مجددون معاصرون
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
عندما أعلن عن تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر عام 1931 م
كان قد مضى قرن كامل على احتلال فرنسا لهذا البلد المسلم، وكانت استراتيجية
هذا المحتل هي أن تصبح الجزائر قطعة منه أو بتعبير أدق كانت السياسة المتبعة
هي فرنسة الجزائر، ولذلك مارس هذا الاستعمار أشد أنواع الاضطهاد والقهر
وسلب الأموال، وتحويل المساجد إلى كنائس، وفرض اللغة الفرنسية كلغة ثقافة
وتخاطب، واستطاعت قوات الاحتلال الفرنسي القضاء على جميع الثورات التي
فجرها العلماء وزعماء البلاد، هذه الثورات التي كانت تفتقد الشمولية، والقدرة
على التنظيم، رغم تضحياتها وبطولة زعمائها، ولذلك كانت تقمع في كل مرة،
وما أن حل الثلث الأول من القرن العشرين حتى كان الظلام قد خيم على الجزائر
كلها، فما تبقى من المساجد التي هدمها العدو كانت تحت رقابته لا يخطب فيها إلا
من ينافق له، وألغيت المحاكم الإسلامية وبدأت جحافل المبشرين تزحف نحو
الجزائر.
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي واصفاً هذه الحالة: «كان من نتائج الدراسات
المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة
(1913) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين
عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه
ويفسدان عليه دينه ودنياه:
1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار.
2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون
بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضي وطواعية. والاستعماران متعاضدان
يؤيد أحدهما الآخر بكل قوته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى
في الانفلات، وتفقيرها لئلا تسعى بالمال على الثورة [1] .
أرادت فرنسا شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، وإذا أراد الله شيئًا سهل أسبابه،
وكان من كرمه سبحانه وفضله على أهل الجزائر أن يسر بروز رجال أعلام
استفادوا من تجارب الذين سبقوهم، ودرسوا مشكلات أمتهم دراسة دقيقة، وقرروا
العمل الجاد لإخراج المسلمين في الجزائر مما هم فيه إلى حالة ترضى الله سبحانه
وتعالى، وكان فارس هذه الحلبة والبارز في ميدانها الشيخ عبد الحميد بن باديس
رحمه الله، فبعد رجوعه إلى الجزائر من رحلته العلمية إلى تونس ومصر، ثم
الحجاز والشام [2] كانت فكرة الإصلاح والعمل المنظم قد اختمرت في ذهنه ولم
يبق إلا التمهيد لها، فكان يبث هذه المفاهيم لكل من يشهد حلقاته العلمية في التفسير، يقول رحمه الله: (إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت
لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور
وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة) [3] .
ثم يلتفت رحمه الله إلى العلماء والقادة فيقول:
" ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم أمر الاجتماع
ونظامه، إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتثار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، فعلى أهل العلم - وهم المسؤولون عن المسلمين بمالهم من إرث النبوة فيهم - أن
يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية [4] الكريمة فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع
والشورى في كل ما يهمهم من أمر دينهم) [5] .
وهكذا كان رحمه الله يمهد لما صمم عليه من تأسيس جمعية تلم شمل العلماء
والدعاة الصادقين، ولا تقتصر على فئة دون فئة ولا على إقليم دون إقليم.
مراحل تأسيس جمعية العلماء:
1- مرحلة الشعور بالخطر الجاثم على صدور أهل الجزائر والتفكير بالحلول، وأسباب الداء وكيفية الدواء، وهذه المرحلة كانت بوادرها في المدينة المنورة عام 1913م عندما التقى الشيخ ابن باديس مع رفيق دربه وجهاده الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان مهاجرًا إلى الحجاز للدراسة والاطلاع، وقد وصف الإبراهيمي هذه المرحلة أدق وصف فقال:
" كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبآت الغيوب لها أن يرد
عليَّ بعد استقراري بالمدينة المنورة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد
ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس أعلم علماء الشمال الأفريقي-ولا أغالي - وباني
النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر ... كنا نؤدي صلاة
فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي فنسمر مع
الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل
لصلاة الصبح. ثم نفترق إلى الليلة الثانية إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها الشيخ
بالمدينة، كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر
ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صوراً ذهنية
تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد
بضع عشرة سنة.
وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها
الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا عام
1931 [6] .
2-التمهيد لجمع المسلمين وبث روح التعاون والعمل الجماعي في صفوفهم،
بواسطة دروس التفسير في مساجد قسنطينة وكانت الإدارة الفرنسية تعرقل دروس
الشيخ ابن باديس فينتقل من مسجد لآخر، كما أن هذه المرحلة كانت فترة نضوج
لأبرز قادة الجمعية الذين رحلوا إلى المشرق وتنقلوا بين المدينة المنورة ودمشق
والقاهرة، واتصلوا بأعلام الدعوة السلفية في هذه المدن، وتدارسوا معهم واقع
العالم الإسلامي والحلول اللازمة للنهوض.
3-زار ابن باديس عام1924 الشيخ الإبراهيمي في مدينة (سطيف) وأخبره
بأنه عقد العزم على تأسيس جمعية باسم (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة
وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وعهد ابن باديس إلى
الإبراهيمي مهمة وضع القانون الأساسي للجمعية، فوضعه الإبراهيمي واتفقا ... عليه [7] ولكن هذا المشروع لم ير النور لعدم تجاوب علماء قسنطينية مع رغبة ابن باديس ولأن الاستعداد لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد.
4-أصر ابن باديس على إنشاء جمعية للعلماء وأنه لابد من عمل إصلاحي
كبير، وتنازع العلماء رأيان: الأول تبناه الإبراهيمي وخلاصته: أن يكون هدف
الجمعية تعليميًا، وأن يربي جيل متخصص في مختلف الفنون والمعرفة ينطلق
المربون به في حملة شاملة على الباطل والبدع.
والرأي الثاني: وقد تبناه ابن باديس ويقوم على مهاجمة المبطلين والمبتدعين
منذ البداية، ولأن البدع قد طال عليها الأمد وشاب عليها الوالد وشب عليها الولد،
فلا يطمع في زوالها إلا بصيحة مخيفة تزلزل أركانها، وإعصار شديد يكشف الستر
عن هذا الشيء الملفق ليتبينه الناس على حقيقته. وقد تم الاتفاق على الأخذ بالرأي
الثاني. وبناء على ذلك أصدر ابن باديس جريدة (المنتقد) عام 1925 التي يبين
اسمها عن معنى النقد الذي يخالف منهج أرباب الطريقة (اعتقد ولا تنتقد) وكتب
ابن باديس في المنتقد عن دعوة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ونقل عن (المنار)
رسالة عبد الوهاب النجدي إلى عبد الله الصنعاني [8] .
ثم صدرت (الشهاب) [9] وفيها الدعوة إلى مناصرة فكرة الإصلاح وتجميع
القوى وأن يكتب إلى الشهاب من يوافق على هذه الأفكار، فانهالت الرسائل المؤيدة، ومنها رسائل من الشيخ الطيب العقبي، ومبارك الميلي.. وقد جاء في رسالة
الشيخ العربي التبسي: " أزفت ساعة الجماعة وتصرم عصر الفرد " [10] وفي
عام 1931 نشرت (الشهاب) اقتراحًا بتأسيس جمعية العلماء وكان الغرض هو جمع
القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم من العلم للتعاون على خدمة الدين
الإسلامي واللغة العربية، والنهوض بالأمة [11] .
