المسلمون والعالم
مصر في القرن الواحد والعشرين..
قراءة أصولي..
(3 من 3)
بقلم: عبد الرحمن الكناني
عرض الكاتب في الحلقتين الماضيتين لأهم نقاط الدراسة المستقبلية عن
مصر التي قدمها الدكتور/ أسامة الباز، ثم بدأ في نقد هذه الدراسة بذكر ست
ملحوظات عامة عليها، وأخذ في عرض بعض الملحوظات التفصيلية، كان آخرها: الموقف من الصحوة الإسلامية، حيث تعرّض لأسباب ظهور الصحوة،
والصراع بينها وبين العلمانيين، ورؤية أصحاب الدراسة لطريقة التعامل معها..
ويواصل الكاتب قراءته للدراسة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الملحوظة الخامسة: عن المرأة والسكان:
رغم أن الدكتورة مديحة السفطي (أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية،
ومستشارة الأمم المتحدة ووكالة التنمية الأمريكية، وعضو المجالس المتخصصة)
تحاول أن تجمع بين التوجهات الدولية نحو المرأة: من زيادة فرص ومجالات
التساوي في الحقوق بين الرجل والمرأة، والاهتمام بالمرأة من زاوية (حقوق
الإنسان) ، تحاول أن تجمع بين ذلك ووجوب (تعاملنا مع المؤتمرات العالمية
بشكل انتقائي، فنأخذ من المؤتمرات الدولية وقراراتها ما يتفق مع تقاليدنا، ونترك
كل ما يخالف إسلامنا «وهو تحفظ مشكور من الدكتورة السفطي، ولكن يبدو أن
التصور المنقوص لعلاقة الإسلام بالحياة الاجتماعية حال دون وضع تصور صحيح، والغالب أن الدكتورة تقصد بهذا التحفظ رفض اللغط الدولي الدائر حول حقوق
الشاذين جنسيّاً و (الأشكال الجديدة) للأسرة، ولكنها تفتح المجال أمام قضايا أخرى
قد ترى فيها التقاءً مع تحرك الأمم المتحدة، وإلا فلن يكون هناك مجال للحديث عن
هذا التحرك، وهذا ما عبرت عنه الدكتورة بأن (هناك اتجاهاً دوليّاً نحو زيادة
فرص ومجالات التساوي في الحقوق بين الرجل والمرأة) ، فإن المرأة المصرية
(برغم أنها استطاعت أن تحقق مكاسب في المجتمع، إلا أنها لم تنجح في الحصول
على المساواة مع الرجل) .. فإذا كانت المرأة المصرية قد حصلت على إلزام
للدولة بموجب دستور 1971م (بحماية الأمومة والطفولة، ومن ثم: سن
التشريعات التي تعطي للمرأة بعضاً من الحقوق، ومنها الحقوق السياسية) ، كما
توفر للمرأة زيادة نسبة مشاركة المرأة في العمل، وفي انخراطها بالمراحل التعليمية
المختلفة، وزيادة مجالات التوظيف، وإذا علمنا أنه ليس هناك أي تفريق بين
الرجل والمرأة في الأجور ومجالات التعليم أو التوظيف، فما هي المساواة
المقصودة التي لم تحصل عليها المرأة، إننا نرى أنه لم يبق إلا المساواة في
الميراث وحق التطليق، وهو ما يدندن عليه كثيراً بعض متطرفي (العلمانية
النسائية) .
والدكتورة السفطي تركز على عمل المرأة، فإضافة إلى ما تقره من (مكاسب)
في هذا المجال تشير إلى زيادة نسبة تمثيل المرأة في سوق العمل نتيجة هجرة
العمالة المصرية للخارج، كما ترى (أن تحرير المرأة يؤدي إلى رفع الأعباء عن
كاهل الأسرة، عن طريق مساهمتها في زيادة الدخل) .. فما المقصود بـ
(التحرير) ؟ !
