المسلمون والعالم
بقلم: محمد مبارك مسعود
لكي يقترب العدو الصهيوني من أهدافه في البحر الأحمر: فهو بحاجة إلى
أن يكون له قواعد متقدمة تتحكم في إغلاقه لا تبعد كثيراً عن مضيق باب المندب،
الذي ليس بالإمكان دخوله سوى عن طريق موضعين يمكنه السيطرة منهما على
المضيق، هما: الجزر اليمنية، والأراضي الواقعة على الساحل الجيبوتي.. غير
أن الأخيرة ممتنعة عليه بسبب الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي، ولهذا: لم
يجد الصهاينة أخيراً وسيلة إلا عن طريق الجزر اليمنية، ونظام أسياسي أفورقي
(حاكم إريتريا الصليبي) ؛ فهو وحده الأداة الطيعة الكفيلة بتحقيق هذا الهدف،
وبذلك: يكون العدو الصهيوني قد بدأ بتحقيق مطامعه القديمة التي بدأ قبل ما يقرب
من عشرين عاماً يوليها عناية خاصة بعد حرب 1967م، حيث أدرك أن أمنه في
البحر الأحمر لا يبدأ عند خليج العقبة، وإنما يبدأ من باب المندب، الذي إن أُحكم
إغلاقه يشكل تهديداً لأمنه «فإن حصار باب المندب لا يختلف عن حصار مضايق
تيران إلا من حيث المسافة؛ لأن الأثر التقييدي المفروض على (إسرائيل) واحد لا
يتغير» [1] ، ومع وجود عشرات الجزر المهملة في تلك المنطقة: فقد بدأ العدو
في ترتيب علاقات قوية مع إثيوبيا منذ ذلك الوقت تخوله استخدام بعض الجزر التي
يستطيع من خلالها تأمين الملاحة الصهيونية، ومراقبة أي وجود عسكري في ... المنطقة، حيث «أجّر» هيلاسي « [الإمبراطور الإثيوبي سابقاً] قاعدة كاغنيو العسكرية في أسمرة بإريتريا إلى الولايات المتحدة، وسمح لإسرائيل بأن تؤسس وجوداً لها في إريتريا» [2] .
وقد نشرت بعض الصحف الأمريكية في مارس 1973م أخباراً مفادها: أن
(إسرائيل) قد وضعت يدها على بعض الجزر التي تقع في مدخل البحر الأحمر،
ومن بينها جزيرة (زقر) التي تعتبر أحدّ أهم الجزر الاستراتيجية التي تتحكم في
مضيق باب المندب، ونوقش الأمر بالفعل في الجامعة العربية، وشكلت لجان،
وأجرت مسحاً للجزر، وظهر بأن تلك الجزر مهملة بالفعل من قبل اليمن، حيث لا
توجد فيها قوات لحمايتها! ، ونترك الحديث للعميد محمد علي الأكوع، الذي كان
يومها وزيراً للداخلية اليمنية في حكومة القاضي الحجري عام 1972م، حيث ... يقول [3] :
وبعد شهر فوجئت بتليفون من رئيس المجلس الجمهوري آنذاك القاضي
الإرياني يعاتبني لبطء الرد على مذكرة الجامعة العربية التي تقول: بأنه بلغ
الجامعة أن إهمالنا لجزرنا بالبحر الأحمر قد شجع إسرائيل على احتلالها، وأن
الجامعة تنتظر تصحيح خبر ذلك أو نفيه، ولنلاحظ أن الجامعة العربية قد وجهت
لنا وحدنا المذكرة عن هذه الجزر.... إلى أن قال: وقد أرسلنا لجنتين: أحدها من
الجيش برئاسة رئيس الأركان آنذاك العقيد حسن المسوري، وأخرى أمنية برئاسة
المقدم محمد خميس وكان في ذلك الوقت مديراً للأمن الوطني، وكانت النتائج: أن
تلك الجزر خالية تماماً من البشر ولا أثر لهم ووجدنا جزرنا بالبحر الأحمر (حنيش
الكبرى، وحنيش الصغرى، وزقر، وسيول، والمالح، وأبو علي) كلها خالية من
أي علامات تدل على أن أحداً قد وطأت أقدامه أراضيها، وحيث إن مذكرة الجامعة
العربية تحملنا مسؤولية حماية جزرنا هذه: فإنا نشرك الجامعة العربية معنا في
تحمل تلك المسؤولية، لاعترافنا أننا مقصرون بعدم تأهيلها بالحاميات العسكرية
الكافية.
