مجله البيان (صفحة 2272)

دراسات شرعية

حقيقة الإيمان

(الحلقة الأخيرة)

بقلم: د.محمد أمحزون

قدم الكاتب الحلقة الأولى من الموضوع بالأسباب التي دعته إلى الكتابة فيه،

ثم الغرض من كتابته، ثم شرع في بيان مصطلح «الإيمان» في اللغة، وعلى

مستوى الدلالة في سياق القرآن والحديث، وكذلك مفهومه في الكتاب والسنة، ثم

تحدث عن ركني الإيمان: القول والعمل، ويفصل في هذه الحلقة الحديث عن

جوانب أخرى من الموضوع.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

من عرى الإيمان:

أ - إفراد الله بالحكم:

إن إفراد الله (عز وجل) بالحكم، أو تحكيم شريعته في شؤون الحياة كلها:

عروة من عرى الإيمان وأصل من أصول الاعتقاد، فقد جاءت الآيات القرآنية

مؤكدة أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير شرع الله

من صفات المنافقين.

وإذا كان جوهر الإيمان هو الانقياد والخضوع والطاعة، فلا يتحقق ذلك إلا

بقبول أحكام الشرع والإذعان لحكم المخبر.

ولقد جاءت الآيات المحكمات الدالة على اتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها

مذيلة بوصف الفلاح والخير لمن امتثل أمر الله وأطاع رسوله.

قال (تعالى) : [وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ

بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ

مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ] إلى قوله (تعالى) : [إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ

وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] ... ... [النور: 47- 51] .

ففي الآية الأولى نفى الله (جل ثناؤه) الإيمان عمّن تولّى عن الطاعة والامتثال

وإن كان قد أتى بالقول، وفي الآية الثانية جعل (جل ذكره) تحكيم الشريعة شرط

الإيمان الذي لايتحقق إلا به.

وقال (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .

يقول أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية: «يعني (جل ثناؤه) بقوله:

فليس الأمر كما يزعمون أن يؤمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت،

ويصدوا عنك إذا دُعُوا إليك يا محمد، واستأنف القسم (جل ذكره) فقال: [وَرَبِّكَ]

يا محمد [لا يُؤْمِنُونَ] أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك [فَلا وَرَبِّكَ لا

يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] حتى يجعلوك حكماً بينهم فيما اختلط بينهم

من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه ... ثم يفسر نفي الحرج بنفي الشك في طاعته

وأن الذي قضى بينهم حق لا يجوز خلافه» [1] .

وقال (تعالى) : [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن

يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]

[الأحزاب: 36] .

يقول النسفي في تفسير هذه الآية: ( ... وإن كان العصيان عصيان رد،

وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر

واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق) [2] .

ويستخلص مما سبق: أن تحكيم الشريعة في حياة الناس أصل من أصول

الاعتقاد؛ فمن ردّ الأمور إلى شرع الله (تعالى) فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن

لم يرض بتحكيم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصول الدين وفروعه

فهو معترض على دين الله، ولا يكون مؤمناً وإن زعم ذلك كما قال (تعالى) : [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاًً بَعِيداً] [النساء: 60] .

كما أن الذي لا ينقاد ويخضع لشرع الله وإن كان مصدقاً به فهو كافر؛ لأن

الكفر لا يختص بالتكذيب فقط، بل هو أنواع، منه: كفر إباء واستكبار، وكفر

استهزاء، وكفر إعراض، وكفر شك ونفاق [3] .

يقول الحافظ ابن عبد البر في هذا الصدد: «قد أجمع العلماء ... أن من دفع

شيئاً أنزله الله ... وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله: أنه كافر» [4] .

لكن إذا كان الحاكم يقرّ بالشريعة وينزل عند أحكامها، ثم حكم في قضية

بعينها بغير حكم الله، إما عن جهل بها أو حكم فيها هوى ومعصية، فهذا ذنب،

وهو الذي عناه ابن عباس (رضي الله عنهما) بقوله: كفر دون كفر [5] ، ويدل

عليه قول الرسول: «لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة

تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة» [6] .

أما من يعتقد أفضلية القانون الوضعي على شرع الله أو مساواته له، أو

ينتقص أحكام الشريعة بقوله: إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت

فسقطت أحكامها، أو أنها لا تفي بمتطلبات العصر المستجدة، أو شرع ما لم يأذن

به الله؛ فأحل حراماً أو حرّم حلالاً، فهذا كافر مرتد لا إيمان له، وإن صام وصلى

وزعم أنه مسلم.

ب- إفراد الله بالولاء:

إن الولاء والبراء هو أوثق عرى الإيمان، ولازم من لوازم التوحيد، وهو

بهذا جزء مهم من العقيدة التي تعدّ معرفتها والعمل بها أمراً ضروريّاً بالنسبة للمسلم؛ ليكون ولاؤه، وبراؤه بحسبها، إذ من المحال أن يكون صحيحاً بدون تحقيق

الموالاة والمعاداة الشرعية.