نعرض فيما يلي إلمامة بالنتائج (الاجتماعية) و (الاقتصادية) لمساهمة المرأة
في زيادة الدخل [1] :
يقول الدكتور أحمد إبراهيم عبد الهادي، أستاذ إدارة الأعمال بكلية التجارة
جامعة بنها: (في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد النساء بالقوى العاملة بالمنظمات
المصرية، وبالإضافة إلى التوقعات الخاصة بتزايدهن بمعدلات سريعة في الإدارة
بشكل عام وفي الإدارة الحكومية بشكل خاص: فإن الاختلافات في التكوين
البيولوجي والنفسي والقدرات العقلية بين النساء والرجال في المتوسط، وأيضاً:
اختلاف تأثير العوامل الاجتماعية والتنظيمية ينتج عنها تأثيرات سلبية في مدى
فعالية النساء في العمل أو الإدارة ... ولقد قام الباحث بدراسة علمية تناولت العوامل
المؤثرة في سلوك المرأة المديرة مع التطبيق على بعض المنظمات في مصر)
أوضح فيها صراع الأدوار الذي تعيشه المرأة العاملة: من سيطرة مشكلات رعاية
الأطفال، ودور المرأة نحو زوجها، والتأثيرات الصحية والنفسية والاجتماعية،
ومظاهر التوتر النفسي والقلق ...
وميخائيل جورباتشوف (الرفيق) يقول في (البيروسترويكا) : (إن المرأة
تعمل في مجال البحث العلمي، وفي الإنتاج والخدمات، وتشارك في النشاط
الإبداعي، ولم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل (العمل المنزلي) ،
وتربية الأطفال، وإقامة جو أسري طيب) .
(في 23/12/1985م تقدم مجموعة من أطباء الأطفال بمذكرة للدكتور
عاطف عبيد وزير شؤون مجلس الوزراء تدعو إلى مساعدة الأم المصرية للقيام
بأهم وظائفها المتمثلة في رعاية الأطفال وتنشئتهم التنشئة الصحية السليمة ...
وأيضاً حماية الاقتصاد المصري من استنزاف ميزانيته في استيراد الألبان ... الصناعية..) .
وفي (21/3/1987م: أصدر رئيس هيئة القطاع العام للغزل والنسيج قراراً
بمنع تعيين السيدات في ثلاثين شركة غزل ونسيج، وقال: إنه استند في قراره هذا
إلى أن العائد من عمل المرأة لا يتجاوز 20% مما يحققه الرجل) .. وذلك بخلاف
التصريحات والقرارات التي صدرت منذ 1971م حول إنتاجية المرأة المنخفضة،
والرغبة في تشغيل المرأة نصف أيام العمل الرسمية، ومشروعات قوانين لمنح
المرأة العاملة إجازة (10) سنوات بنصف الأجر ...
فإذا أضفنا إلى تلك الآثار: نسبة البطالة المرتفعة بين الشباب التي تسهم
المرأة العاملة في ارتفاعها بينهم، والتي يتعاظم أثرها على الرجل بخلاف المرأة في
مجتمعاتنا وما ينتج عن الفراغ المصاحب لذلك من مشكلات نفسية واجتماعية وأمنية
... لوقفنا حائرين أمام الإصرار على خروج المرأة إلى العمل.
ولكن جانباً من هذه الحيرة يزول إذا طالعنا الآتي [2] : (في 6/1/1972م:
نشرت الصحف أن الدكتور أحمد السيد درويش وزير الصحة حينئذ بحث مع
أعضاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير الاتجاه إلى إيجاد فرص عمل ملائمة لكل
امرأة عاطلة في مصر؛ لإمكان رفع مستواها الاقتصادي، وشغل وقت فراغها
الطويل كوسيلة فعالة من وسائل تنظيم الأسرة في مصر.. على أساس أن المرأة
ذات الدخل المناسب أقل إنجاباً وأحرص على تنظيم أسرتها) ، وفي (20/1/
1986م: ناقش المجلس القومي للسكان برئاسة د. ماهر مهران مقرر المجلس
إعداد خطة قومية للتوسع في تشغيل المرأة المصرية على مدى خمس سنوات،
باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل والوحيد لأزمة السكان في مصر.. بعد أن أثبتت
الأبحاث العلمية أن المرأة العاملة أقل خصوبة وإنجاباً! !) .
