مقال
بقلم: محمد عبد الأعلى
في ظل حالة من الوهن وعدم التمكين، وعلى إثر محاولات عدة للبعث
الإسلامي؛ بدافع الحب للإسلام، ورغبة في استنهاض المسلمين، وفي أجواء
شاعت فيها ثنائيات ومفردات: تقدم.. تأخر، تنمية ... وتخلف، أصالة،
معاصرة، رجوع إلى الهوية ... فرضت تلك المصطلحات على ساحة الفكر، وبدا
الناس أسارى أطرهن، لا ملجأ لهم إلا إليهن، وبدا إسلاميون وكأنهم يدورون في
الفلك ذاته، وليست المشاحة أن تتحدث بلسان القوم لتُبَيِّنَ لهم، ولا أن تتعرف
لسانهم لتَتَبَيّنَهم، وإنما الخطورة أن يكون الخطاب الإسلامي رجع صدى للخطاب
القومي، الذي هو في معظمه صدى ومحاكاة للخطاب الغربي، الذي وصل إلى كل
أذن عبر عجائب الاتصالات المعاصرة.
بات الغيورون من المسلمين عاكفين على تلمس طوق النجاة للأمة، والتعرف
على أسباب عودتها العود الحميد إلى أيام عزتها، فيمم بعضهم وجهه شطر
الحضارة الغربية، ممسكاً بمصباحها، يتجول في جنبات نصوص الإسلام وتاريخه، يتلمس من خلالها الحلول (الحضارية) ، ويبحث في معطياتها عن طوق النجاة
(الحضاري) ، وكأن الحضارة هي الغاية، فلنبحث عن «الإسلام ومشكلات
الحضارة» ، وكأن النهضة هي الهدف، فلنبحث عن «شروط النهضة» ، حتى
ذهب بعضهم إلى القول: «إن الرسول قد اتبع كل قواعد العمران البشري والمادي
في سبيل إنشاء المجتمع الذي أرسل من أجله» [1] .
وبين يدي الشروع في مناقشة ذلك الطرح أحسبني في حاجة إلى إيضاح:
أن المسلمين وإن كانوا صنعوا حضارة وكانت قيم الإسلام وهديه عاملاً رئيساً
في حركتهم لصنعها، إلا أنهم لم تقم قائمتهم بقواعد العمران البشري والمادي، ولم
يُخرَجوا للناس أمةً من أجل هذا.
المثال الأول:
لقد كان العالم يسير سيره الطبيعي قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ولم يكن ينكر من أمر معاشه شيئاً: كانت الزراعة، وكانت التجارة، وكانت
الصناعة، كانت المدن عامرة بالسكان، والعواصم الكبرى زاخرة بالعمران، كان
واديا النيل والفرات بساتين وحقولاً، فاضت لبناً وعسلاً، بل إن أرض يثرب
كانت خضراء منتجة، وحدائق الطائف كانت عامرة مثمرة، كان أنباط الشام،
وأقباط مصر، وأهل الصين بل يهود يثرب قد أحكموا أمر التجارة، وانتشروا في
أرجاء العالم المعمور بقوافلهم غادية رائحة، وكانت الأسواق مشحونة بالمتاجر
والبضائع، وكانت الحكومات والإمارات غنية بأموالها ورجالها ...
لم يكن في الحياة الإنسانية عوز أو فراغ، ولم تكن رئاسة المدنية وقيادة
الحضارة وظيفة شاغرة تحتاج إلى من يملؤها، لم يكن العالم في حاجة إلى أمة
تبعث في واد غير ذي زرع! ! ... كانت كأس الحياة مترعة لا تطلب المزيد، ولم
يكن العرب وجهاء ذلك الركب أو كانوا أعضاء بارزين فيه، لقد كانوا حقّاً في ذيل
الركب وعلى هامش فعالياته.