استجاب كثير من العلماء لدعوة ابن باديس وتقرر الاجتماع في الساعة
الثامنة من صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة 1349 هـ الخامس من
مايو 1931 في نادي الترقي بعاصمة الجزائر، وكان عدد المجتمعين اثنين وسبعين
من العلماء وطلبة العلم، وكان هذا الاجتماع بمثابة جمعية عمومية لوضع القانون
الأساسي ثم عقد اجتماع آخر وانتخب الشيخ ابن باديس رئيسًا والشيخ الإبراهيمي
نائبًا للرئيس.
إن تأخير قيام الجمعية إلى هذا الوقت مع أن نشاط ابن باديس وحديثه عن
العمل الجماعي ورد في أوائل العشرينات إنما كان لتطلع ابن باديس إلى مشاركة
جميع العلماء الذين يؤمنون بالإصلاح، وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا والدخول في حوار
مع كل فرد منهم، كما يتطلب وضوح الأهداف والغايات.
5- حاول بعض الصوفية من أعضاء الجمعية والمشايخ الذين لهم ارتباط
بالإدارة الفرنسية السيطرة على الجمعية ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا، وفي عام 1932
خرجوا من الجمعية وانتخب ابن باديس مرة ثانية رئيسًا بالإجماع، وبذلك صفت
الجمعية لرجال الإصلاح الذين كان منهجهم واضحًا منذ البداية.
أما السؤال المتبادر، لماذا دخل هؤلاء في الجمعية أصلاً؟ فالجواب:
أن ابن باديس تعاون مع المعتدلين من الطرقيين والعلماء الرسميين ولم يتعاون
مع الملوثين الذين ظهرت أباطيلهم وأراد من هذا التعاون شيئين:
الأول: أراد أن يواجه المستعمرين وعموم أعداء هذا الدين بموقف إسلامي
موحد، وموقفه هذا يذكرنا بالوفد الذي قابل به ابن تيمية قازان زعيم التتار وكان
يضم الصوفيين والمبتدعين.
الثاني: كان ابن باديس يعرف كيف يتحرك، وكيف يتعامل مع الناس،
وكيف يستفيد من الظروف والمناسبات التي تمر، وكان يضع هذه الأمور كلها في
موضعها وإطارها الصحيح، وهذا التعاون لم يغير أو يبدل شيئًا من قناعات ابن
باديس وزملائه، بل كانوا أصحاب القرار وأهل الأكثرية في الجمعية.
ولابد من الإشارة هنا إلى إيمان ابن باديس بالمرحلية ولذلك نراه ينتقي
العبارات لكل مرحلة انتقاء دقيقًا وذكيًا، فعندما أخذ الترخيص للجمعية كانت الغاية
التي أعلنت في القانون الأساسي (محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر
والبطالة والجهل، وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل) وهذه الأخيرة فيها
تلميح إلى الصوفية، ولكن بعد الانتخاب الثاني 1932وتصفية الجمعية من أعوان
الإدارة دعا ابن باديس إلى (الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء
بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية ... ... المحمدية) [12] .
وبعد مضي خمس سنوات على تأسيس الجمعية أكد البشير الإبراهيمي على
غايات الجمعية وخاصة في الأمور التالية:
1- محاربة الطرقية وأنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح مع وجود هذه
الطرقية المشؤومة.
2- نشر التعليم الحر البعيد عن إشراف الحكومة بين صفوف الصغار والكبار
3- الوقوف في وجه التبشير والإلحاد.
وهكذا كلما قويت الجمعية ووجد ابن باديس أن الفرصة مناسبة لتوسيع دائرة
عمل الجمعية، أعلن عن الأهداف الكبرى لها، وإذا لم يتح له ذلك ذكر أهدافه عن
طريق الصحافة التي كان يمتلكها هو شخصيًا وليست تابعة للجمعية مثل (المعتضد)
و (الشهاب) .
أهداف الجمعية:
في عام 1356 هـ 1938 م حددت الجمعية أصولها ومبادئها في النقاط
التالية:
1- الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده وأرسل به جميع رسله،
وكمله على يد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لا نبي بعده.