وفي ذلك الوقت: دفع هذا الأمر مصر إلى التحرك لدى الدول المطلة على
مداخل البحر الأحمر لمناقشة الأمر، لا سيما وأن مصر كانت تعد في ذلك الوقت
لحربها مع العدو، التي قامت بالفعل في أكتوبر 1973م، وتم إغلاق باب المندب
وقتها في وجه الملاحة الإسرائيلية؛ مما دفع العدو إلى السعي بقوة لترسيخ نفوذه في
هذه المنطقة.
الاستراتيجية الصهيونية في البحر الأحمر [4] :
على الرغم من الاضطرابات والأعاصير السياسية والعسكرية التي عاشتها
شواطئ البحر الأحمر، وعلى الرغم من كل النتائج الخطيرة التي ترتبت عليها
ونتجت عنها، ظل منفذان يطلان على البحر تحت سيطرة أشكال استعمارية مختلفة، تمثل خطراً من حيث وجودها العسكري في البحر الأحمر:
1 - ميناء إيلات الصهيوني، الذي يمثل إطلالة العدو على مياه البحر الأحمر.
2 - ساحل إريتريا (ألف كيلو متر) أي: أكثر من نصف طول ساحل البحر
الأحمر الغربي بأكمله يخضع للسيطرة الإثيوبية /الإسرائيلية / الأمريكية سابقاً،
وحالياً: تحت سيطرة الجبهة الشعبية الصليبية الحاكمة في إريتريا، هذا الوجود
البحري المعادي المطل مباشرة على البحر الأحمر يشكل استعماراً استراتيجيّاً
ستكون له عواقبه المستقبلية بلا شك ولكي يتحقق الوضوح الكامل للصورة: ينبغي
أن نتعرف على الاستراتيجيات العامة في البحر الأحمر، التي بالفعل تضع ثقلها في
سبيل السيطرة على تطور الأحداث في البحر الأحمر.
ويجب أن نحدد بوضوح القوى العاملة بنشاط في البحر الأحمر:
ماذا تريد؟ ، ما حجم وجودها؟ ، ما أهمية وجودها العسكري؟ ، ما أثره
على ميزان القوى في البحر الأحمر؟ ، وبالتالي: انعكاس ذلك على ميزان القوى
في المنطقة العربية، وبالذات: الدول المطلة على البحر الأحمر.
ويمكننا القول: إن الاستراتيجية الصهيونية في البحر الأحمر تعمل على
فرض الوجود البحري في مياه البحر الأحمر، وهي في الوقت نفسه: تمثل عنصر
الاضطراب والقلق، ليس فقط على أمن المنطقة، ولكن أيضاً: على استقرار
واقتصادية كل شبكة النقل العالمي المرتكزة على منافذ البحر الأحمر، وتعمل هذه
الاستراتيجية بكل قواها على أن تكون هي المستفيد الأول من كل ضرر أصاب
المنطقة أو يصيبها، وإدراكها لأهمية العمق الاستراتيجي لكيانها، وارتباطه
العضوي بأمنها، وقدرتها على التوسع العسكري المستقبلي، لذا: بذل العدو خلال
العقد السابع من القرن الميلادي جهوداً مضنية في سبيل تعزيز علاقاته، وبخاصة
في الشرق الإفريقي المطل على البحر الأحمر باعتباره ممراً مصيريّاً بالنسبة له.
من أهدافهم في البحر الأحمر:
(بدأت الاستراتيجية الإسرائيلية حيال البحر الأحمر عام 1949م بعد تأسيس
الوجود الإسرائيلي في خليج العقبة؛ وبهدف الاتصال مع العالم الخارجي عن طريق
البحر الأحمر، لتحقيق ذلك الهدف: بدأت إسرائيل بتأسيس وجود لها على البحر
الأحمر؛ بغية استخدامه لتحقيق مصالحها العسكرية، والاقتصادية والسياسية) [5] ،
وحيث «يتسم البحر الأحمر، بما في ذلك القرن الإفريقي، بأهمية حيوية
واستراتيجية لـ (إسرائيل) ، وعليه: فقد اتبعت (إسرائيل) باستمرار ثلاثة أنماط
متداخلة من العمل على تحقيق سيطرتها على البحر الأحمر: تدعيم قواتها المسلحة، وإنشاء علاقات ودية سياسية، ودبلوماسية مع إثيوبيا [ثم: إريتريا أيضاً بعد ...
انفصالها] ، واستغلال جزر البحر الأحمر» [6] .