جاء في البداية والنهاية: « ... فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم أمة في
الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بَيْنٍ منكم، قد كنا نوكل بكم قرى
الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولاتطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم
كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً، وأكرمنا وجوهكم،
وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.. فقال المغيرة بن شعبة: أيها الملك، إنك
قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً؛ فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ
حالاً منا، وأما جوعنا فلم يشبه الجوع: كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب
والحيات، ونرى ذلك طعاماً لنا، وأما المنازل فهى ظهر الأرض، ولا نلبس إلا
من غزل أوبار الإبل وأشعار الغنم، وحالنا قبل اليوم على ما ذكرت، فبعث الله
إلينا رجلاً ... » [2] ، وروي أن كسرى لما علم ببعثة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، أرسل إليه بضعة جنود يأتون به في الأصفاد! .
وذكر الوليد بن مسلم: «أن ماهان طلب خالداً، يعني: ابن الوليد (رضي
الله عنه) يبرز إليه، فيجتمعا في مصلحة لهما، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما
أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إليّ أعطي كل رجل منكم عشرة
دنانير وكسوة وطعاماً، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم
بمثلها» [3] .
لقد كان واقع هذه الأمة ببداوتها، والأمم التي عاصرتها بحضارتها واقعاً
واحداً بميزان الله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً، فمقتهم عربهم وعجمهم
إلا بقايا من أهل الكتاب» [4] ، لقد أجمل هذا النص الكريم القضية تشخيصاً
وعلاجاً، لم يكن الهدف منازلة حضارية، لقد كان بعث أمة لغرض سام، لمهمة
طال عهد الإنسانية بالبعد عنها، ذلك هو ما خاطب به الله (عز وجل «هذه الأمة
بقوله: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [ال عمران: 110] .
لقد كان صراعاً طويلاً، لم يكن نزاعاً في أغراض المادة، لم يكن صراعاً
على الاستئثار بالأسواق، ولا التسابق في الصناعة والتجارة، وإنما كان صراع
الإسلام والجاهلية بمعنى هاتين الكلمتين: نزاعاً بين حياة العبودية والانقياد لله
(تعالى) والحياة المطلقة التي لا تعرف قيداً، ولا تخشى معاداً، ولا حساباً.
لقد كان من حلقات ذلك الصراع: غزوة بدر، التي قاد فيها النبي -صلى الله
عليه وسلم- عدداً من المقاتلين لا يزيد عن ثلاثمئة وثلاثة عشر قبالة جيش فيه ألف
محارب، فزع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله (تعالى) في إنابة نبي وإلحاح
عبد، ودعاء مضطر ... في كلمات صريحة واضحة هي خير تعريف بهذه الأمة
ومهمتها التي أخرجت من أجلها، وغاية التغيير الذي ستتحمل أمانته، لم يقل
الرسول: لو هلكت هذه العصابة وكانت فريسة للعدو؛ أقفرت المدينة، وأوحشت
الأسواق، وكسدت التجارة، ولم يظهر المجتمع الحضاري المنشود، وفات العالمين
فرصة ظهور حضارة وثابة، بل قال:» اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في
الأرض « [5] » فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطاً بقيام حياة العبودية بهم وقيامهم
بها « [6] .
لقد انتصرت الدعوة، وقام المجتمع المسلم في المدينة، وفتحت مكة، وأتم
الله النعمة بإتمام الدين عقيدة وشريعة، والمرء لا يلحظ تفوقاً عمرانيّاً ماديّاً داخل
حدود الدولة التي تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد ترك الرسول
مجتمعاً قِيَميّاً صنعه وحكمه منهج، كان إنجاز الرسول رجالاً وعوا الرسالة
واستوعبوا القضية، فخرجوا إلى الناس يقولون:» ابتعثنا الله لنخرج من شاء من
عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام «، وكان إنجازهم
أن أدوا المهمة على التمام، فقد خلصوا الأمة الرومية من عبادة المسيح والصليب
والأحبار والرهبان (أعني: من أسلم منهم» ، وخلصوا الأمة الفارسية من عبادة
النار، وخلصوا الهنود من عبادة البقر.. أخرجوهم حقّاً من جور الأديان إلى عدل
الإسلام.
