دراسات شرعية
الوسائل وأحكامها
في الشريعة الإسلامية
بقلم: د.عبد الله التهامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.. أما
بعد:
فمن القضايا الملحّة: معرفة فقه الوسائل، وأحكام التوصل إلى المقاصد
الشرعية، خاصة مع تكاثر الوسائل في هذا العصر وتجددها بصورة مذهلة أخّاذة،
ويمكن الإشارة إلى أهمية بحث هذا الموضوع في الآتي:
1) أن الوسائل ربع التكليف؛ إذ التكليف إما نواهٍ أو أوامر، فيدخل في
النواهي: المفاسد وأسبابها وهي الذرائع، ويدخل في الأوامر: المصالح وأسبابها
وهي الوسائل.
2) أن في معرفة الوسائل وكيفية الاستفادة منها فتحاً لآفاق الإنتاج والإبداع،
وقبضاً لمعاقد الأمور، واستمساكاً بجادة الطريق، وسيراً على سواء الصراط.
3) أن في العمل بالوسائل المنضبطة بالضوابط الشرعية: راحة للبال،
وطمأنينة للنفس، وابتعاداً عن الهوى وحظوظ النفس، وتجرداً للحق، واتباعاً
للشرع، فيكون العمل بذلك أدعى للصدق والإخلاص، وأقرب لالتماس الأجر
والثواب.
4) بفقه الوسائل يمكن تقدير حجم الخلافات الواقعة في عدد كبير من وسائل
الإصلاح ومناهج التغيير والبناء، ومن ثم: الإجابة على أسئلة يكثر طرحها، مثل: وسائل الدعوة هل هي توقيفية أم اجتهادية؟ وما الفرق بين البدع والوسائل؟
وهل الغاية تبرر الوسيلة؟ .
المسألة الأولى: معنى الوسائل لغة واصطلاحاً:
معنى الوسائل في اللغة: [1]
الوسائل والوُسُل: جمع وسيلة، والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب
به، والوسيلة أخص من الوصيلة لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة.
وتأتي الوسيلة في اللغة لمعانٍ عدة، منها: المنزلة عند الملك، والدرجة،
والقرابة، والرغبة، وتأتي بمعنى السرقة.
معنى الوسائل في اصطلاح الأصوليين:
وللأصوليين في معنى الوسائل اصطلاحان: عام، وخاص: فالوسائل في
الاصطلاح العام هي: الطرق المفضية إلى المصالح والمفاسد،
وبعبارة أخرى: هي الطرق المؤدية إلى المقاصد.
قال القرافي: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة
للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي: الطرق المفضية إليها) [2] .
ويلاحظ في هذا التعريف:
1- اتفاق الاصطلاح العام للوسائل مع المعنى اللغوي.
2- أن الاصطلاح العام للوسائل يطلق في مقابلة المقاصد.
3- يدخل في الوسائل بالاصطلاح العام أمران:
* الطرق المؤدية إلى المصالح، كالأسباب والشروط الشرعية.
* الطرق المؤدية إلى المفاسد، كالحيل الباطلة، والذرائع المفضية إلى
الحرام.
أما الوسائل في اصطلاح الأصوليين الخاص فهي:
(الطرق المفضية إلى تحقيق مصلحة شرعية) .
ويلاحظ في الاصطلاح الخاص للوسائل:
1- أن فيه تقييداً للمعنى اللغوي للوسيلة؛ إذ هو خاص بالوسيلة المؤدية إلى
المصالح دون الوسيلة المؤدية إلى المفاسد.
2 - أن الوسائل بالمعنى الخاص تطلق في مقابل الذرائع بالمعنى الخاص.
3 - أن الوسائل بالمعنى الخاص يدخل فيها كل ما يتوقف عليه تحقيق
المصالح الشرعية وتطبيق الأحكام المرضية، من: لوازم، وشروط، وأسباب،
وانتفاء موانع، وصيغ وألفاظ [3] .
