مجله البيان (صفحة 2242)

مقال

فرعون باشا.... (1)

فرعون باشا.. نموذج للحاكم المستنير!

بقلم: ياسر قارئ

اقتنعت أوروبا منذ قرون خلت بحتمية تغيير وسيلة المواجهة مع المارد

الإسلامي، ونجحت إلى حد كبير في انتزاع الإسلام من صدور الرجال فضلاً عن

الأراضي، ولولا وجود القابلية لدى بعضهم للتبعية المطلقة ورهن أنفسهم للرجل

الأبيض لكان خراج الأمريكتين وأستراليا يأتي كل عام إلى دار الخلافة في استنبول، ولكن الأمة التي شقيت بنماذج من السفهاء والدخلاء هوت من علوّها ودخلت في

نفق مظلم من السياسات الخرقاء والعلاقات المشبوهة مع عواصم دول ما وراء

البحار؛ فالمستشارون أوربيون، والتعليم على النمط الغربي، والاقتصاد موجه

للتصدير الخارجي، والإصلاحات تصب في مصلحة كل أحد سوى المواطن!

وعلى الرغم من كل هذا: تظل هناك شريحة في المجتمع تملك وقف هذه المهزلة

الحضارية، فلا تفعل؛ لأنه ملبّس عليها، فلا ترى إلا من خلال نظّّارة النظام،

ولقد أنكر العلماء والأهالي على نابليون أفعاله في مصر، التي لا تختلف عما ذكرته

آنفاً، بل وجزموا بكفره على الرغم من إعلانه اعتناق الإسلام قبل أن يطأ الديار

المصرية، ثم إن هذه النخبة الاجتماعية رضخت، وأيدت في كثير من الأحيان

سياسة خلفه الأوروبي المولد والمنشأ مؤسس مصر الحديثة (محمد علي باشا) التي

جرّت على الأمة بأسرها ويلات كثيرة، ليس يغفرها له أحد من المسلمين

المستضعفين الذين تعرضوا للذل والهوان والقهر عقب زوال الدولة العثمانية، تلك

المأساة الفاجعة التي حمل الباشا على عاتقه تحصيلها إرضاءً لأصدقائه وجلسائه

الأوروبيين وعمّاله من أصحاب الديانتين النصرانية واليهودية.

ونظراً لطول الموضوع وتشعبه: فقد قسمته إلى أربعة أجزاء متتالية:

أتحدث أولاً عن سيرته ونشأته، ثم: كيفية توليه السلطة وعلاقة ذلك بالماسونية،

أما الجزء الثالث: فأتطرق فيه إلى سياسته الاقتصادية وآثارها على الوطن

والمواطن، ثم أختم بالحديث عن حروبه ومؤامراته في شبه الجزيرة العربية

والسودان واليونان وبلاد الشام، ومحاربته للسلطان، وفتح الباب أمام الأطماع

الأوروبية لتخرج إلى حيز التنفيذ.

أولاً: سيرته ونشأته:

ولد محمد علي في مدينة: (قولة) أو (قونية) من بلاد مقدونيا سنة ... (1182هـ /1769م) ، وتوفي بالقاهرة سنة (1265هـ /1849م) ، وقد تولى عمّه تربيته، ثم اشتغل بالتجارة في الدخان، وربح منها كثيراً، ولم يتلق أي تعليم حتى قدومه إلى مصر فضلاً عن أن يجيد اللغة العربية [1] ، وكان قد أرسل ضمن الحملة التي أتت لإنقاذ مصر من الفرنسيين، وأصبح رئيساً لإحدى السرايا بعد فرار ابن عمه الذي كان يقودها، فقام بتنظيم الجيش وإصلاحه على الطريقة الأوروبية، واستعان في ذلك بالكولونيل الفرنسي (سيف) الذي غير اسمه إلى سليمان باشا [2] ، كما أنشأ ترعة عظيمة لإصلاح الري، وأقام الجسور على النيل، وأقام المدارس والورش الصناعية واستغنى عن الاستيراد من الخارج، فأصبحت مصر تصنع الطربوش والمراكب والبندقية والمدفع [3] ، كما قام بتجريد أراضي الأوقاف وزراعة منتجات التصدير بناءً على مشورة الفرنسي (وميل) ، وأرسل البعثات إلى فرنسا وعلى رأسها رفاعة الطهطاوي، كما استعان بالأطباء والفنيين والعسكريين الفرنسيين [4] ، ولقد علقّ أحد أحفاده على حبه للعلم قائلاً: (هذا الرجل الذي لا يك تب! كان له فهم عظيم بواجباته كأمير، فكان يحب العلماء ويعرف عدم إمكانية الاستغناء عنهم من أجل تطوير الشعب، وأنشأ في باريس مشتلاً من العلماء الشباب المصريين، وصبر على طول مدة دراستهم، ليحصلوا على الحقائق الغربية. [5]

وفي المقابل: فإن المؤرخ الجبرتي المعاصر للباشا يصفه بأنه: حسود شَرِه

طمّاع، دائم التطلع لما في أيدي الناس أو أرزاقهم، ولم يسلم من ذلك حتى خدمة

(الضربخانة) و (أفنديتها) ، فسعى إلى مصادرة أموالهم [6] . بالإضافة إلى ذلك:

فإن أحد المؤرخين تتبع وصف (الجبرتي) للباشا فخلص إلى أنه: مخادع كذاب

يحلف الأيمان الكاذبة، ظالم لا عهد له ولا ذمة، يضمر السوء ويستخدم العنف

والجور في الوقت الذي يعد فيه بالقول، ولا تنفع لديه شفاعة شيخ، اعتاد أن يحيط

نفسه بالنصارى واليهود، ويمتلك من الحِيَل ما لم يخطر لميكافيللي على بال [7] ،

وفي المقابل: نجد أن أحد المستشرقين يصف الباشا بأنه: أعظم الشخصيات التي

عرفها الإسلام الحديث شأناً، والسبب في ذلك: أنه أبدى إعجاباً شديداً بنعم

الحضارة الأوروبية وبركاتها، فأنشأ مدرسة لتعليم الرياضيات باللغة الإنجليزية،

فيما اعتمد اللغة الفرنسية في العلوم الأخرى [8] ، ولا عجب من هذا التناقض في

تقييم الرجل؛ لأن الباشا هو مصدر هذا الاختلاف بين المؤرخين بسبب سياسته

النفعية والمناهضة للإسلام وأهله.

