مجله البيان (صفحة 2259)

قصة قصيرة

موت مدينة

بقلم:محمد علي البدوي

رائحة الموت تفوح في أطراف المدينة، الصمت شبه مطلق يلتحف المكان،

وأصوات الرصاص تخترق حاجز الصمت، الأبنية المهدمة وبقايا الشظايا

المتطايرة قد رُسِمَتْ بوضوح على الجدران المتهالكة، الجثث متناثرة في كل مكان، تنبعث منها روائح مقززة.

على أطراف المدينة المنكوبة وقف (آدم) طالب الجامعة يعانق بناظريه بقايا

مدينته المحتضرة، وحديث هامس في داخله: (ما الذي جرى لك يا مدينتي؟ جرح

الأمس لم يندمل حتى يحدث فيك بنوك جرحاً آخر؟ إلى من توجه هذه الأسلحة؟

ولمصلحة من تسيل كل هذه الدماء؟) .

كانت الأسئلة المدببة تطنّ في رأسه بقوة، وأفكار حزينة تعصف به وهو

يتخطى الجثث الملقاة على قارعة الطريق (كل هذه الوجوه أعرف أصحابها! إنهم

أبناء مدينة واحدة، بل أبناء عمومة، ما الذي أصابهم؟ ! هم أنفسهم يدفعون ثمن

هذه الحروب الملعونة) .. وأمام ما بقي من أطلال منزله وقف طويلاً، لم يستطع

أن يتقدم أكثر من ذلك، صور الماضي الجميل تتراقص أمام عينيه وبقايا الأمس

المنصرم تنداح في ذاكراته، ومن بعيد كانت أصوات القنابل ودوي القذائف حبلى

بالقلق، محملة بالخوف من المجهول، بينما المدينة ما تزال تحترق، وهم

يتراقصون في نشوة، فيزداد وقع المأساة في نفسه، ويعاود الحديث في داخله:

(إنهم يرقصون فرحاً بالانتصار! وأي انتصار هذا وفيهم القاتل والمقتول؟ ! وبأي

شيء انتصروا؟ رباه ... رباه أي عقول هذه) .

أقدامه المترهلة تعجز عن حمله، وجسمه النحيل لم يعد يقوى على حمله،

وقد أعياه المسير وأضناه التعب، فوقف أمام معسكر للقوات الأجنبية، كانت

القبعات الزرقاء تنتشر بكثرة، وعيونهم المشوبة بالزرقة تبعث في نفسه مزيداً من

التقزز، صدى ضحكاتهم العالية يطنّ في أذنيه، وهو يشاهد الكؤوس المترعة تفوح

منها رائحة الجريمة، وفتاة مستلبة ترقص في خجل رقصة النصر! ، لم يتمالك

نفسه، قام على الفور يتهاوى في مشيته كالمخمور، بينما شريط المأساة أخذ يتجلى

أما عينيه في وضوح لم تحجبه دموعه الغزيرة التي أخذت تتساقط في حرقة وألم،

غاب في بقايا المدينة المنكوبة، وصور كثيرة أخذت تلاحقه (المدينة التي ما زالت

تحترق، الجثث الملقاة على قارعة الطريق، الفتاة إياها ترقص في خجل، القبعات

الزرقاء، الدم المستباح يجري في غزارة) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015