنف شرخٍ يضرب الثقافة العربية
في تاريخها الطويل، ليس في الثقافة العربية ما يعادل هذا الانشراخ المعرفي
والروحي والشعوري الذي يكاد يكون انبتاتاً لا انقطاعاً وانفصالاً عن الجذور، لا
يبقى فيه من رابط سوى اللغة بأكثر دلالتها أوليةً، أي بكونها قاموساً مشتركاً
للتواصل) [1] .
هذه هي الصورة التي وصل إليها فكر الحداثيين وتصورهم الفني والأدبي
والمعرفي لتراثنا وتاريخنا وفكرنا الإسلامي واللغة العربية التي هي الوعاء الذي
يحمل ذلك كله، ولقد جاء شعر الحداثيين مؤازراً لهذه التصورات مُطَبِّقاً لها،
وأصبح الاستهزاء بكل ما يرمز إلى الإسلام والدين في نفوس أبناء الأمة هدفاً رئيساً
لكتابات الحداثيين:
يقول عبد المنعم رمضان وهو من أجيال الحداثة المصرية في العقد الثامن في
ديوان له بعنوان (الغبار) ، يقول تحت عنوان (جسد) :
جسد يدخل في جسدٍ
يتوالد هذا الرحم الواضح مثل الأرض
يصير مساحة أغرابٍ أخرى تتحاذى
والناس هنا يمشون على الأعشاب
الناس هنا يقصون الله (!)
عن الجمرات الدافئة المسكونة
الناس هنا أوردةٌ
تطفو ساعة يطلق فيها
اليشمك والجنيّ وبارحة النسيان [2]
وأستطيع أن أقول: إن هذا الديوان وأمثاله كثير يكاد يغص بمثل هذه
الترهات والأباطيل، التي أعجب كيف تسمى شعراً؟ ! ، وكيف تنشرها مؤسسات
فكرية وثقافية رسمية في بلادنا؟ [3] .
ويمكن مراجعة دواوين وإصدارات وقصائد كلٍّ من رفعت سلام، وحلمي ... سالم، وحسن طلب، ومحمد أبو دومة.. لنقف على كثير من الغثاء، والشذوذ، والانحراف الفكري والفني.
كما يمكن مراجعة ما تنشره حالياً مجلة (إبداع) المصرية وغيرها من المجلات
الأدبية المتخصصة في أقطار العالم العربي.
ما الدور المطلوب:
ماذا على الشاعر المسلم والروائي المسلم والمسرحي إزاء ذلك كله؟ .
إن على الأديب المسلم مهمةً مضاعفةً في عمله الفني، إن عليه أن يمتد
ببصره وبصيرته الفنية إلى مصادره المعرفية والثقافية الإسلامية، وأولها: القرآن، وثانيها: السنة، وثالثها: تاريخ الإسلام وسير عظمائه وأبطاله ووقائعه وأحداثه؛
ليتخذ من هذا كله وسيلةً تعبيرية ومرجعية دلالية، بحيث يستوحي ذلك كله
ويستلهمه في أعماله الأدبية، فبلاغة القرآن، وصوره، وتعابيره، وقصصه، وما
يدخل في تضاعيف ذلك كله: يجب أن يستثمره الشاعر والأديب لكي يبني نسيج
عمله الأدبي الداخلي، ويرسم صوره واستعاراته ومجازاته ووسائله التعبيرية داخل
عمله الأدبي من خلال ذلك كله، فيصبح العمل الأدبي من أي النواحي أتيتَه عملاً
إسلاميّاً، إذا درسته فكريّاً: طالعتك مفاهيم الإسلام وعقائده وتصوراته للكون
والحياة والإنسان، وإذا درسته فنيّاً وتعبيريّاً: طالعتك روح القرآن والسنة
وتعبيراتهما ومجازاتهما وأساليبهما التعبيرية والدلالية [4] .
