مقال
اليسار العربي وصلته بالنص القرآني
بقلم: عبد اللطيف بو عبد اللوي
كان عصرنا الراهن عصر التدافع العقدي، وكان وطننا الإسلامي مسرحاً لهذا
التدافع، لكنه لم يكن تدافعاً أصيلاً منبعثاً من خصوصيات الأمة الحضارية والعقدية ناتجاً عن تطورات طبيعية وسط مجتمعاتها، بل لم تكن الأصوات التي كانت
تتعالى عندنا تنادي بهذا المذهب أو ذاك سوى أصداء وأبواق تردد ما يلقى إليها من
الخارج.
وأبرز المذاهب التي صُدّرت إلينا في هذا العصر، ووجدت لها أنصاراً،
وتشكلت على أساسها أحزاب ومنظمات، كان هو المذهب الاشتراكي، وهو لم يكن
كغيره مذهباً أصيلاً، منسجماً مع تاريخ الأمة، ومنبعثاً من طبيعة تكوينها
الحضاري؛ لذلك: فقد اصطدم بواقع يتناقض مع أطروحاته الفكرية ورؤاه
التغييرية.
إذ كيف يمكن لأمة أقيمت على أساس ديني، وتشكلت علاقتها وبنياتها
المختلفة انطلاقاً من مقتضيات دينها (الإسلام) ، وما تزال وفيّة لدينها مستمسكة به،
رغم كل الحملات المتوالية التي استهدفت إبعادها عنه، كيف يمكن لأمة من هذا
الطراز أن تتقبل مذهباً يؤمن بأن المادة هي أساس الوجود، وأن تحولاتها هي
المتحكمة في مختلف التحولات الأخرى، والغيب عنده لا مكان له في هذا التحول،
والدين لا يعدو أن يكون ظاهرة تاريخية، وإفرازاً لأوضاع معينة تحددها
الصراعات الطبقية؟ .
لذلك: فقد كان منتظراً أن طرحاً وفيّاً للمذهب الاشتراكي وأسسه الفكرية، لن
يجد له أنصاراً داخل الشعوب الإسلامية المتدينة بطبيعة تكوينها.
وحتى يُمكِنّ هذا الاتجاه لنفسه: كان عليه أن يلجأ إلى أسلوب المداراة
والمراوغة الفكرية حتى يجد لِذَاته حيزاً وسط الأمة، ونلحظ هذا الأسلوب من خلال
كتابات زعماء اليسار داخل وطننا الإسلامي.
يقول باحث يساري: (إن التدين من العناصر الأصيلة في تكويننا الحضاري، والتدين أحد الأسلحة الخطيرة في أيدي اليمين؛ ولهذا كان المنتمي إلى اليسار في
موقف رد الفعل من الدين والمتدين معاً بصفة عامة، إنه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام
نقطة شائكة، وهي: أن أدوات التغيير ليست صناعة محلية، إنه في مأزق لم
يعرفه الثوري في الغرب، وهو مأزق نفسي مرير، فبينما يتسلح الأوروبي
بالماركسية وهي صناعة أوروبية في وجه الدين المسيحي وهو بضاعة مستوردة
يفاجأ الثوري في الشرق بأنه يقف في الطرف المقابل، يستورد الفكر ونظريات
التغيير من أوروبا، ليواجه حضارة متدينة من آلاف السنين؛ لهذا: يكون موقف
المنتمي إلى اليسار في بلادنا هو رد فعل لجوهر هذه الحضارة، وردود الفعل تتسم
بالتضخم والانفعال والمبالغة، ومن ثم: يصبح الموقف من الدين هو نقطة البدء
عند اليساري العربي، وليس كذلك موقف اليميني من الدين؛ لأنه يرى فيه منذ
البداية مسنداً مريحاً للكسل العقلي، وعاملاً خطيراً في توطيد مصالحه الاجتماعية،
فأغلبية الجماهير الشعبية متدينة وجاهلة، وبالتالي: يمكن الاعتماد عليها من هذه
الزاوية، خاصة إذا كانت هي الهدف في الاستغلال الاجتماعي) [1] .