والنصوص الشرعية التي تدل على أهمية هذا الأصل كثيرة، منها:

قول الله (جل ذكره) : [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ

حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ

فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ] [المجادلة: 22] .

وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ

اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [التوبة: 23] .

وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]

[المائدة: 51] .

وقال (تعالى) : [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ

أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 81] .

أما الأحاديث النبوية الواردة في الولاء والبراء، فمنها قول النبي -صلى الله

عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله» [7] ،

وقوله: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله،

والبغض في الله» [8] ، وقوله: «من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله: فقد استكمل إيمانه» [9] .

وفي العموم: إن الولاء للمسلمين بمحبتهم، ونصرتهم، والاهتمام بشؤونهم،

والنصح لهم، والدعاء لهم، ومواساتهم: من مقتضيات تحقيق الإيمان الشرعي،

كما أن البراءة من الكافرين والمنافقين ببغضهم، والحذر من التشبه بهم، ومخالفة

مناهجهم: من لوازم تحقيق الإيمان.

فالتميز والمفاصلة أمران ضروريان للمسلمين في هذا العصر، فليس هناك

أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق مع أَعْداء الدين من اليهود،

والنصارى، ومن سار على دربهم من المنافقين.. إنما هو الاستمساك بالدين

الخالص في كل نواحي الحياة، والثبات على منهج الدعوة الأول، وإلا فهي البراءة

الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح: (لكم دينكم ولي دين) [10] .

التلازم بين الحكم بما أنزل الله والولاء والبراء في القرآن الكريم:

عندما تؤمن الأمة إيماناً كاملاً بأن الشريعة الإسلامية هي هويتها ودستور

حياتها، وأن مبادئها وقيمها هي منهاج تعاملها فيما بينها ومع الآخرين: فإنها

ستحرص على تطبيقها؛ لأنها مصدر عزتها وقوتها وكرامتها، ومن ثم: ستحافظ

عليها، وتعادي وتوالي من أجلها، وستعتبر أي مساس لسلطانها وسيادتها خيانة في

حق هذا الدين.

أما عندما يغيب التحاكم إلى شرع الله من حياة المسلمين، فإن الفراغ الرهيب

في حياتهم ستملؤه النظم والقوانين والمناهج المستوردة التي تعمل على صنع أجيال

متمردة على حكم الله بالسياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية، ومن ثم: تذوب

الفواصل بينهم وبين أعدائهم، فيتشبهون بهم في وسائل العيش وطرق الحياة

المختلفة، لأن المغلوب لا يزال مقلداً للغالب في كل شيء.

ولهذا أمر الله (جل ثناؤه) في كتابه الكريم بعدم تتبع أهواء الذين كفروا من

أهل الكتاب والاحتكام إلى نظمهم الجاهلية، بما يقتضي عدم موالاتهم والبراءة منهم، وذلك في موضعين من القرآن الكريم، قال (تعالى) : [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ

اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا

فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]

[المائدة: 49] ، وقال (جل ذكره) : [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] .

ج - إفراد الله بالنسك:

لم يجعل الله (سبحانه وتعالى) لأحد من المخلوقين سواءً أكان نبيّاً أو مَلَكاً أن

يستعان به، أو ينذر له، أو يستغاث به، أو يرغب إليه، أو يذبح له، أو يقسم ... به...... فلا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من الصالحين [11] .

فالله (سبحانه) هو المعبود بحق، فلا يُحلف إلا به، ولا ينذر إلا له،

ولايدعى إلا إياه، ولا يستغاث ويستعان إلا به، ولا يذبح إلا باسمه، قال (تعالى) :

[فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] [الأنعام: 118] .

وقد كان المشركون يخوِّفون إبراهيم الخليل (صلوات الله وسلامه عليه)

بمعبوداتهم، فردّ عليهم بقوله: [وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم

بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]

[الأنعام: 81] .

وفي الصحيح عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا

وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيّنا لم

يظلم؟ فأنزل الله: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [12] [لقمان: 13] .

وقال (تعالى) : [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ

(162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .

والمقصود بالإسلام هنا: الإيمان بالله، وعبادته وحده لاشريك له.

ولما كان النسك من أعظم العبادات وأجلها كما قال ابن تيمية (رحمه الله) فإن

خرم هذا الأصل من أصول الاعتقاد من ثلاثة أوجه يعد شركاً ونفياً للإيمان:

أن يتقرب إلى المخلوق بأنواع العبادات والقربات ليقربه إلى الله زلفى.

أن يتخذ عند الله شفعاء عنده بغير إذنه.

أن يدعو الموتى ويتوجه إليهم مباشرة بالدعاء والاستعانة والاستغاثة [13] .