وهذا ما يقرره أيضاً الدكتور محمد السيد غلاب في المشروع المستقبلي الذي
نحن بصدده؛ حيث يقول: إن (انتشار التعليم واهتمام المرأة بالعمل، لهما أثرهما
في الحد من الزيادة السكانية) .
ويبدو أن الأمر مستقر في المشروع المستقبلي على الحد من الزيادة السكانية،
فإضافة إلى ما نصح به الدكتور غلاب يضع الدكتور الباز من أهم ركائز رؤيته
المستقبلية: وضع خطة شاملة لتنمية المورد البشري في مصر، تقوم أولاً على
ضبط النمو السكاني، بحيث ينخفض إلى أقل من 2%، وذلك باستخدام وسائل
أكثر فعالية في الترويج لمفاهيم تنظيم الأسرة وإقناع الجماهير في المناطق الريفية
وفي الأحياء الشعبية في المدن بأفضلية الأسرة الصغيرة القادرة» ، ولا يخفى على
القارئ أن (تنظيم الأسرة) هو الاسم الجديد لـ (تحديد النسل) ، وهذا ما وضحه
الدكتور الباز بـ (أفضلية الأسرة الصغيرة) .
ولا يظهر في المشروع: هل الإصرار على الحد من الزيادة السكانية
والوقوف عند حد الـ 70 مليون بسبب خطر الزيادة السكانية نفسها أم لعجز الدولة
عن تأهيل واستثمار وتوظيف هذه الزيادة؟ ! ، ولكن هناك إشارات في الدراسة
تلمح إلى إدراك أهمية القوة البشرية، منها ما ذكره الدكتور غلاب نفسه من (أن
الزيادة السكانية لم تكن أبداً عبئاً، ولا يصح أن تعتبر كذلك في القرن القادم؛ فهي
التي مكنت مصر من التقدم في كل العصور) ، وفي دراسة أخرى: يشير الدكتور
مصطفى الفقي إلى أن من أهم العوامل المؤثرة في دور مصر عربيّاً: (اعتبار
مصر مستودع الثروة البشرية) .
وفي هذه الإشارات توافق مع منطق العقل والتاريخ؛ يقول الأستاذ خورشيد
أحمد: (القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان،
وتتحلى في الوقت ذاته بالعلوم الفنية، فليس ثمة شيء يستطيع أن يحتفظ لأمم
الغرب بسيادتها وقيادتها العالمية سوى أن تعمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع
الحمل في بلاد آسيا وإفريقيا؛ لأجل هذا: فإن البلاد الغربية تعمل اليوم وسعها
لزيادة سكانها، ولكنها في الوقت نفسه تستعين بأحسن ما عندها من أساليب الدعاية
لتعميم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والإفريقية) [3] .
ويقول أيضاً: (وما أصدق الأستاذ (أورجانسكي) في قوله: وفي
المستقبل، إنما تكون القوة أكثر عند المعسكر الذي يكون عنده الأفراد أكثر) [4] .
ويقول في الكتاب نفسه: (مما لا يخفى على طالب لعلم التاريخ: أن تعدد
السكان له أهمية سياسية جذرية، ولذا: فإن كل حضارة أو قوة عالمية قد أولت جل
اهتمامها إلى زيادة أفرادها في عصرها الإنشائي والتعميري، ولذا: فإن المؤرخ
المعروف الأستاذ (ويل ديورانت) يعد كثرة السكان من أهم أسباب التقدم المدني وأيضاً يعدها الأستاذ (آرنولد توينبي) من تلك التحديات الأساسية التي ردّاً
عليها يخرج إلى عالم الوجود تقدم أي حضارة إنسانية) [5] .