لا يخفى ما في هذا الكلام من تعامل (مكيافيلي) مع الدين، فقد كان يتمنى
الكاتب لو لم توجد هذه العقبة في وجه اليساري العربي، حتى يجد الطريق ممهداً
لبسط مقولاته، كما فعل رفيقه في الغرب، ولكن ما دام الواقع غير ما يتمنى فعليه
أن يكيِّف مقولاته مع هذا الواقع، وذلك حتى يوجه مؤسسة الدين لخدمة توجهه،
وانتزاعها من قبضة اليمين (فإن الدين كان وما يزال مؤسسة قوية من مؤسسات
اليمين) ! [2] يتخذه تُكأة لتزكية الأوضاع القائمة والمحافظة عليها.
وجب إذن تفسير النصوص الدينية تفسيراً ثوريّاً تقدميّاً، بدل التفسير الرجعي
المتخلف الذي يعكس الاختيارات اليمينية المحافظة، يقول يساري آخر: (إن العِلم
الاشتراكي علم عصري جدّاً، وأجنبي بالنسبة إلينا، وهذا سبب من الأسباب
الجوهرية في أن الاشتراكية ما زالت غير واضحة بالنسبة لجماهير الشعب ...
والحقيقة: أن الدين الإسلامي وهو دين الغالبية عندنا قد فسر تفسيرات رجعية
كثيرة (!) .. وما تزال هذه الأفكار والتفسيرات الرجعية (!) متغلغلة في واقعنا
حتى اليوم، فالدين الإسلامي لا يتناقض أبداً مع جوهر الاشتراكية (!) ، فهو دين
قائم على التكافل، وليس المطلوب أن نعود إلى تطبيق أنظمة قديمة ونتجاهل النظم
الحديثة، وهي نظم علمية تم تجريبها وثبت نجاحها! ، وإنما المطلوب أن نوضح
أن الخطوط العامة في الإسلام لا تتعارض مع الاشتراكية؛ وبذلك: نستطيع أن
نستميل (!) الجماهير إلى الاشتراكية) [3] .
فالغرض إذن: ليس هو الاسلام، بل التمكين للاشتراكية في الواقع الإسلامي
من خلال استغلال مَصْلحي للدين.
إن هذه الأقوال تُصَيّر الدين لعبة بين قطبي اليمين واليسار، وأداة لتوجيه
الجماهير في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو عندهم لا حقيقة له مستقلة تُميّزُه، فلا
يُتصور أن تقوم جماعة بحمل رسالة هذا الدين دون أن تخضع لهذا التصنيف
الثنائي (يمين أو يسار) ، وهذا منطق يعكس نظرتهم الابتدائية للدين، كما يجدون
ذلك مكتوباً في أدبياتهم ومنطلقاتهم الفكرية.
وانطلاقاً من هذه النظرة: فقد امتدت أقلامهم إلى نصوص القرآن، يؤولونها
تأويلات تتفق مع خطهم الفكري، وكان لهم في ذلك اعتداء بيِّن، واعتساف سافر
على أصالة النص القرآني، وظهر جليّاً كيف يُصيّر القرآن تابعاً لا متبوعاً، وكيف
تفعل النزعات المذهبية بأصحابها.
نموذجان للانحراف الفكري:
وأُورِدُ فيما يلي نموذجين يصوّران هذا المسخ الفكري:
النموذج الأول: يتعرض (عباس صالح) للحديث عن الأبعاد (الثورية) لقوله
(تعالى) : [عَبَسَ وَتَولَّى (?) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ... ] [عبس: 1، 2] ، فيقول:
( ... فالإسلام في حاجة إلى تأييد القوي، وليس في حاجة إلى تأييد الضعفاء، إلا
أن هذا الموقف كان مخطئاً، فالدين الجديد يحمل بذور الثورة الاجتماعية، ورجاله
الحقيقيون هم هؤلاء الضعفاء، ولذلك: سرعان ما نزل القرآن يعتب على النبي -
صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف، حتى يصبح صحابته المقربون هم: صهيب،
وبلال، وياسر، وعمار، وسلمان، وأبو ذر.. وغيرهم من العبيد والضعفاء،
الذين كانوا يكوّنون بطانته الحقيقية ... ) [4] . وهذا التحليل السخيف يصادم
حقائق تاريخية تثبت أن من المسلمين الأوائل أغنياء استجابوا للدعوة وبذلوا في
سبيلها الأموال والأنفس، وما نالهم من الأذى ليس بأقل مما نال إخوانهم من الفقراء.