المسألة الثانية: الفرق بين الوسائل والذرائع:
الذرائع كالوسائل لها معنيان عام وخاص.
فالذرائع بالإطلاق العام: كل ما يتذرع به سواء إلى المصالح أو إلى المفاسد [4] .
والذرائع بهذا الإطلاق تتفق مع الوسائل في الإطلاق العام، ويرجع ذلك إلى
اتفاق اللفظتين في المعنى اللغوي؛ إذ الذريعة والوسيلة لغةً بمعنى ما يتوصل به
إلى الشيء.
أما الذرائع في الاصطلاح الخاص فهي: الطرق المفضية إلى المفاسد.
ومعنى قاعدة سد الذرائع [5] : أن الفعل المباح إذا كان ذريعة إلى محرم
فالشارع يحرم هذه الذريعة وإن لم يُقصد بها المحرم؛ لكونها مفضية إليه.
قال ابن تيمية: (والذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت
في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم
يكن فيها مفسدة ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى
فعل المحرم) [6] .
ولمنع الذريعة قيود ثلاثة [7] :
أ- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة.
ب- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.
ج- أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة غالباً.
مثال ذلك: أن الله نهى عن سب آلهة الكفار مع كونه من مقتضيات الإيمان
بألوهيته (سبحانه) ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله (سبحانه وتعالى)
عَدْواً وكفراً على وجه المقابلة، قال (تعالى) : [وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: 108] .
وقاعدة سد الذرائع يقابلها على وجه الدقة قاعدة فتح الذرائع، وهي: طلب
تحصيل الوسائل المؤدية إلى المصالح.
وبذلك: يتبين أن الذرائع في الاصطلاح الخاص تقابل الوسائل في
الاصطلاح الخاص [8] ، فالذرائع هي طرق الشر والفساد، والوسائل هي طرق
الخير والصلاح.
والمطلوب شرعاً في الذرائع: سدها ومنعها؛ سعياً لمنع المفاسد وإبطالها.
كما أن المطلوب بقاعدة سد الذرائع: إبطال الحيل [9] ؛ إذ الحيل ذرائع
يتوصل بها إلى الحرام.
قال ابن القيم: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة؛ فإن
الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة.
فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم، إلى من يعمل في
التوصل إليه؟) [10] .
والحيل: منها ما هو جائز بل واجب، ومنها ما هو محرم، وهو الغالب في
عرف الفقهاء.
قال ابن القيم: (فالحيلة جنس، تحته: التوصل إلى فعل الواجب، وترك
الحرام، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته: التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، ولما قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله
بأدنى الحيل) [11] غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم.
وكما يذم الناس أرباب الحيل فهم يذمون أيضاً العاجز الذي لا حيلة عنده؛
لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه.
فالأول: ماكر مخادع، والثاني: عاجز مفرط، والممدوح غيرهما، وهو من
له خبرة بطرق الخير والشر خفيّها وظاهرها؛ فيحسن التوصل إلى مقاصده
المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرق الشر الظاهرة
والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به، فيحترز منها، ولا يفعلها، ولا
يدل عليها، وهذه كانت حالات سادات الصحابة (رضي الله عنهم) [12] .
والمقصود بالحيل التي يتوصل بها إلى المقاصد المحمودة: الوسائل
المنضبطة بالضوابط الشرعية.
أما التحيل الممنوع فهو: (أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما
أوجبه، بأن يأتي بسببٍ نَصَبَه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود؛ فيجعله المحتال
سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه) [13] .
مثال ذلك: أن بني إسرائيل لما حُرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت نصبوا
البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في
الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى يوم السبت أخذوها؛ فمسخهم الله إلى
صورة القردة [14] ، قال (تعالى) : [وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ
إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَاًتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاًتِيهِمْ
كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [الأعراف: 163] .