فهل عرف العلمانيون بعضاً من حكمة حث الرسول على التكاثر والتناسل
والتوالد؟ !
الملحوظة السادسة: الاقتصاد والإنجازات! الثورية:
التطور السريع الذي شهده الاقتصاد المصري منذ قيام حركة 23 يوليو
1952م (لاحظ أنه لا تُذكر هنا الصحوة الإسلامية والأسباب الاقتصادية لظهورها)
هذا التطور الذي يحدثنا عنه الدكتور/إبراهيم حلمي عبد الرحمن، وما أدى إليه من
(نمو كبير في قطاع الصناعة والخدمات، وإلى تحويل مصر تدريجيّاً من دولة
زراعية أساساً إلى دولة أصبحت مساهمة القطاع الزراعي فيها لا تتجاوز 20% من
الناتج المحلي، لكن الضغوط الخارجية والحروب المتتالية في ثلاثة عقود أرهقت
الاقتصاد القومي، ثم عاد الاقتصاد المصري أخيراً إلى مرحلة التنمية السريعة في
الثمانينات) .
هذا التطور حقيقته: تراجع الإنتاج الزراعي نتيجة التصحر، وعدم مواكبة
الزراعة لأساليب متطورة ومتقدمة، وهجر الفلاح المصري للعمل في مجال
الزراعة.. الحال الذي أدى لما هو معروف من تحويل مصر إلى بلد مستورد لقُوته
بعد أن كان سلة غذاء، حيث أصبحت مصر الآن تستورد 60% من حاجاتها
الغذائية، وكمثال على ذلك [6] : فالقمح الغذاء الأساس في مصر تعتبر مصر أكبر
مشترٍ له من أمريكا (أكثر من مليون طن) ، كما تعتبر مصر ثالث أكبر مستورد في
العالم للقمح والدقيق، وذلك نتيجة سياسة مقصودة، فقد وصل الأمر إلى قطع المياه
لأكثر من شهر عن إحدى القرى، فتم تدمير آلاف الأفدنة المزروعة بالقمح، وفي
أخرى: أُغرقت الأراضي بالمياه، مما أحدث خسائر مماثلة، وفي ثالثة: زرعت
بذور البطيخ فأصابت التربة بما جعلها غير صالحة لزراعة القمح.. كما أن
فيروسات وأمراضاً تستعصي على السيطرة أُدخلت عن طريق البذور المستوردة..
وكان تدمير (350000) فدان بسبب مقاومة الفيروسات بمبيدات مستوردة، ونفقت
60% من الثروة الحيوانية نتيجة أمراض حيوانات مستوردة.. وقد بلغت كارثة
القطن حد استيراد مصر من أمريكا حالياً (19600) طن قطن قصير التيلة،
بخسارة بلغت 500 مليون دولار ...
وجدير بالذكر أن الصهاينة سربوا عبر الحدود المصرية (85) نوعاً من
البذور والمخصبات المحقونة بهرمونات ضارة، فضلاً عن ثمانين نوعاً آخر من
المبيدات السامة الممنوعة دوليّاً..
وحقيقة هذا التطور أيضاً: تخلف صناعي كبير مقارنة بتجارب مواكبة زمنيّاً
للتجربة المصرية (التجربة اليابانية، ثم التجربة الكورية) ، كما أن هناك تغافلاً عن
أن (شماعة إرهاق الاقتصاد المصري بالحروب) قد تحطمت منذ ما يقرب من ربع
قرن، وظهرت خلال هذه الفترة الأخيرة قفزات اقتصادية كبيرة في دول أقل في
الإمكانات كثيراً من مصر (النمور الآسيوية السبعة وتوابعها) .