لقد تحير أصحاب الموازين المادية في تعليل صعود هذا المجتمع وانتصاره:
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف الشديد، وهذا النشاط العجيب بعد ذلك الخمود
والسبات العميق ... ! يقول المؤرخ جبون: «بقوة واحدة ونجاح واحد زحف
العرب على خلفاء أغسطس في الروم واصطخر في فارس، وأصبحت الدولتان
المتنافستان في لحظة ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار
منهما، في عشر سنوات من أيام حكم عمر أخضع العرب لسلطانه ستة وثلاثين
ألفاً من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار، وأنشؤوا أربعة
عشر ألفاً من المساجد لعبادة المسلمين، وعلى بعد قرن من هجرة محمد من مكة،
امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلاطيكي، رفرف علم الإسلام على
أقطار نائية كفارس وسورية ومصر وإفريقية وأسبانيا» [7] .
ويقول هـ. أ. ل. فيشر: «لم يكن هناك للعرب قبل الإسلام أثر لحكومة
عربية أو جيش منظم، أو طموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين، إنهم
كانوا على نظام منحط من الشرك ... بعد مئة سنة حمل هؤلاء المتوحشون
الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، إنهم فتحوا سورية ومصر وجزءاً من
البنجاب، إنهم انتزعوا إفريقية من البيزنطنيين والبربر، وإسبانيا من القوط،
وهددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق» [8] .
لم ينتصر المسلمون في عصر النبوة ولا في عصر الخلافة الراشدة لعدد أو
عدة، فإن قلة عددهم وضعف عدتهم من المسلمات التاريخية التي لا يُجَادَلُ فيها،
ولم يكن العرب متفوقين أيضاً في النظام الحربي، ولم يكن هناك منهج حضاري
اتبع فيه الرسول قواعد العمران البشري والمادي، إن «منبع هذه القوة، وسبب
هذا الانقلاب العظيم الذي لا يوجد له مثيل في التاريخ: أن العرب أصبحوا بفضل
تعليم محمد أصحاب دين ورسالة، فبعثوا بعثاً جديداً، انقلبوا في داخل أنفسهم،
فانقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، نظروا إلى العالم حولهم وطالما رأوه في جاهليتهم
بدهشة واستغراب فإذا الفساد ضارب أطنابه، وإذا الظلام مخيم على العالم كله،
وكل شيء في غير محله..» [9] .
لقد تعلقوا بمثل قول الرسول: «زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها
ومغاربها، وأعطيت الكنزين الأصفر (الأحمر) والأبيض (يعني الذهب والفضة)
وقيل لي: إن ملكك إلى حيث زوي لك ... » [10] ، وقوله: «إذا هلك كسرى
فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن
كنوزهما في سبيل الله» [11] . لقد كان وعداً لصحابته توفرت فيهم شروطه،
وانتفت عنهم موانعه؛ فتحقق لهم: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] [النور: 55] .
ولقد طال على المسلمين الأمد، ونسوا ما ذكروا به، وقد كثر عددهم وعدتهم، ولكنهم صاروا يحكمون الناس حكم الناس على الناس، وأشبهوا الأمم التي خرجوا
يقاتلونها بالأمس، عادوا فقلدوها في مدنيتها واجتماعها وسياستها وأخلاقها ومناهج
حياتها مما مقتها الله من أجله، فابتلاهم الله (عز وجل) بالمغول (أشقى أمم الأرض
وأخملها وأجهلها) فوضعوا فيهم السيف وأجروا دماءهم سيولاً وأنهاراً.
إلا أن المسلمين في هذه الظلماء التي غشيتهم والفتنة التي عمتهم، كلما أفاقوا
من سكرتهم وأصلحوا شأنهم واستنزلوا النصر: أتاهم نصر الله، كما حدث ذلك في
عين جالوت على يد القائد صلاح الدين (رحمه الله) .