ففي ديوان (نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني) [5] يستعمل الشاعر
الفلسطيني محمود مفلح صور القرآن ودلالالته وصور السنة النبوية والسيرة
والتاريخ الإسلامي كخطوط أساسية للصورة الشعرية، ولقد استطاع باقتدار أن
يجعل نسيج القصيدة وبناءها الداخلي ينطق كما ينطق مضمونها وموضوعها بسَمْتِها
الإسلامي الأصيل.
وفي قصيدة (قال الهدهد) للشاعر نصار عبد الله استلهام جميل لقصة (هدهد
سليمان) في التعبير عن واقع العالم العربي اليوم، يقول الشاعر نصار عبد الله في
(قال الهدهد) :
قال الهدهد:
في كل زمانٍ عاش سليمان
وسليمان الآن
يسألني في بعض الأحيان
عن نبأٍ من سبأٍ
أو ما يشبهُ سبأً
فأقول له:
إني من كل مكانٍ أحمل نبأ
إني شاهدت بلاداً يحكمها أفاقون وكذابون
ولصوصٌ محتالون وسفاحون
وذبّاحون هَداهِدَهمْ
ومُوَلّون محاريب معابدهمْ
نحو موائدهم
ومصلون لم يسمع أحد منهم عن ملك سليمان [6] .
والقصيدة بطولها في ديوان الشاعر (قصائد للصغار والكبار) .
وفي قصيدة (القدس حين تغيب عن موكب الهجرة) للشاعر أسامة عبد الرحمن
استلهام رائع للتاريخ الإسلامي في الصور والتعبيرات والدلالات، يقول الشاعر في
قصيدته تلك:
على صعيدك من وهج البراق سنا ... يكاد يخترق المكسيك والصينا
أكاد ألمح فيك وقع حافرهُ.. ... أكاد أسمع همسات النبيينا
أكاد في الحرم الأقصى وساحَته ... أرى النبي وقد أمّ الممصلينا [7]
وفي قصيدة (لو تقرئين صحائفي) يقول أسامة عبد الرحمن أيضاً:
ما بال خيل بني (أمية) أجفلت ... ما بالها نكصت على الأعقابِ
ما بال صقر قريش داهمه الأسى ... كالليل حتى صار مثل غرابِ
ما بال «حلق» أقفرت جناتها ... وخلت من الأطيار والأطيابِ
ما بال قاهرة المعزِّ تسربلتْ ... بالذل فوق شواطئٍ وروابي
ما بال تاريخي الطويل تمكنت ... منه سموم الرجف المرتابِ [8]
إن بإمكان الشاعر المسلم، والروائي المسلم، والقصاص والمسرحي المسلم.. أن يستعينوا بهذا التراث والتاريخ كله ليفجر من خلال استلهامه له أعمق الصور
تأثيراً، وأعظم القيم التعبيرية جمالاً، في إطار الرؤية الإسلامية للأدب.
ومن يطالع (قاتل حمزة) و (عمر يظهر في القدس) من الأعمال
الروائية لنجيب الكيلاني، وكذلك من يطالع مسرحيات علي أحمد باكثير: يجد
كيف استفاد هؤلاء من الصور القرآنية والتاريخ الإسلامي في نسيج وبناء العمل
الأدبي شعراً، ومسرحية، وقصة، وروايةً.
وإذا كان الشاعر الحداثي المعاصر قد استعمل أيضاً التراث العربي والتاريخ
الإسلامي، بل والتناص مع نصوص القرآن والسنة، فإن الملاحظ كذلك على ما
استعمل من ذلك كله أنه اقتصر في مجال التاريخ الإسلامي والتراث العربي على
الشواذ من هذا التاريخ والتراث، ممن عرفوا بأفكار شاذة أو آراء متناقضة مع
العقيدة الإسلامية:
فالحلاج، وابن عربي، وإخوان الصفا، وغلاة الباطنيين.. وغيرهم ممن
عُرفوا بالشذوذ الفكري أو الأخلاقي عبر تاريخنا المشرق المضيء يصبحون في
أعمال المعاصرين من الشعراء والمسرحيين والروائيين، أبطالاً ونماذج.