ويمكننا رصد بعض الأهداف الصهيونية في البحر الأحمر، وذلك من خلال:
1- فرض الوجود البحري العسكري الصهيوني في مياه البحر الأحمر
وترسيخه، وتأمين مصالح إسرائيل، بما يضمن الاتصال والأمن للخطوط البحرية
العسكرية والمدنية الإسرائيلية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، عن طريق
البحر الأحمر والطريق البرية من إيلات إلى حيفا وعسقلان؛ ولذلك جنّدت طرادات
حراسة سريعة ترافق السفن التجارية التي تحمل بضائع للعدو، مروراً بباب المندب
حتى المحيط الهندي، وأمّنت محطات تزويدها بالوقود في الجزر الإريترية: حالب، وفاطمة، وميناء عصب، وجزر دهلك، وبعض الجزر المغتصبة من اليمن مثل: ذكور، وحانش (حنيش) .
2 - إيجاد عمق استراتيجي ووجود عسكري مباشر يتيح رصد أي نشاط
عسكري عربي في المنطقة، بما يتيح لها إمكانات الهجوم المباشر على العرب في
باب المندب، ويشتت الجهد العربي العسكري على طول البحر الأحمر.
3 - استخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي في المستقبل ضد
قوات إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر، وبخاصة في حالة أي مواجهة عربية
إسرائيلية! .
4 - حماية حركة تجارة العدو الخارجية المتجهة إلى جنوب إفريقيا، وشرقها، وآسيا.
5 - تأمين ملاحة ناقلات النفط، وإنعاش كل موانئ ونقاط استقبال وتكرير
النفط وإعادة تصديره.
تدويل البحر الأحمر [7] :
إن للدول العظمى استراتيجيات ليس من اليسير الكشف عن مراميها على
الفور، ولكن يمكن رصد ذلك على مراحل متباعدة، وأهم هذه الاستراتيجيات في
الوقت الحالي: تدويل البحر الأحمر، فمن رأس الخليج شمالاً، وحتى باب المندب
أمام جيبوتي والصومال على مشارف المحيط الهندي، حيث تتسكع الأساطيل
البحرية لبعض الدول التي تسمى بالعظمى، في استعراض مكشوف، ينم عن
مأرب لا يخفى على الجميع.
لقد أعلن أباطرة أوروبا منذ ما يقرب من مئتي عام: أن «من يسيطر على
البحر الأحمر يسيطر على العالم» ، ومن بعد ذلك بمئة وخمسين عاماً، في أعقاب
الحرب العالمية الأولى سادت نظرية تقول: (لا يمكن السيطرة على أوروبا إلا من
جنوبها) ، وجنوب أوروبا هو البحر المتوسط الذي يربط بينها وبين إفريقيا، ثم
البحر الأحمر الذي يرى فيه أصحاب هذه النظرية مدخلاً للسيطرة على العالم،
والذي تمر به أربعة أخماس المواد الأولية من آسيا وإفريقيا إلى العالم الغربي،
وهنا تبرز أهمية باب المندب.
نبذة عن باب المندب:
وباب المندب يتكون من مضيقين: الأول: صغير، ويقع برمته في
الأراضي اليمنية، حيث يقع بين الساحل اليمني وجزيرة ميون اليمنية التي تشق
المضيق إلى مضيقين، ويبلغ عرض هذا المضيق الصغير حوالي (ميلاً بحريّاً
ونصف الميل) وطوله حوالي (ثلاثة أميال) ، وهذا المضيق الصغير الذي يقع
برمته في الأراضي اليمنية كما أسلفنا هو المفضل للملاحة الدولية؛ لخلوه من
الشّعَب المرجانية والمخاطر التي تحف بالملاحة في المضيق الكبير الذي يقع بين
جزيرة ميون والساحل الإفريقي.
والمضيق لم يخضع تاريخيّاً للملاحة الحرة الدولية؛ فقد كانت الملاحة في
مضيق باب المندب تحت إشراف الدولة التي تسيطر على المنطقة اليمنية، وباب
المندب بعد استقلال اليمن يقع تحت سيطرة اليمن، ويعتبر مياهاً إقليمية بحتة منذ
أن انسحبت بريطانيا.
واليمن لم ترفض الملاحة فيه لأي دولة، ولكن من حقها أن تغلقه إذا شاءت؛
لأن المضيق الصغير المفضل للملاحة الدولية يقع برمته في أراضي دولة واحدة،
لذلك: فإنه يعتبر جزءاً من إقليم الدولة، ولها عليه السيادة المطلقة كسيادتها على
إقليمها البري، كما يحق لها فرض الحصار البحري في حالة الحرب، وقد طبقت
قواعد الحصار البحري من قِبَل القوات المصرية عند محاصرة باب المندب خلال
حرب أكتوبر 1973م في وجه ملاحة العدو وغيرها من السفن القادمة والمتجهة من
الأراضي المحتلة وإليها.