جدول يبين أوجه الاتفاق والافتراق بين الوسائل والذرائع
--------------------------------------------------------------------------
أوجه الاتفاق أو الافتراق الوسائل الذرائع
-----------------------------------------------------------------------------------------
1- المعنى اللغوي ... كل ما يتوصل به
2- الاصطلاح العام ... الطرق المؤدية إلى المصالح والمفاسد
3- الاصطلاح الخاص الطرق المؤدية إلى المصالح الطرق المؤدية إلى المفاسد
4- المقصد المتوسل إليه مصلحة ... مفسدة
5- حكم العمل بكلٍّ مطلوب ... ممنوع
6- اعتبار النية لابد من القصد إلى ... لا يشترط القصد إلى المفسدة
القصد المتوسل إليه
-----------------------------------------------------------------------------------------
المسألة الثالثة: أقسام الوسائل:
أولاً: تنقسم مطلق الوسائل بالنظر إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار أو بالإلغاء إلى ثلاثة أقسام:
1- وسائل معتبرة شرعاً، وهي: كل ما أمر به في الكتاب أو السنة أمْر
وجوب أو استحباب، وهذه الوسائل كلها مصالح أو أسباب للمصالح لا للمفاسد.
2- وسائل ملغاة شرعاً، وهي: كل ما نهي عنه في الكتاب أو السنة نهي
تحريم أو كراهة، وهذه الوسائل كلها مفاسد أو أسباب للمفاسد لا للمصالح.
قال الشاطبي في بيان هذين القسمين: (فإذن: لا سبب مشروعاً إلا وفيه
مصلحة لأجله شُرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة: فاعلم أنها ليست ناشئة عن
السبب المشروع.
وأيضاً: فلا سبب ممنوعاً إلا وفيه مفسدة لأجلها مُنع، فإن رأيته وقد انبنى
عليه مصلحة فيما يظهر: فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع.
وإنما ينشأ عن كل واحد منها: ما وُضع له في الشرع إن كان مشروعاً، وما
منع منه إن كان ممنوعاً.
وبيان ذلك: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً لم يقصد به الشارع
إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد
الباطل؛ كالجهاد، ليس مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة؛ لكن يتبعه في
الطريق الإتلاف: من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين
وشهر السلاح وتناول القتال) [15] .
3- وسائل مسكوت عنها، وهي: الوسائل المرسلة، وضابطها: كل ما
سكت عنه الشارع أو أباحه، وهذا القسم من الوسائل هوالمقصود بالبحث في هذا
المقام.
ثانياً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى درجة إفضائها إلى المقصود إلى ما يأتي [16] :
وسائل قطعية الإفضاء، ووسائل غالبة الإفضاء، ووسائل كثيرة الإفضاء،
ووسائل محتملة الإفضاء، ووسائل نادرة الإفضاء.
والمقصود: أن درجة الإفضاء قضية نسبية، تختلف من وسيلة إلى أخرى،
ومن مقصد إلى آخر، وتختلف أيضاً باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمنة،
والأمكنة.
ثالثاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى تعيّنها أو عدمه في تحقيق المقصد إلى:
1- وسيلة متعينة؛ إذ لا توجد وسائل أخرى يتحقق بها هذا المقصد إلا هذه
الوسيلة فقط؛ فأشبهت هذه الوسيلة في تعيّنها: الواجب المعين والفرض المعين،
وذلك كالسفر إلى مكة لمن أراد الحج بالنسبة إلى البعيد؛ فإنه وسيلة لا بد منها
لتحقيق المقصود وهو الحج.
2- وسيلة غير متعينة؛ يتحقق المقصد بها أو بغيرها من الوسائل، فهذه
الوسيلة أشبهت الواجب المخير، أو المطلق والفرض الكفائي، وذلك من جهة تعدد
الوسائل وتخيّر المكلف ما شاء منها؛ كالسفر إلى مكة للحج بالنسبة إلى البعيد، فإنه
مقصد يتحقق بأكثر من وسيلة: بالسفر برّاً، أو جوّاً، أو بحراً.