وهذا التطور (السريع) والعودة إلى مرحلة التنمية (السريعة) في الثمانينات
صاحبه تطور سريع أيضاً في حجم الديون المثقلة بها الدولة والحكومة، فبالإضافة
للدين الخارجي الذي تتضارب التقديرات حوله، والذي بلغ (55) بليون دولار عام
1991م قبل تخفيضه إلى (40) بليون دولار بعد إسقاط الشريحة الأخيرة، لمشاركة
مصر في حرب الخليج وموقفها من قضية (سلام الشرق الأوسط) [7] ، بخلاف
فوائد خدمة الدين المتراكمة، بالإضافة إلى ذلك الدين: هناك الدين العام المحلي
(المقدر بنحو 122. 7 بليون جنيه (نحو 37 بليون دولار) تمثل 80 في المئة من
إجمالي الناتج المحلي المتوقع في الخطة 1996 1997م، إضافة إلى نحو 16. 3
بليون جنيه تمثل أعباء خدمة الدين المحلي والفوائد المستحقة، ليبلغ إجمالي الدين
العام وفوائده: نحو 139 بليون جنيه (41 بليون دولار) تمثتل 86 في المئة من
الناتج الإجمالي الحقيقي ... وتشير الأرقام إلى ارتفاع أرقام الدين المحلي المتوجب
على الحكومة من الأفراد والمصارف والشركات والهيئات العامة من 11 بليون جنيه
عام 1981م إلى نحو 134 بليوناً و700 مليون جنيه بنهاية عام 1995م، بنسبة
زيادة مقدارها 1225 في المئة، أي 12 ضعفاً خلال 14 عاماً.. ويعزو خبراء
اقتصاديون تضخم هذه المديونية إلى تزايد حجم النفقات الحكومية في ظل ثبات
حجم الإيرادات ... واعتماد الحكومة على الاستدانة من الداخل.. لسد العجز في
الموازنة..) [8] .
الملحوظة السابعة: هدف تنمية القوة:
تحفظ الدكتور الباز على خفض الإنفاق العسكري، مشيراً إلى (أن ما
يتهامس به البعض أحياناً، ويروجه في أحيان أخرى، عن وجوب خفض الإنفاق
العسكري لصالح الإنفاق المدني ... هو نظر خاطئ وغير سليم في تقديري
المتواضع؛ لأننا لا بد أن ندرك أن المجتمع لا يمكن أن يكون قويّاً متماسكاً ومنيعاً،
مستعصياً على التهديدات وأخطار الانهيار والتمزق إلا إذا كانت الدولة قوية ... )
و (لا يفكر في المساس بقدرة مصر العسكرية في السنوات المقبلة إلا ساذج أو واهم ينخدع بالقشور، ولا يحيط بالظواهر المركبة المعقدة من زاوياها المختلفة) .
وإذا كنا نقدر للدكتور الباز هذا الموقف، ونفهم (التهديدات) على أنها الأخطار
الخارجية حيث (إن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط التي نعيش فيها لم تستقر
بعد بالدرجة الكافية) وحيث لا بد (أن نحث دولها على تبني مفهوم جديد للأمن،
يقوم على تحقيق الأمن المتوازن المتكافئ الذي لا يتمتع فيه طرف بميزة نسبية تخل
بالتوازن المطلوب) ، إلا أن المقصود بـ (أخطار الانهيار والتمزق) لم يكن
واضحاً، فهل المقصود هو المخطط الصهيوني لتقسيم مصر إلى أربعة محاور
جغرافية، وهو ما حذر منه تفصيلاً الدكتور حامد ربيع أستاذ العلوم السياسية ذو
المكانة العالمية، وكتب ذلك في مجلة (الأهرام الاقتصادي) العدد 733 في 31/1/
1983م وما بعده، وأورده الدكتور جمال عبد الهادي في الجزء الثالث من كتاب
(الطريق إلى بيت المقدس) ، كما أورد نص وثائقه الصهيونية الكاتب الفرنسي
(روجيه جارودي) في كتابه (فلسطين أرض الرسالات الإلهية) ، أم إن المقصود
أخطار أخرى، قد تنشأ على (الحكومة) نتيجة تنامي اتجاهات غير مرغوب فيها!