وكأن الكاتب بمثل هذا القول يريد أن يرسي قاعدة جديدة، هي قاعدة:
(الفقراء بعضهم أولياء بعض) يستبدلها بقاعدة: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] [التوبة: 71] .
إنه يريد إيهامنا بوجود حاجز بين أبي بكر وعثمان ومن إليهما من الأغنياء،
وبلال وصهيب وسلمان ومن خلفهم من الضعفاء، والواقع التاريخي يثبت أن
الإسلام صهر هؤلاء جميعاً في بوتقة إيمانية واحدة شعارها: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] .
ولكن لا يليق في التحليل المادي أن نتحدث عن الإيمان والتقوى، فهو حديث
رجعي متجاوَز! .
النموذج الثاني: يتعلق بتعليل مادي قدمه الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي لحكم
تحريم الخمر والميسر؛ وذلك ضمن كتابه: (محمد رسول الحرية) .
يقول متحدثاً عن الوضع النفسي المتأزم الذي آل إليه المسلمون عقب هزيمة
(أحد) :
(روّع محمداً مناظر الرجال البواسل الذين ناضلوا معه في بدر وأحد، وهم
ينحدرون في يأس هائل، فما يفيق الواحد منهم من الخمر، وما يغادر أماكن القمار
إلا ليستمتع بإحدى المغنيات أو الراقصات اليهوديات ... وأخيراً.. أطلق (يعني:
محمداً) منادياً يدعو الناس إلى ترك الخمر؛ فقد حرمت، فلا يقربونها، وعليهم ألا
يقربوا الميسر ولحم الخنزير) [5] .
والتحريم عند الكاتب كان لغرض اجتماعي بحت، يقول معللاً حكم التحريم:
(.. ليدفعوا أموالهم لأسر الشهداء، بدلاً من تبديدها في الخمر والقمار ولحم
الخنزير) [6] .
والكاتب لا يُخالَف في كون الإسلام اعتنى بمسألة التكافل الاجتماعي، وشرع
من الأحكام ما يكفل تحقيق هذا الأمر والنهوض به، ولكنّ القرآن يُقَرّر صَرَاحة أن
عِلة تحريم الخمر كانت شيئاً آخر، مخالفاً تماماً لما ذكره (الشرقاوي) ، فقد قال
(تعالى) : [إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] [المائدة: 91] .
وهذا التعليل القرآني ورد مباشرة عقب حكم التحريم، ولكن الكاتب تعامى
عنه وراح يسوق تعليلاً ماديّاً بعيداً.
بمثل هذه التأويلات الفاسدة حاول اليساريون العرب تضليل العامة، وإيهامهم
أن الدين الإسلامي لا يتناقض مع الاشتراكية، بل هي صميمه وجوهره، ولكنهم
مع ذلك لم ينالوا من حقائقه شيئاً، بل الذي وقع: أن تلك الدعوات أفلست في
منشئها وتبرأ منها أصحابها، وتساقطت تبعاً لذلك تلك التأويلات (التقدمية)
(الثورية) .
كناطح صخرة يوماً لِيُوهِنَها ... فَلَمْ يضِرْها وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِل
وبقي كتاب الله كما كان.
وكذلك الزمان كفيل بكشف زيف وسخف كل الاتجاهات التغريبية التي
تستهدف إخراج النص القرآني عن إطاره الشرعي وسياقه التاريخي، وإخضاعه
للمناهج الغربية البعيدة عنه كل البعد.