كذلك أسيء فهم مواقف كثير من عظماء هذا التاريخ في أعمال المعاصرين
الأدبية، وتم تفسيرها تفسيراً مناقضاً للفكر الإسلامي الصحيح والتصور الإسلامي
القويم، أو تم الاعتماد على الروايات الضعيفة والمكذوبة فيما يتعلق بأخبارهم
ومواقفهم.
ففي مسرحيته (الرجل المجهول) لعز الدين إسماعيل: يصور الخلاف الذي
وقع بين عثمان بن عفان وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنهما) صراعاً على المال
والسلطان، وهذا افتراء وتزوير.
وفي مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور: يجعل الشاعر (الحلاج) أحد أبطال التاريخ الإسلامي، رغم ما ثبت من قوله بفكرة (الحلول والاتحاد)
التي تناقض عقيدة الإسلام الصحيحة، ويعتمد المؤلف فيها على كتاب عن الحلاج
كتبه المستشرق الغربي الفرنسي (لوي ماسينيون) [9] .
وكذلك من الحداثيين المعاصرين (مهدي بندق) في مسرحيته (غيلان
الدمشقي) ، التي استهزأ فيها بمواقف رجل من التابعين هو (رجاء بن حيوة)
الذي قيل فيه: (برجاء بن حيوة وأمثاله نُنْصَر) [10] ، كما سخر من الحجاب
الإسلامي في جرأةٍ عجيبة وتطاولٍ غريب.. ولا تزال هذه النماذج تملأ مكتباتنا
ومؤسساتنا الثقافية يوماً بعد يوم.
إن على الأديب المسلم أن يقف موقف المدافع والمصحح لذلك كله؛ إذ عليه
وهو ينسج عمله الأدبي شعراً كان أو قصةً أو روايةً أو مسرحية أن يكون القرآن
الكريم والسنة المطهرة ومواقف التاريخ الإسلامي والتراث العربي حاضرة في
وجدانه، يختار منها ما يناسب موضوعه وقضيته التي يطرحها في عمله الأدبي،
كما أن عليه أن يعي دلالات الصور القرآنية، ودلالات القصص القرآني،
فيستخدمها الاستخدام الذي يترك الأثر الإسلامي المطلوب، أو على الأقل: الأثر
الذي لا يتناقض مع التصور الإسلامي في نهاية الأمر.
ولقد استعمل الحداثيون الصورة القرآنية، والتعبير القرآني، ولكنهم حين
عكسوا دلالالتها وصورها، وقلبوا معانيها في كتاباتهم إلى معاني مناقضة للتصور
الإسلامي: تركوا بها في نفس القارئ أثراً غير حميد، ومعنًى يناقض ما سيقت له
في سياقها القرآني، ومن ذلك: ما يقوله عبد المنعم رمضان تحت عنوان ... (الرسوله / 2) [11] :
(إني أشتاق إلى شجر الزقوم، وأحسب نفسي امرأةً حين أمرر رجلي فوق
شواظٍ من نارٍ ونحاس، أنفذ من أقطار الأرض بسلطاني، وأمر إلى آنيتي، أشرب
شرب الهيم، وأفرد جسمي فوق فراشٍ من عهن منفوش، لا يألفه غيْري، فتباركت
تباركت، التف على جسمي بذراعيك، وآكلني من شجر الحنطة؛ حتى نعلم أنا
عريانان، تفوح لنا رائحةٌ، وبأوراق التين تغطيني وتغطي نفسك) .
وهكذا أصبح هذا الهوس غير الواعي، والهرطقة غير المحكومة بأي قانون
لغوي أو فني.. هي الشائعة فيما يُكتب اليوم.
إن على الأديب المسلم أن يصوغَ عقل قارئه من خلال تأكيد المعاني القرآنية
والصور والدلالات الإسلامية، وإبراز الجوانب المشرقة في التاريخ الإسلامي،
والتأكيد على أن ما حدث من خروج على قيم الحضارة الإسلامية من أحداثٍ
تاريخية يؤكد القاعدة، ولا يعطي لهذه المواقف الشاذة إلا كونها شواذّ في التاريخ
الإسلامي، حينما خرجت بعض حقبه أو رجاله عن المفهوم الصحيح للإسلام
وتصوره للكون والحياة والإنسان، أو عن مقتضى ذلك التصور.