وإذا كان موقف الدكتور الباز واضحاً في هذا الجانب (الحفاظ على قدرة مصر
العسكرية) إلا أن طرح اللواء أحمد فخر في الدراسة الخاصة لتحديد دور المؤسسة
العسكرية المصرية كان غير محدد، غير أنه أجاب لنا عن تساؤلنا السابق الأخير،
حيث افترض أن منطقتنا يمكتن أن تشهد أحد سيناريوهين سيؤثران على دور
المؤسسة العسكرية:..
(السيناريو الثاني: فيتمثل في عدم نجاح السلام، ومحاولة القوى الجديدة التي
تظهر خارج الإطار المؤسسي صياغة الأحداث بما يتلاءم مع أهدافها، وفي حالة
حدوث هذا السيناريو: فإن دور المؤسسة العسكرية في الدولة التي ستنجو من
مخاطر تفكك السلطة المركزية سيصبح دوراً أساسيّاً مسيطراً لمواجهة التهديدات
الداخلية أو الخارجية) ، ومن غريب هذا الطرح: أنه لم يهتم بمعالجة كيفية
مواجهة التهديد الخارجي المحوري والطبيعي، وهو الدولة الصهيونية! !
أما السيناريو الأول فكان: (سيناريو نجاح السلام، وفيه سيتم الاختيار بين
عدة مفاهيم للأمن، منها مفهوم الأمن الجماعي، والأمن الشامل، والأمن المشترك، والأمن بالتعاون) ، وهو ما تحفظ عليه الدكتور الباز بتبنيه (تحقيق الأمن
المتوازن المتكافئ) .
وإذا تحقق هذا السيناريو كما في طرح اللواء فخر، فإن هناك دوراً جديداً:
(طبيعة هذا الدور ستفرض على المؤسسة العسكرية إحداث تغييرات في هيكلها،
وإن اختيار مصر للمشاركة في توجهات النظام الدولي الجديد مثل المشاركة مع
قوات الأمم المتحدة في قوات حفظ السلام سوف يؤدي إلى تغير في شكل ومهام
بعض عناصر المؤسسة العسكرية) ..
تصريحات مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأمريكية في حديث إلى الصحفيين
حول زيارة الوزير (بيري) لمصر أوضحت وأكدت لنا طرح اللواء فخر، حيث
يقول المسؤول: (وثمة موضوع آخر، وهو أن لنا بعض برامج المساعدات
الأمنية الرئيسية التي نناقشها دائماً بالطبع، وسنتحدث عن الاستمرار في تحديث
القوات المسلحة المصرية، وأيضاً كما تعلمون عما هو ضروري للاستقرار الإقليمي
ومصالح الولايات المتحدة بالتأكيد. وما تسفر عنه مجموعة القضايا عندما توضع
في مجملها أمام أبصاركم هو: أن تتمكن مصر من اللعب في ساحات شتى في
المنطقة وبالتضافر مع الولايات المتحدة، وكما ذكرت سابقاً: كان اشتراك
المصريين في الخليج أمراً مهمّاً، واشتركوا في حفظ السلام في الصومال،
واشتركوا في قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة التي عملت على حفظ السلام في
البوسنة، كما أنهم سيشتركون أيضاً في القوة الدولية في البوسنة، ولذلك وإن لم
تتوافر قوات مقاتلة عصرية وقوات حسنة التدريب قادرة على النهوض بمهام دقيقة
لحفظ السلام، فسوف لا يكون بوسعها الاشتراك في هذه الأمور) [9] .
فهل ستكون القوات المسلحة المصرية ترساً في الآلة العسكرية الأمريكية؟ !.. مجرد سؤال!
الملحوظة الثامنة: تحديات غير مطروقة:
هناك بعض التحديات لم تتطرق الدراسة إلى الإجابة عليها، ومن ذلك:
أ -كيفية القفز عبر الهوة التكنولوجية الواسعة للحاق بالدول الرائدة فيها، فقد
تحدثت الدراسة عن أهمية معالجة التخلف التكنولوجي الذي تعيشه البلاد، وأي
منصف وليس الإسلاميون فقط يعتبر أن هذا التخلف أحد أسباب التبعية والتغريب،
كما أن أمة تعد نفسها للريادة الحضارية لا ينبغي لها أن تتخلف عن الأخذ بأسباب
الرقي التقني والمدنية.