رابعاً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى نوعها إلى:
لوازم، وأسباب، وشروط، وانتفاء موانع، ومكملات، وسيأتي الكلام على
هذه الأقسام عند الكلام على مقدمة الواجب.
خامساً: تنقسم الوسائل بالنظر إلى قربها من المقصد إلى:
1- وسائل إلى المقصود.
2- وسائل إلى وسائل المقصود.
وقد بيّن هذين القسمين العز بن عبد السلام (رحمه الله) ، فقال: (وهذان
قسمان:
أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه؛ كتعريف التوحيد، وصفات
الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد، والتوسل إليه من أفضل الوسائل.
القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة؛ كتعليم أحكام الشرع؛ فإنه وسيلة إلى
العلم بالأحكام، التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة
والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد [17] .
وقال في موضع آخر: (والحقوق كلها ضربان: أحدهما: مقاصد، والثاني:
وسائل، ووسائل وسائل) [18] .
إذا علم ذلك: فإن جميع المقدمات والوسائط والتدابير المفضية إلى مقصدٍ ما:
تدخل تحت مسمى الوسائل، ويمكن أن نمثل لذلك بالمسلم الذي وجب عليه الحج
من أهل الصين، فإنه لكي يؤدي فريضة الحج يلزمه مثلاً فعل الآتي: تحصيل
التكاليف المادية الكافية لهذه الرحلة، ثم تسجيل اسمه في قائمة الراغبين في الحج
من وقت مبكر، ثم الحصول على التصريح بالحج من الجهات الرسمية، ثم اختيار
وسيلة السفر ولتكن هي طائرة وحجز مقعد فيها، ثم الاستعداد للسفر بتهيئة لوازم
السفر وأغراضه الخاصة، مع الحرص على الحضور في موعد الانطلاق، وعدم
التأخر، ثم صعود الطائرة، ثم إكمال إجراءات الإقامة عند الوصول ... إلى غير
ذلك.
والحاصل: أن جميع هذه الأعمال التي لا بد من فعلها إما أن تكون وسائل
مباشرة في تحقيق المقصد، أو تكون وسائل غير مباشرة، بل هي تفضي إلى
وسائل وسائل وسائله، والقاعدة: أن وسائل الوسائل وسائل.
المسألة الرابعة: خصائص الوسائل:
لكي تتميز الوسائل عن المقاصد، ولا تلتبس بها: فإن الوسائل تنفرد
بالخصائص التالية:
1- أن كون الشيء وسيلة من الأمور النسبية؛ بمعنى: أن الشيء قد يكون
وسيلة باعتبار، ومقصوداً باعتبار آخر.
قال الشاطبي: (والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن
تكون مقصودة في أنفسها) [19] وذلك كالجهاد؛ فهو وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو
الكفر، وهو مقصد يتوسل إليه بالإعداد والاستعداد [20] .
2- أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لذاتها؛ بل هي مقصودة
من حيث كونها محققة لمقصد آخر، والقاعدة: أن الأسباب مطلوبة لأحكامها لا
لأعيانها [21] .
قال الشاطبي: (وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة
لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد؛ بحيث لو سقطت المقاصد: سقطت الوسائل،
وبحيث لو تُوصل إلى المقاصد دونها لم يُتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم
المقاصد جملة؛ لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث) [22] .
3- أن شرط اعتبار الوسيلة من حيث كونها وسيلة: ألاّ يعود هذا الاعتبار
على المقصد بالبطلان.
مثال ذلك: أن المصلي إذا لم يجد ساتراً صلّى على حالته، وسقط عنه ستر
العورة، وذلك: أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اعتبارها
عند ذلك، لأمرين [23] :
أ- أن في إبطال الأصل إبطال للتكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع
الموصوف، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك
ارتفاع الصفة أيضاً، فاعتبار التكملة على هذا الوجه مؤدٍّ إلى عدم اعتبارها، وهذا
محال لايتصور، وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة، واعتبر الأصل من غير مزيد.