كما أن الشعر العربي بتاريخه الطويل يمكن أن يكون إطاراً مرجعيّاً من خلال
صوره وقضاياه وتعبيراته، يمكن أن يدخل ضمن الإطار المرجعي للصور
والتعبيرات والدلالات لدى الشاعر والأديب المسلم المعاصر، ويستطيع لو أحسن
استيعابه أن يخرج من كل ذلك بمذاقاتٍ فنيةٍ مختلفٍ ألوانها ولها رونق المعاصرة
في آن واحد، وليعالج من خلال ذلك كله قضايا عصره وأمته من المنظور
الإسلامي الصحيح.
فعلى الأديب المسلم مهمةٌ مضاعفةٌ: إن عليه أن يتمثل كل ذلك في أدبه
ويوجهه الوجهة الإسلامية التي تترك في نفس القارئ الأثر الإسلامي المطلوب في
العمل الأدبي الإسلامي، فقد يستخدم الشاعر أو الأديب في موضوعه رمزاً إسلاميّاً
أو موضوعاً من الموضوعات الإسلامية، ثم ينظر إليها نظرة علمانيةً غربيّةً،
ويضفي عليها روحاً مغايرةً للتصور الإسلامي للأدب، فيخرج بها عن دلالتها
الحقيقية ورؤياها الإسلامية الأصيلة.
كما أن استلهام صور القرآن والسنة ومجازاتهما وتعبيراتهما ودلالاتهما
وقصصهما وأحداث السير والتاريخ الإسلامي.. لا يعني عدم استلهام التراث
الإنساني بصفة عامة والاستفادة منه، ولكن على شرط أن يدخل ذلك في إطار
التأثير الإسلامي المطلوب، وألا يسرف الشاعر أو الأديب في استخدامه، مُعْرضاً
عن تراثه الحقيقي، وإطاره المرجعي الأصيل؛ فعليه إذن أن يراعي النسب،
ويدرك إلى أي جانب ينتسب، وهل الأَوْلى أن يمتح من مائه المعين، أم يدلي دلوه
في ركام الثقافات والأفكار والتصورات المناقضة لتصوره الإسلامي الصحيح وفكره
المتميز؟ !
ويمكن مراجعة قصيدة (الخيزران والبلوط) لنصار عبد الله، حيث استعمل
الشاعر حكاية الخيزران والبلوط التي كتبها الشاعر الفرنسي (فولتير) ،
واستطاع استثمارها فنيّاً ليرسم لنا صورة الصراع الاجتماعي الذي ينتهب أجيال
الكبار، وينتهي بالهلاك لكل من يدخل هذا الصراع، ويبقى جيل الصغار في
النهاية هو الذي يصنع المستقبل، ويبقى فيه الأمل بإعطاء الحياة معنًى جديداً، بعد
أن أكل الحقد والضغينة والكبرياء أجيال الكبار.
ونقتطف هنا مقطعاً من هذه القصيدة، للشاعر نصار عبد الله:
وفجأةً أرعدت السماء
واهتزت الضفاف بالزلزالْ
ومادت الجبالْ
تدحرج البلوط داهساً بجذعه العيدان والسيقان
الخيزران صار قطعةً من العجين في يد العجان
* * *
وانفجر النجيل ضاحكاً
إني أنا المنتصر الوحيد في النهايهْ
أنا الذي أهمله الكبار في الحوارْ
ولم تُشر إليه أسطر الحكايهْ [12]
وهكذا تتكامل النظرة في الأدب الإسلامي لكل جوانب المعرفة الإنسانية،
فتقبل من المعارف الإنسانية والثقافات والأفكار ما يتفق مع التصور الإسلامي، أو
ما لا يختلف عنه، في إطار الحكمة التي هي ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق
الناس بها.