2- القرآن هو كتاب الإسلام.
3- السنة (القولية والفعلية) الصحيحة تفسير وبيان للقرآن.
4- سلوك السلف الصالح (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) تطبيق صحيح لهدي الإسلام.
5- البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- فعله، وكل بدعة ضلالة.
6- المصلحة كل ما اقتضته حاجة المسلمين في أمر دنياهم ونظام معيشتهم
وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم بما تقره أصول الشريعة.
7- التوحيد أساس الدين، فكل شرك في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل
فهو باطل مردود على صاحبه.
8- اعتقاد تصرف أحد من الخلق مع الله في شيء ما شرك وضلال،. وبناء
القباب على القبور والذبح عندها لأجلها، والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال
الجاهلية، فمن فعله جهلاً يُعلّم ومن أقره ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.
9- الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في
الشيخ، وتجميد العقول، وإماتة الهمم.
10- عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق
الكلمة ويصدع الوحدة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة
بإذن الله ثم بقوة الحق، وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة:
[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] .
عبد الحميد بن باديس
بقسنطينة الجامع الأخضر أثر صلاة الجمعة 4 ربيع الأول 1356 [13] .
وما كانت الشعارات التي يرفعها ابن باديس: (القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير ... لجميع سكان الجزائر غايتنا) [14] إلا تلخيصاً لهذه المبادئ.
إن النزعة السلفية واضحة في هذه الأصول والغايات المعلنة ولا شك أن رحلة
ابن باديس وزملائه إلى المشرق واطلاعهم على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واجتماعهم بعلماء الشام وما كتبه رشيد رضا في المنار له أثر كبير في توجهات
الجمعية، كما أن جيل المصلحين الأول مثل الشيخ صالح بن مهنا قد تأثر بالحركة
السلفية، ومع ذلك فإن ابن باديس وزملاؤه لم يكونوا نسخة مطابقة لعلماء الشام أو
الجزيرة بل كان عندهم من سعة الأفق أحيانًا أكثر من الذين تأثروا بهم، وقد تظهر
الدعوة السلفية أحيانًا في قطر من الأقطار الإسلامية دون أن يطلع أهله على ما في
القطر الآخر وذلك لأنها دعوة حق يهتدي إليها من أوتي فطرة سليمة وقلب واع.
إنجازات الجمعية:
قامت الجمعية بأعمال كبيرة وجليلة وجهود تستحق التقدير والثناء الحسن،
فلها دور كبير في بث الوعي الديني وإحياء المفاهيم الإسلامية الصحيحة من الكتاب
والسنة ومحاربة الخرافيين الذين يتاجرون بالدين ويتعاونون مع المستعمرين، وقد
سدوا منافذ العلم وسيطروا على عامة الشعب بسبب الجهل، وقد كانت كتابات ابن
باديس والإبراهيمي مزلزلة لأركانهم فانقمعوا وانحسروا والتف الشعب حول العلماء
العاملين.
يقول البشير الإبراهيمي ساخرًا من الطرقيين: " القوم عارفون بالله وإن لم
يدخلوا كتابًا ولم يقرءوا كتابًا، وكل من ينتسب إليهم عارف بالله بمجرد الانتساب
أو بمجرد اللحظة من شيخه، ومن تنقيحاتهم تحديد مراحل التربية (الخلوية) لمعرفة
الله بثلاثة أيام (فقط لا غير) تتبعها أشهر وأعوام في الانقطاع لخدمة الشيخ من سقي
الشجر ورعي البقر وحصاد الزرع وبناء الدور مع الاعتراف باسم الفقير والاقتصار
على أكل الشعير ... "
وأنشطة الجمعية متشعبة وشاملة يصعب الحديث عنها كلها ولذلك سنقتصر
على ذكر نشاطها التعليمي الذي كان من أهدافه الرئيسية إحياء اللغة العربية لغة
القرآن والإسلام بعد أن حاول المستعمر إقصاء اللغة تمهيداً لإقصاء الدين. ولا شك
أن هذه مهمة صعبة، وهي أمل كل المصلحين الذين عاشوا قبل هذه الفترة وبعدها، فقد كان من المجمع عليه عندهم أن أهم وسيلة لترقية الأمة ونقلها من ذلها
وضعفها هو التربية والتعليم، لإنشاء أجيال جديدة تتسم بالسلوك الإسلامي والفهم
العميق لهذا الدين، وقد حققت الجمعية كثيرًا من هذا مما يعتبر في عصرها من
المعجزات.
