سياسة شرعية
القانون الدولي الإسلامي.. (علم السير) ..
مفهومه - تدوينه - خصائصه
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
بعد مقدمة عن شمول الشريعة الإسلامية لكافة مناحي الحياة ومرونتها في استيعاب القضايا الجديدة أخذ الكاتب في الحلقة الماضية في تعريف (القانون الدولي الإسلامي) (علم السير) شارحاً ومحللاً لعدة تعريفات، ومتطرقاً لبعض المسائل العلمية حول الموضوع، وفي هذه الحلقة يعالج بعض خصائص القانون الدولي الإسلامي.
- البيان -
تتميز أحكام القانون الدولي الإسلامي (علم السير) بمجموعة من الخصائص
التي تميزها عن غيرها من الأنظمة القانونية؛ فأحكام القانون الدولي في الإسلام
ليست قواعد وضعية يمكن أن تتناول أصولها يد البشر بالتعديل والتبديل كلما عنّ
لهم ذلك، بل هي أحكام شرعية تكون جزءاً لا يتجزأ من الشريعة السمحة، - التي
تنظم كل جوانب الحياة مستقاة من آيات الله البينات وسنة رسوله؛ فأول مصادرها
الكتاب الكريم ثم السنة المطهرة، دون أن نغفل أهمية المصادر الأخرى:
كالمعاهدات التي عقدها الخلفاء، والأوامر والوصايا التي كانوا يبعثون بها إلى
أمراء الجيوش، وكذلك إجماع الفقهاء، بوصفها كلها مصادر مكملة أو تابعة.
وتضفي طبيعة الدعوة الإسلامية صبغة خاصة على القانون الدولي الإسلامي؛
بحيث يبتعد مفهومه بعض الشيء عن القانون الدولي بمعناه المألوف؛ فالقانون
الدولي كما عرّفه رجال القانون هو: مجموعة القواعد التي تنظم العلاقة بين
مجموعة من الدول في الحرب وفي السلم، بين مجموعة من الدول المستقلة المكتملة
السيادة التي تترابط عرفاً أو اتفاقاً على قدم المساواة، وعلى أساس التبادل المطلق،
وهو يقوم على مبدأ الإقليمية، فينبسط سلطان الدولة بحسب الأصل على أرضها
وما فوقها وما تحتها دون أن يمتد إلى ما وراء ذلك.
هذا المفهوم لا تعرفه الشريعة الإسلامية، إذ إن الدعوة الإسلامية بطبيعتها
دعوة عالمية، تقوم على اعتبار شخصي إنساني وليس على اعتبار إقليمي، إذ لا
يتصور بالنسبة لها: أن تكون الحدود الإقليمية عامل تفرقة بين المسلمين [1] .
وعلى هذا: يمكن أن نبرز بإيجاز أهم الخصائص التي تتميز بها أحكام
القانون الدولي والعلاقات الدولية في الإسلام فيما يلي:
1- أحكام القانون الدولي في الإسلام ترجع في أسسها العامة إلى الوحي:
وهذه الخاصية هي أهم الخصائص، ومنها تنبثق سائر الخصائص؛ فالإسلام
دين رباني كامل، ينظم الحياة ويَحكم كافة جوانبها، وبما أن القانون الدولي
الإسلامي (علم السير) جزء من الفقه الإسلامي الذي يقوم على الشريعة كتاباً وسنة
فإنه يقوم على الوحي الإلهي، وكل فقيه مقيد في استنباطه للأحكام بنصوص هذين
المصدرين أو الأصلين الأساسين عندما تسعفه النصوص بذلك، وإلا فهو مقيد
باتباع قواعد الشريعة ومرعاة مقاصدها وأصولها [2] [حالة الاجتهاد فيما لا نص
فيه] .
وإلى هذا المعنى يشير (ابن خلدون) بقوله عن أحكام الله (تعالى) في المكلفين: (وهي: متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا
استخرجت الأحكام من الأدلة قيل لها: فقه) [3] .
وينص الله (تعالى) في كتابه الكريم على أن هذا الدين كله وحي منه (سبحانه)
لهداية البشرية، ورحمة منه لها، فقال (سبحانه) : [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ
أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الشورى: 52] ، ومهمة الرسول (عليه
الصلاة والسلام) ووظيفته هي البلاغ والبيان: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ
مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
القَوْمَ الكَافِرِينَ] [المائدة: 67] .