من هنا نعلم:
بعد ذلك الاستعراض الطويل، فإن المتأمل يلحظ أن المد والجزر في حياة
المسلمين أفراداً وجماعات وأمةً له مؤشر واحد، هو: الإيمان الحي الصحيح ...
إن أكبر مهمة في هذا العصر وكل عصر، وأعظم خدمة وأجلها للأمة هي: دعوة
السواد الأعظم منها إلى الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته، ودعوة سائر
البشرية إلى حقيقة الإسلام، ليس من خلال قناة فكرية ضيقة ولا مذهبية محدودة،
إنما من خلال رحابة تعاليم هذا الدين، وكما فهمه سلفنا الصالح حتى لا نضيع في
دوامة المفاهيم والمنطلقات ... رحابة لا تتملق العواطف وإنما تأتلف القلوب، ولا
تترك الحق، وإنما تقوِّم العقول، وتحاورها، وتعود بها إلى النهج القويم ... نعم
إنه صراع متعدد الجوانب، متشعب المجالات، يحتاج إلى صبر ومثابرة، أولاً
وقبل كل شيء على العلم واستبصار تلك الحقيقة.
علينا ونحن نستشرف عودة إلى الإسلام وبعث الأمة من جديد أن نستعرض
ذلك المثال الذي كان شاخصاً في خير القرون، علينا أن نستجلي حقائقه ونتبين
معالمه، ولسنا مضطرين في الوقت ذاته أن نجترئ على مقام النبوة فنجعل الرسول
قد اتبع قواعد ... ! لنا أن نجتهد فيما هو جائز، ونتحمل نتائج الاجتهاد سلباً أو
إيجاباً، ولكن ليس لنا أن نقحمه في منهج الله بالقطع.
ولا يحسبن القارئ الكريم: أن كاتب السطور يحشد الأدلة، ويعد العدة لهجمة
على الحضارة بعقل جامد، تاهَ في سراديب الماضي؛ ولا يدري ما نزل بساحته من
صدى صراع رهيب يفيض في كل أرجاء المعمورة، أو تعامى عن إيجابيات
الحضارة الغربية في كثير من مناحي الحياة، وليس همه كذلك إنكار سنن الله
الكونية في معاش عباده أو إنكار عمل الأسباب.
إنني أدندن حول ترسيخ وتأصيل: أن الإسلام لا ينصر بأدوات غيره، وأن
المسلمين يبعثون من جديد بنفخة من أصل الإيمان، حتى إذا شب المجتمع المسلم،
فلا عليه أن يأخذ بأسباب القوة التي يشترك فيها البشر بوصفهم بشراً، ولا بوسائل
الدعوة التي لا حرج فيها شرعاً.
كما إنني أؤكد على عدم الانزلاق إلى ما يمكن وصفه (بالتفسير الحضاري
للإسلام) بحيث تحجب معالم الهدى في سيرة الرسول وهديه، ولا تعرض للناس إلا
من خلال لون واحد، وقد وُضِعَ على الأعين منظار التنظير الحضاري المعاش.
لقد كان المنهج، كان الكتاب، كانت السنة، كان كل ذلك هو القوة التي
سخرت الأسباب فضعضع المسلمون الأكاسرة والقياصرة، ودان لهم الملوك
والجبابرة.
لقد تحقق ذلك للمسلمين مرتين:
يوم أن خرجوا مواكبَ من نور، تفتح البلدان التي فاقتهم حضارة وتميزوا
عنها بالإيمان، ويوم أن عادوا إلى الإيمان فهزموا التتار بعد أن كانوا قد دحروهم
والمسلمون فوقهم في ميزان الحضارة.
ولا يزال صلاح آخر الأمة ممكناً بإذن الله بما صلح به أولها.
فلدينا رصيد الفطرة، ولدينا رصيد التجربة، ولدينا الطموح الكبير لإعادة
العزة والتفوق لمجتمع المسلمين، انطلاقاً من القول النبوي الحكيم: «لا تزال
طائفة من أمتي على الحق..، وقبل ذلك قول الله (تعالى) : [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ] [المنافقون: 8] .
والله المستعان.