ب- أنه لا مقارنة بين مصلحة الأصل ومصلحة تكملته، فلو خُيّرنا بينهما
لكان حصول مصلحة الأصل مع فوات مصلحة التكملة أولى من حصول التكملة
فرضاً مع فوات الأصل.
4- إذا علم أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، فإنها إذا بطلت لايلزم من
بطلانها بطلان الأصل؛ كالموصوف مع أوصافه، ومن المعلوم أن الموصوف لا
يرتفع بارتفاع بعض أوصافه.
مثال ذلك: الصلاة إذا بطل منها الذكر والقراءة أو التكبير ... أو غير ذلك
مما لا يعد ركنا لأمر؛ لا يبطل أصل الصلاة إلا إذا كانت الصفة ذاتية، بحيث
صارت جزءاً من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة
من قواعد ذلك الأصل، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما في الركوع
والسجود ونحوهما في الصلاة بالنسبة للقادر عليهما [24] .
5- وعلى العكس مما سبق: فإن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها [25] ؛ إذ
هي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف
[26] .
والقاعدة: أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة من حيث هي
وسيلة إليه [27] .
ويقرب من ذلك قولهم: (الفرع يسقط إذا سقط الأصل) كالحائض؛ لا تقضي
رواتب الصلاة التي فاتتها أيام الحيض [28] .
قال العز بن عبد السلام: (ولا شك بأن الوسائل تختلف بسقوط المقاصد؛
فمن فاتته الجمعة والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها؛ لأنه استفاد
الوجوب من وجوبهن، وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن؛ لأنها استفادت
الندب منهن) [29] .
6- أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد [30] .
فمن ذلك: قولهم: (مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبداً) [31] ،
وقولهم: (التابع لا يتقدم المتبوع) كالإمام مع المأموم [32] .
ولما كانت مرتبة الوسائل أدنى من مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم
الوسائل؛ فمن ذلك: قولهم: (يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد) [33] ،
وقولهم: (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها) [34] ، وقريب منها: (يغتفر
في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً) ، كالصلاة عن الغير: تجوز تبعاً لا قصداً، وذلك في ركعتي الطواف في الحج عن الغير، وكجواز بيع الحمل مع أمه تبعا لا
استقلالاً [35] .
7- أنها مبنية في الحكم عليها بالصحة أو البطلان على الأدلة الكلية والقواعد
العامة؛ كالاستصلاح، وقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به) ، ومتى شهد للوسيلة دليل
خاص بالاعتبار لم تكن وسيلة مرسلة، بل هي والحالة كذلك مصلحة شرعية،
ومتى شهد للوسيلة دليل خاص بالإلغاء كانت مفسدة أو ذريعة إلى مفسدة. والحاصل: أن الوسائل لا حظّ لها من أدلة الشرع الخاصة.
8- أنها منتشرة واسعة؛ يصعب حصرها، وتتعذر الإحاطة بها، لا سيما مع
تجدد النوازل، واختلاف الأحوال، وتطاول الزمان، فلا بد لها من أصول تجمعها، وضوابط تعتبر بها.
9- أنها محتملة الإفضاء إلى مقاصدها؛ فقد يقطع بإفضائها، وقد يكثر، وقد
يبعد، بل قد يمتنع فيما إذا كانت موهومة، وهذا بخلاف المصالح والمفاسد
الشرعية: فإنها كما تقدم مفضية إلى مقاصدها.
10- أنها قد تكون اجتهادية؛ ذلك أنها في كثير من الأحيان تخضع لآراء
المجتهدين ونظر المكلفين: فما يعتبره بعضهم وسيلة مناسبة قد لا يعتبره بعضهم،
ومهما كان هذا الخلاف واقعاً في دائرة المسائل الاجتهادية فلا تثريب على المختلفين
فيما اختلفوا فيه.