هذا عن الساحل العربي، أما الساحل الإفريقي:
فهناك دولتان (إريتريا، وجيبوتي) تطلان على المضيق، وعلى الرغم من أن
الموقف يكاد يكون شبه مستقرٍّ على الساحل العربي، فإنه يزداد تدهوراً في القرن
الإفريقي، خاصة أن إريتريا أصبحت رهينة المصالح الغربية، وبالذات:
الصهيونية والأمريكية، ومن هنا فإن محصلة الصراع الدائر الآن للهيمنة على هذا
المجرى المائي ستؤثر تأثيراً مباشراً على أمن مياه البحر الأحمر، وبالتالي: على
استقرار الساحل العربي، وهذا ما يحمل في ثناياه تهديدات، قد تصل إلى الخليج
والمناطق المطلة عليه كافة.
إريتريا وحصان طروادة:
كان للدعم العربي المادي والمعنوي للقضية الإريترية أبعاده ومدلولاته
السياسية، ليس باعتبار أن إريتريا هي امتداد عربي إسلامي، أو أنها ثغر من
ثغور المسلمين لا بد من استرداده لأهميته الجغرافية والاستراتيجية في القارة
الإفريقية، ولكن حقيقة هذا الدعم تنطلق من مرتكزات أخرى غير هذه الحيثيات.
لذلك: لم ينقطع المدد العربي طوال سنوات حرب التحرير الإريترية عن
الفصائل الإريترية، بل إن اليمن كانت تشكل خطّاً خلفيّاً للثورة الإريترية، ترفدها
بالسلاح، وكانت عدن معقلاً للمقاومة الإريترية، ومخزناً للأسلحة، وقاعدة
للانطلاق، واستمر هذا الدعم إلى أن سيطر الشيوعيون بقيادة (مانجستو
هيلاماريام) على الحبشة، حيث انتقلت المقاومة إلى شمال اليمن، وهناك
تحصلت على الدعم الكثير بسبب العداوة من قبل دول الخليج للنظام الموالي لموسكو
في عدن آنذاك، وقدّمت اليمن تسهيلات كبيرة للمقاومة الإريترية، من أهمها:
إعطاؤهم جزيرة حنيش الكبرى كنقطة انطلاق، منها يتم شحن الأسلحة، وإدخال
المقاتلين الذين يتم تدريبهم في اليمن وبعض الدول العربية الأخرى، واستمر الدعم
العسكري من الدول العربية منذ عام 1986م. وهنا أمر يكرر نفسه: وهو أن هذا
الدعم العربي اتخذ في بعض الأحيان أشكالاً سلبية، من خلال محاولة ربط فصائل
إريترية معينة بمحاور عربية أو خلافها، وكانت بعض الدول العربية (مثل: اليمن
الجنوبي، وسورية) في مراحل معينة قد نفضت يدها من القضية الإريترية إرضاءً
للنظام الماركسي آنذاك في أديس أبابا، ثم إرضاءً لموسكو.
فهذا هو الواقع الأليم لهذه القضية المهمة التي لم يبذل الإسلاميون جهداً كبيراً
من أجلها مثلما عملت بعض الأنظمة العربية من متاجرة ومساومة لأخذ مكاسب
سياسية لإرضاء الشرق أو الغرب وياليت الإسلاميين تبنوا قضية الجهاد الإريتري
التي تمثله حركة الجهاد الإسلامي الإريتري مثل تبني غيرها من المنظمات
الإسلامية في كشمير والفلبين والبوسنة وغيرها، أسوة بما يعمله مجلس الكنائس
العالمي وأمريكا والعدو الصهيوني الذين قطعوا شوطاً كبيراً في دعم الأقلية المسيحية
الأرثوذكسية صاحبة النفوذ في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا رغم أن 75% من
سكان إريتريا (البالغ عددهم حوالي أربعة ملايين نسمة) هم من المسلمين، فيما لا
يزيد عدد المسيحيين عن 20%، و 5% يتبعون ديانات أخرى، لذلك: فإن
الولايات المتحدة قد ركزت جهدها حينما بدأت تتدخل في القرن الإفريقي بقوة في
النصف الثاني من العقد التاسع من هذا القرن، وذلك بدعم الجبهة الشعبية التي
يتزعمها (أفورقي) التي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من السكان المسيحيين الذين
لا يزيدون بمجموعهم عن 20% من عدد السكان، فيما أهملت كافة الجبهات
الأخرى، وأهمها: الجبهات التي تمثل المسلمين وإن كان فكرهم قوميّاً أو علمانيّاً
والذين تبلغ نسبتهم 75% من سكان البلاد.