كانت المدارس الحكومية قليلة جدًا، وهي خاضعة خضوعًا تامًا لإشراف
الإدارة الفرنسية في مناهجها ومدرسيها، بل كانت فرنسا تتعمد التجهيل، يقول
محمد فريد وجدي الذي زار الجزائر 1901: (هجرت ربوع العلم وخربت دور
الكتب وصارت الديار مرتعًا للجهل وكادت تدرس معالم اللغة العربية ... الفصحى) [15] .
ويقول الشيخ الإبراهيمي: (إن مدارساً عامرة بهذا الصنف من الأطفال الذي
لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلاً، وإن عدده لكثير إنه ليقارب التسعين بالمائة من
أبناء الأمة) [16] .
قصدت الجمعية لهذا الخلل، فشجعت الجمعيات الإصلاحية في كل مدينة
لإنشاء مدرسة، وهذه الجمعية تتكفل بدفع رواتب المعلمين وتشجيع الأهالي على
التبرع، وكانت جمعية العلماء تشرف على هذه الجمعيات المحلية وتشرف على
اختيار المدرسين، وقد بلغ عدد هذه المدارس عام 1935 سبعين مدرسة ويقدر عدد
التلامذة بحوالي 30. 000 بين صبي وفتاة.
وكانت جمعية العلماء تنظم للمدرسين دورات تدريبية لرفع مستواهم التعليمي ومناقشة أساليب ونظم التعليم وفي عام 1944 نشطت الجمعية نشاطًا بارزًا
فأنشأت خلال عام واحد ثلاثاً وسبعين مدرسة في مدن القطر وقراه [17] وفي عام
1948 بلغت مدارس الجمعية حوالي140 مدرسة، وفي عام 1954 ازداد العدد إلى
170 مدرسة، وقد بلغ عدد تلاميذ هذه المدارس عام 1951 (36. 286) تلميذًا
وتلميذة منهم 16. 286 يدرسون دراسة كاملة في المدارس العربية ولا يلتحقون
بالمدارس الحكومية، وبقية الطلبة سهلت لهم الجمعية أمر متابعتهم الدراسة في
مدارسها بأن جعلت لهم دوامين للتعليم في الصباح والمساء. وفي عام 1947
أسست الجمعية أول معهد للتعليم الثانوي في قسنطينة أطلق عليه اسم عبد الحميد بن
باديس، وبدأت الجمعية تشجع خريجي هذا المعهد للالتحاق بجامعات الزيتونة في
تونس أو الأزهر أو جامعة دمشق أو جامعة بغداد، وكأن الجمعية كانت تهيئ
الشباب لعملية بناء الجزائر المستقلة.
وهذا الجهد العظيم هو صراع مرير مع الإدارة الفرنسية لتثبيت هوية هذا
الشعب وأنه مسلم عربي، ففي هذه المدارس تعلم الأطفال العربية لأن التعليم في
المدارس الحكومية كان كله باللغة الفرنسية، وهذه الأمور كانت واضحة في ذهن
ابن باديس وصحبه من اليوم الأول وأن نهضة الإسلام مقرونة بنهضة اللغة العربية.
فجزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين، من رجال قاموا بواجبهم حق القيام.
* يتبع *