وتأسيساً على هذه الخاصية في رجوع الأحكام إلى الوحي واستنادها إليه
ليكون تشريعاً إلهيًّا ربانيًّا، فإنه لا مساغ لتقسيم التشريع الإسلامي إلى تشريع إلهي
وتشريع وضعي، كما ذهب إليه بعض الكتّاب في النظام الدستوري الإسلامي [4] .
وكما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع إلى نوعين: ابتداء وهو خالص
حق الله، وابتناء وهو يمكن أن يكون للبشر [5] ؛ فإن للبشر حق الاجتهاد
بضوابطه الشرعية، وليس لهم حق التشريع.
وهذه الخاصية تميز أحكام العلاقات الدولية في الإسلام عن سائر الأنظمة
والقوانين الوضعية التي وضعها الناس لأنفسهم في القديم والحديث والتي لا نجد لها
من الهيبة والاحترام كما نجده للتشريع الإلهي.
وهي كذلك ضمانة لتوحيد كلمة الأمة كلها على منهج واحد ونظام واحد عندما
تلتقي على هذا الوحي بما فيه من موازين لا تضطرب ولا تتأرجح، ولا تتأثر
بالهوى والعصبية والدوافع الذاتية.
2- ارتباط أحكام العلاقات الدولية بالعقيدة والأخلاق:
وهذه الخاصية منبثقة عما قبلها، ومظهر من مظاهرها، فقد عني القرآن
الكريم كما عنيت السنة النبوية بالعقيدة التي تقوم على أساس الإيمان بالله (تعالى)
ربًّا متفرداً بالخلق، وإلهاً متفرّداً بالأمر والنهي، فلا عبودية إلا له؛ وبذلك يتحرر
الإنسان من كل عبودية لغير الله [6] .
فمن الأصول المقررة في الإسلام: أنه يشمل جانبين رئيسين هما: العقيدة
والشريعة، والعقيدة هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بالإيمان، والشريعة هي
النظم التي شرعها الله (تعالى) أو شرع أصولها ليأخذ المسلم بها نفسه في علاقته
بأخيه المسلم، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون وبالحياة من حوله، والعقيدة هي
الأصل الذي تنبثق عنه الشريعة وتقوم عليه، والإسلام حتّم الترابط بينهما؛ ولذلك: فمن آمن بالعقيدة وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وألغى العقيدة لا يكون مسلماً
ولا سالكاً في حكم الإسلام سبيل النجاة [7] .
ومن هنا: كانت أحكام العلاقات الدولية كغيرها من جوانب الفقه الإسلامي
ذات اعتبارين: قضائي ودياني، فالقضائي يحاكم العمل بحسب الظاهر، أما الديانة: فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع، فالأمر (أو العمل) الواحد قد يختلف حكمه في
القضاء عنه في الديانة [8] ؛ ولذلك: نجد الفقهاء يميزون بين ما ينفذ من الأحكام
ظاهراً وباطناً وبين ما ينفذ ظاهراً: تأسيساً على هذا [9] .
ومن هنا قالوا: من ادعى خلاف الظاهر لا يصدق قضاءً، إلا إذا كانت
دعواه على نفسه، لأنه غير متهم في حق نفسه، ويصدق فيما بينه وبين الله
(تعالى) ، وقد أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المعنى فيما روته أم
المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) ، عن رسول الله: (أنه سمع خصومة بباب
حجرته، فخرج إليهم فقال: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً
فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) [10] .
وهذه العقيدة تمتزج بالأخلاق، فتهذب النفس وتربي الوازع الذاتي، فتجعل
منه محكمة داخلية في نفس المسلم، ينتصف من نفسه قبل أن ينتصف هو من
الآخرين [11] .