ولكن الدراسة مع إدراكها لأهمية هذا الموضوع إلا أنها لم تعطنا رؤية
واضحة للنهوض من هذا التخلف، في ضوء:
أ - عِظَم الهوة بين الواقع الذي تعيشه البلاد والنموذج الذي تريد اللحاق به.
ب - عدم سماح الدول المالكة لهذه التقنيات بانتقالها إلى غيرها، وبخاصة
بعد اتفاقية الجات.
ج - هجرة العقول والكفاءات المتميزة التي تزخر بها البلاد إلى الخارج،
نتيجة: عدم تقديرها، والافتقار إلى المناخ الملائم لاستثمار إمكاناتها، كأثر من
تخلف العقلية الإدارية التي تتحكم في توجيه واستثمار هذه العقول.
-مواجهة التهديد النووي الإسرائيلي في ظل الإمكانات المصرية المحدودة
والمكبلة بالقوى الدولية، والإصرار الإسرائيلي على التفوق النوعي والكمي
للأسلحة الاستراتيجية وأسلحة الدمار الشامل.
-مواجهة مخططات تقسيم مصر المشار إليها في الملحوظة السابعة في حال
خروجها إلى حيز التنفيذ، وبخاصة أن هناك مؤشرات على التمهيد لهذا المخطط
الذي وُقِّت عام 1997م لتنفيذه بمشاريع وإجراءات رصدها الدكتور حامد ربيع
وتابعها الدكتور جمال عبد الهادي، ولا يُستبعد منها العمل على إبراز (التراث
النوبي) ومحاولة إدراج مشكلة (الأقلية النوبية) إضافة إلى الأقباط على جدول أعمال
مؤتمر الأقليات الذي كان مزمعاً عقده في القاهرة برعاية د/سعد الدين إبراهيم
الأستاذ بالجامعة الأمريكية.
-عوّل كثير من المشاركين في الدراسة على مكانة مصر والثقل الكبير الذي
تتمتع به بناءً على موقعها على الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، والتي تعمل
على تشكيلها القوى الدولية، فماذا لو حاولت هذه القوى تهميش وعزل مصر،
مثلما ظهر التلويح بذلك (تحريض مسؤولين إسرائيليتين لأمريكا على فرض
عقوبات على مصر) في أزمة صواريخ سكود الكورية الشمالية؟ ! .
-كيفية النهوض في ظل الدين الخارجي الكبير، وكيفية الاعتماد على العالم
الغربي اقتصاديّاً مع الاستقلال عنه رياديّاً وسياسيّاً، حتى تكون مصر (قوة كبرى
إقليميّاً وإحدى القوى الفعالة دوليّاً، دولة لا تنصاع لأي قوة مهما كبرت وبلغت من
أسباب الرفعة والتقدم، ولا تقبل أن تكون تابعة أو ممالئة لقوة، كانت ما كانت)
على حد تعبير الدكتور الباز.
وأخيراً:
فنعيد ما ذُكر في أول الحلقة الأولى من هذا المقال، من أن الإسلاميين يجب
أن يرقبوا واقعهم ويتابعوه كلّ بحسب قدراته وإمكاناته، وينقدوا ما يُطرح نقداً
متوازناً منصفاً، ويظهروا بدون تردد عوار المناهج الوضعية، كما نذكِّر بأن هذا
النقد لمثل هذا المشروع لا يهدف إلى (تصحيحه وإصلاحه) ؛ لأن ما قام على باطل
فهو باطل، والعلمانية أساس منبتّ الصلة عن ديننا وأمتنا، لا يصلح أن يجمّل
ببعض الوصفات أو الصبغات الإسلامية! ..
فإذا لم يكن الإسلام هو البديل، فما هو البديل؟ !