مراتب الإيمان:

أ - الإيمان المجمل:

هو الإقرار بما جاء به الرسول جملةً، وتصديقه في كل ما أخبر به عن ربه

من: الكتب، والملائكة، والنبيين، ومقادير الخلق، وأحوال الآخرة.. إجمالاً؛

لقوله (تعالى) : [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ

وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ] [البقرة: 285] .

وهو أصل الإيمان؛ لقوله (تعالى) : [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَا

أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأََسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى

وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أََحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [البقرة:

136] ، فذكر (جل ثناؤه) الإيمان المجمل المتعلق بأصل الدين؛ وذلك لأن الإيمان

الواجب يستثنى فيه ولا يقطع به، والله أمرنا هنا بالقطع.

وكذلك: فهو الإقرار بالشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ؛ لأن أول

واجب على المكلف هو التلفظ بهما إيماناً مجملاً بألا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما

شرع على لسان رسوله.

ويعرّف ابن تيمية (رحمه الله) المجمل: «بما لا يكفي وحده في العمل وإن

كان ظاهره حقّاً» [14] .

ويدخل في الإيمان المجمل: الظالم لنفسه، كما في قوله (تعالى) : ... [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) .

فالذين اصطفى الله (عز وجل) هم المسلمون بمراتبهم الثلاث: الظالم لنفسه

وهو من تحقق فيه الإيمان المجمل، والمقتصد من أهل الإيمان الواجب، والسابق

بالخيرات من المحسنين.

فعصاة أهل التوحيد يدخلون في دائرة الإيمان المجمل؛ لقول النبي -صلى الله

عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين

يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن» [15] فهذه

المعاصي تخرج فاعلها من دائرة الإيمان الواجب إلى دائرة الإيمان المجمل.

يقول ابن تيمية (رحمه الله) : «والخطاب بالإيمان [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا]

يدخل فيه الذين أسلموا ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن جزءاً من الإيمان

والإسلام يثابون عليه (الإيمان المجمل) ، لكن يعاقبون على ترك المفروضات

(الإيمان الواجب) ، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية (من سورة الحجرات)

وغيرهم، فإنهم قالوا: [آمنا] من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً، فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم ... النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد، وقد يكونون من أهل الكبائر المعرّضين للوعيد، كالذين يصلون ويتركون، ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون (يقصد الإيمان المجمل) .

فدل هذا كله على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك

الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض عليهم من الجهاد،

وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم: لم يكونوا من الصادقين الذين

وصفهم [16] ، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام ...

فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار: أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام

الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإسلام المؤلفة

قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نجد. وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان المنافقين

الذين هم في الدرك الأسفل من النار، بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في

قلوبهم تكذيب ومعاداة الرسول (الإيمان المجمل) ، ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان

ولا استبصروا به (الإيمان الواجب) » [17] .

وهناك قضية رئيسة ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الإيمان المجمل ليس

وحده طوق النجاة في الآخرة، بل هو الخطوة الأولى للدخول في الدين، إذ لا بد

من فعل الأمر وترك النهي لتحقيق الإيمان الواجب، فأهل السنة يقررون أن ترك

العمل بالكلية هو ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به؛ لأن الإيمان قول وعمل،

والعمل الصالح هو مناط النجاة في الآخرة.

أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناده إلى عمرو بن عثمان الرّقي قال: ... «قيل لابن عيينة: إن قوماً يقولون الإيمان كلام، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا (لا إله إلا الله) ، فلما علم صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار» فذكر الأركان، إلى أن قال: ... «فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ... [المائدة: 3] ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحداً كان كافراً» [18] .

ويقول ابن تيمية: «ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه،

بأنّ الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله

سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع،

ولا يصدر هذا إلا مع نفاق وزندقة، لا مع إيمان صحيح» [19] .

ب- الإيمان الواجب:

هو ما زاد عن الإيمان المجمل بفعل الواجبات وترك المحرمات [20] ، كما

في قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ] [الزخرف: 69] وقوله

(تعالى) : [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] [الحج: 50] وقوله (عز من قائل) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة:

208] ، يدعوهم باسم الإيمان المجمل ليحققوا الإيمان الواجب بالأخذ «بجميع

عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره» [21] ،

وقوله (جل ذكره) : [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا]

[الحجرات: 14] فهنا نفى الله (عز وجل) عنهم الإيمان الواجب، وأثبت لهم

الإيمان المجمل أو الإسلام العام، كما أن الإيمان المراد في الآية هو الإيمان

المستحب، وهو أعلى درجة من الإسلام.

وبيّن الله (تعالى) الإيمان الواجب بعد ذلك في السورة نفسها بقوله (جل ثناؤه) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] [الحجرات: 15] ، كما بيّنه في سورة الأنفال: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ

إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (?) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (?)

أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً] [الأنفال: 2- 4] .

والإيمان الواجب يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا

ذهب بعضه بقي بعضه، خلافاً لرأي أهل البدع من الخوارج والمرجئة في ... المسألة [22] ، ومن خرج منه بترك بعض الفرائض أو ارتكاب بعض المحرمات انتقل إلى دائرة الإيمان المجمل أو مطلق الإيمان.

ويعدّ الإيمان أعلى درجة من الإسلام عند الاقتران؛ ففي حديث أبي هريرة

(رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم من سلم

المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» [23] .

ففسر «المسلم» بأمر ظاهر، وهو سلامة الناس منه، وفسر «المؤمن»

بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم، وهذه الصفة أعلى من تلك؛ فإن

من كان مأموناً سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأموناً، فقد يترك

أذاهم وهم لا يأمنون إليه ويثقون به؛ خوفاً أن يكون ترك أذاهم لا لإيمان في قلبه،

بل لرغبة أو لرهبة في نفسه [24] .

وكذلك حديث عمرو بن عَبَسة مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً قال له: ما الإسلام؟ قال: (إطعام الطعام، ولين الكلام) ، قال:

فما الإيمان؟ قال: (السماحة، والصبر) [25] .

فإطعام الطعام ولين الكلام عملان ظاهران يفعلهما الإنسان لمقاصد متعددة،

وأما السماحة والصبر فخلقان في النفس، وهذا أعلى من ذاك [26] .

فالمؤمن لا يرتاب في المحنة أو الفتنة التي تزلزل الإيمان في القلب: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .

وبما أن الريب ضد اليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً فإن الإنسان لو كان

عالماً بالحق، لكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعاً: لم يكن صاحب يقين، ففي

مواطن الابتلاء والشدة تظهر حقيقة الإيمان بالصبر والثبات على المبدأ، والموفق

من وفقه الله عز وجل.

ج- كمال الإيمان (الإيمان المستحب) :

هو ما زاد عن الإيمان الواجب من الأعمال المستحبة والمندوبة، وهي

المرتبة التي ينال بها المسلم علو الدرجة والمنزلة العالية.

وكمال الإيمان يجمع كمال الإخلاص لله والإتيان بالفعل الحسن على الوجه

الذي يحبه الله (عز وجل) ويرضاه، لقوله (تعالى) : [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ

مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة: 112] ،

وقال (تعالى) : [لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] [يونس: 26]

ومن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: «أكمل المؤمنين إيماناً

أحسنهم خلقاً» [27] . وسئل (عليه الصلاة والسلام) : أي الإسلام خير؟ قال: ... «تطعم الطعام، وتَقْرَأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [28] ، وفي حديث

جبريل (عليه السلام) جعل مرتبة الإحسان أخص من مرتبة الإيمان [29] .

وصح عن عمار بن ياسر (رضي الله عنهما) أنه قال: (ثلاث من كن فيه

فقد استكمل الإيمان وفي رواية: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف

من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم «) [30] .

والوسيلة لبلوغ درجة الكمال: أن الإيمان كلما ازداد وقوي زاد معه العمل

الصالح، ولذلك: كان ابن مسعود (رضي الله عنه) يقول في دعائه:» اللهم زدنا

إيماناً ويقيناً وفقهاً « [31] ، وقال مالك بن دينار:» الإيمان يبدو في القلب

ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة

وأماط عنه الدَغَل وما يضعفه ويوهنه أوشك أن ينمو ويزداد، ويصير له أصل

وفروع، وثمرة وظل، إلى ما لا يتناهى، حتى يصير أمثال الجبال، وإن صاحبه

أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفتها، أو صبي فذهب بها، أو أكثر عليها الدغل،

فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان « [32] .

إذن: فحقيقة الإيمان الشرعية التي تقرر نصوص الكتاب والسنة بأنها مركبة

من ركني القول والعمل تشهد بالترابط بين مراتب الإيمان الثلاثة، كالترابط

الحاصل بين حلقات السلسلة، يشد بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً.

بل إن التلازم حتمي بين المرتبة الأولى والثانية في أن العمل لا ينفك عن

الإيمان الباطن، وأن كليهما مناط النجاة في الدنيا بعصمة الدم والمال واستحقاق

الأخوة من المؤمنين، وفي الآخرة بالنجاة من سخط الله وعذابه.

ويظل المعيار الحقيقي للحكم على حقيقة الإيمان هو معيار الصدر الأول

وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي -صلى الله عليه

وسلم- حين اكتمل الإيمان في واقع الجيل القدوة ونفوسهم قولاً وعملاً، فأنزل الله

(تعالى) في حجة الوداع في يوم الجمعة في عرفة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [33] [المائدة: 3] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015