ومن الواضح أن القانون الإسلامي يعلق أهمية غير قليلة على القيم الأخلاقية، لقد كان هناك علم وحيد يشغل المسلمين في أول ذلك الأمر هو تعاليم دينهم،
وسرعان ما تولدت عن ذلك علوم شتى ... وعندما نالت فروع الفقه الإسلامي ومنها
القانون الدولي مركزها، علوماً مستقلة بذاتها، فإنها ظلت تحتفظ بقيمها الأخلاقية،
وكان على أحكام هذه القوانين أن ترتكز في قوة إلزامها إلى القرآن الكريم والسنة
النبوية وهدي السلف الصالح، ولم ينشأ علم إسلامي لذاته مستقلاً عن غيره ودون
نظر إلى ما سواه، وإنما أخضعت كل العلوم للشريعة من أجل الإسهام في خير
الإنسان في الدنيا والآخرة، وبغير الإيمان بالبعث والحساب يكون الإنسان شرًّا من
الشيطان نفسه، وبغير الإفادة من نعم الله التي خلقها لعباده لا يكون الإنسان إنساناً
على الإطلاق، وقاعدة الإسلام هي: خير الأمور الوسط، وتصدق هذه القاعدة
حتى بالنسبة لعلم يعمل في نطاق مادي تماماً كالقانون الدولي الإسلامي، وعلى
الرغم من أن هذا القانون قد انفصل عن القانون العام وعن علم السياسة إلا أنه لم
يكن في قيامه مؤسساً على المنطق الإنساني، ومن ثم: تسوقه الظروف المتباينة
للمناسبات، وإنما كان يحتفظ بأساسه الأخلاقي الثابت؛ إذ يرتكز إلى مصدرين
ثابتين هما القرآن والسنة [12] .
وهناك آيات قرآنية كريمة توجب الالتزام بقانون الأخلاق الإسلامية في
العلاقات الدولية، تماماً كما هي ملزمة في العلاقات الفردية، وقد جاءت السنة
النبوية وأعمال الخلفاء الراشدين وسيرتهم في الجهاد والعلاقات الدولية تطبيقاً عمليّاً
لذلك، ثم بنى الفقهاء كثيراً من أحكامهم في العلاقات الدولية والجهاد على هذا
الأصل العظيم، ومن ذلك: وجوب الوفاء بالعهد، والتحرز عن الغدر حتى ولو
غدر الأعداء بالمسلمين، وتحريم المثلة بالأعداء في الجهاد، وتحريم قتل غير
المقاتِلين، وتحريم استعمال آلات وأدوات يعم ضررها.
وقد أدرك بعض الكاتبين في القانون الدولي قيمة هذه الخاصية ومكانتها،
حيث يرى الدكتور مجيد خدوري: أن الإسلام بوصفه منهجاً للحياة، فإنه يشدد
على أهمية المبادئ الخلقية في العلاقات الدولية، بصرف النظر عن العقيدة الدينية، وأن العقيدة الإسلامية بوصفها أساساً للأخلاق دفعت المسلمين لاتخاذ موقف رائع
من التسامح نحو غير المسلمين، والتحلي بمبادئ إنسانية عكسها لنا مضمون
الأحكام التي استنبطوها لحالة الحرب ولسير المعارك مع الأعداء.
والواقع التاريخي الإسلامي، وهذا يصدق على البشر أجمعين يظهر لنا أن أي نظام اجتماعي، على الصعيد الدولي، يفقد معناه إذا خلا كلياً من المبادئ الأخلاقية [13] .
وهذه الخاصية أفاضت على الأحكام هيبة واحتراماً في عقول المخاطبين
بالشرع، وأورثتها سلطاناً على النفوس، كان به الفقه الإسلامي شريعة مدنية
ووازعاً أخلاقيًّا معاً؛ لما فيه من قدسية المصدر القرآني الآمر، ومن الزاجر الديني
الباطن إلى جانب القضاء الظاهر، فلا يحتاج الإنسان إلى قوة مسلطة عليه دائماً
لتلزمه الخضوع لإيجابه، ولا يجد في الإفلات من سلطان حكمه غنيمة إن استطاع
الإفلات سواء أكان عظيماً أو ضعيفاً.
كما ترتب على هذه الخاصية أيضاً: أن يكون لمخالفة الحكم الشرعي جزاء
يتحمله المخالف، وهو يشمل: الثواب عند الطاعة، والعقاب أو الضمان عند
المخالفة.
والجزاء قد يكون دنيويّاً يتولاه الحاكم، أو السلطة العامة في الدولة، كما
يكون جزاءً أخرويّاً عند الله (تعالى) يوم القيامة، ولكن للتوبة أثراً في سقوط العقاب
عند الله (تعالى) ولها أثر في سقوط بعض العقوبات في الدنيا [14] .