وفي (أتلانتا) دعت الولايات المتحدة في عام 1979م لندوة، عقدت تحت
رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق «كارتر» للبحث عن حلول سلمية للنزاعات
الإقليمية في إفريقيا، حيث تم اختيار (أسياسي أفورقي) وحده لتمثيل إريتريا،
وفي هذا الوقت: ثم تكليف مساعد وزير الخارجية الأمريكية اليهودي «هيرمان
كوهين» برسم السياسة الأمريكية في إفريقيا عموماً، والقرن الإفريقي خصوصاً،
حيث قام المذكور بترسيخ دعائم «أفورقي» بدعوته في مطلع يونيو 1991م
لحضور مؤتمر لندن، الذي تم فيه الترتيب بين «أفورقي» و «ملس زيناوي»
زعيم المعارضة الإثيوبية في ذلك الوقت (الرئيس الإثيوبي حالياً) علماً أن هؤلاء
تربطهم صلة قرابة، فهم أبناء خالة، على أن يتم منح إريتريا حق تقرير المصير
بعد سقوط العاصمة (أسمرة) في أيدي الإريتريين وهذا ما تم بالفعل في 24 مايو
1991م وسقوط النظام الاشتراكي لمنجستو هيلامريام.
وفي الفترة من مايو 1991م وحتى إجراء الاستفتاء في 25 إبريل 1993م
كانت الدولة الصهيونية قد رتبت أوضاعها مع كل النظامين الجديدين في المنطقة
(نظام «ملس زيناوي» في إثيوبيا، ونظام «أسياسي أفورقي» في إريتريا) ،
وقد بدأت الصورة تتضح حينما ذهب «أفورقي» مرتين متتالتين إلى (إسرائيل)
بدعوى العلاج من الحمى الدماغية، الأولى كانت في يناير 1993م، والثانية في
مارس من العام نفسه، واتضح أن هاتين الزيارتين لم تكونا سوى تتميم للعلاقات
الحميمة التي بدأت مع العدو الصهيوني فور إعلان استقلال إريتريا وأنها شملت
اتفاقات عسكرية، وزراعية، وتدريبات مشتركة، ووجود صهيوني في جزيرة
(دهلك) الاستراتيجية، ومراكز تجسس كما في القاعدة التي توجد في منطقة
(دقمجرى) التي تبعد عن أسمرة (40) كيلو متراً، وكذا: المسح البحري في البحر
الأحمر من قِبَل خبراء عسكريين صهاينة، وعندما بدأ الاستنكار من قبل بعض
الأنظمة لما فعله «أفورقي» ، خرج المذكور على العالم في عدة تصريحات
صحفية مؤكداً أن إريتريا ليست عربية، وقال في حوار إلى مجلة (ميدل إيست) ،
نشرته في يوليو 1993م: «لقد أعلنا عن علاقتنا مع (إسرائيل) منذ وقت طويل،
ولم نكن في يوم من الأيام نتعامل في هذا الشأن بأي سرية، وإننا نهدف من هذه
العلاقات أن تساهم (إسرائيل) بالنفع على بلادنا» ، وقد أكد المفوض العام
الإريتري في فرنسا «دانيال يوهاس» في مقابلة أجراها مع مجلة (الوسط) في
فبراير 1993م «على أن الإريتريين ليسوا عرباً» .
أما الدعم الأمريكي الغربي الصهيوني: فقد وضحته الصحفية الفرنسية ... «ماري سوبيتل» في تقرير نشرته في صحيفة (اللوموند) الفرنسية في أبريل ... 1993 م، حينما قالت: «لقد نظر الغرب دائماً إلى إريتريا كحصن منيع أمام الزحف الإسلامي في القرن الإفريقي، ولذلك فهو يدعم» أفورقي «في إريتريا ... و» ملس زيناوي «في أديس أبابا معاً» .
وبعد: فهذا هو واقع الجهود الصهيونية في السيطرة على البحر الأحمر،
وجزره، ومضايقه.. وتعاون الدول المطلة على البحر نفسه (إثيوبيا والجبهة
الحاكمة في إريتريا) التي جعلت نفسها نائبة عن (إسرائيل) عندما عجزت عن
الزعم بأن لها حقوقاً في تلك الجزر والمضايق! ! يفضح العلاقات المشبوهة بينها.