ثانياً: توليه السلطة:

منذ أن عين قائداً لفرقة في الجيش الذي قدم إلى مصر، أخذ محمد علي في

استمالة الجند إليه وصعّد من خلافه مع (خسرو (باشا الذي تولى حكم مصر حتى

طرده الأهالي، ثم وقع الاختيار على أحمد باشا العثماني فأخرجه منها، وسلّط

الأرناؤوط (الألبان) على الانكشارية، ثم سعى إلى التفريق بين (البرديسي)

(والألفي) اللذين يتنافسان على السلطة، واستطاع تهييج الأهالي عليهما، فأسند

الأهالي والأعيان إليه الولاية، وكتبوا بذلك إلى السلطان الذي أمر بنقله إلى

سالونيك بناءً على وشاية الإنجليز به، نظراً لمعارضته لمشاريعهم، لكن ضغط

وإلحاح العلماء والأعيان والأهالي مكن الباشا من الاستمرار في ولاية مصر، وكان

ذلك في سنة 1221هـ/ 1806م [9] لكن المؤرخ التركي (يلماظ أوزتونا) يرى أن

(محمد علي) قد ساوم السلطان محمود الثاني على المنصب بعرضه الذهاب إلى

الجزيرة العربية والقضاء على الوهابية إذا منح رتبة البكلربك (أي: الوالي) وقد تم

له ذلك [10] والسؤال الذي يبرز هنا هو: كيف استطاع رجل غريب التلاعب

بالبلاد وعلمائها خاصة، في ظل التنازع على حكم مصر بين المستعمرين

الأوروبيين الذين لم يكونوا ليرضوا عن وضع مريب كهذا لولا أن لهم مصلحة فيما

يجري؟ لقد أجاب على هذا التساؤل أحد المؤرخين قائلاً: بأنّ هناك جوانب كثيرة

يكتنفها الغموض في صعود محمد علي إلى هرم السلطة، خاصة وأنه لم يكن يصلح

للولاية، وليس من الوزراء ولا من الأمراء، ولا من أكابر الدولة (على حد قوله) ،

هذا بالإضافة إلى افتعال الثورات بسبب رواتب الجند، ثم تمكنه من تسديدها، لكن

صلة محمد علي بالشيخ حسن العطار الذي انضم إلى المحفل الماسوني الذي أسسه

الفرنسيون تفسر لنا شيئاً من هذا الغموض [11] .

ثالثاً: سياسته الاقتصادية:

يعلل بعض المؤرخين أسباب غزو محمد علي لبلاد الشام بغرض إرجاع

الأهالي الجهلة المغرر بهم الذين فروا إلى هناك، وذلك لأن الضرائب وأعمال

السخرة التي شرعها الباشا لتغطية نفقات الإصلاحات قد جهل كنهها الناس؛ ففروا

منه [12] ، وسوف نتحدث بشكل موسع عن حروب الباشا في الحلقة القادمة، لكن

يكفينا هنا أن نعرض لسياسته الاقتصادية ونماذج منها؛ لنتعرف على مخططات

الباشا أو الدور الذي أُعدّ له لينفذه!

لقد اتسمت فترة حكم محمد علي بقرارات اقتصادية مجحفة بالرعية، تراوحت

بين أخذ الأراضي والأملاك بالقوة، والتلاعب بالأسعار والعملة، إلى احتكار

البضائع، وبخس الأسعار، وفرض المكوس والرسوم وأعمال السخرة (العمل بلا

أجر) ، وهذه نماذج من ذلك:

كانت الضريبة على بضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم اثنان

ونصف بالمئة (5، 2%) ، بينما كان يؤخذ على بضائع المسلمين عشرة بالمئة

(10%) ، في الوقت الذي كان يتولى ديوان المكس (الجمرك) شخص نصراني

رومي [13] ، كما أن الباشا منع المزارعين من بيع الغلال على المتسببين؛ ليبيعها

هو بدوره على الإفرنج، حتى قل وجود الخبز، بل امتنع، واشتكى الفقراء إلى

الباشا [14] ، ثم زاد في الخراج لمساعدته على حروبه في الجزيرة العربية في سنة

1233هـ، وصادف أن فاض النيل في تلك السنة حتى هلك الزرع وانهدمت

البيوت [15] ، وفي السنة التالية أمر بجمع الفلاحين للعمل في ترعة الأشرفية

بالأسكندرية بلا أجر، فغلّوا بالسلاسل، ورُدم على بعضهم الحفر وهم أحياء

لامتناعهم، وفي الوقت الذي مُنع الفلاحون من الزراعة قام الباشا بزيادة الخراج

عليهم بعد عودتهم [16] ، ثم قام الباشا في سنة 1235هـ بفرض رسوم جديدة على

البهائم، وبخس الفلاحين ثمن البلح والليف وجريد النخل والخوص، فيما أجبرهم

على دفع نسبة خمسة في المئة (5%) من قيمة المحاصيل مقدماً ولمدة عامين لمشايخ

البلاد تحت نظام الالتزام [17] ، كما فرض على المزارعين نقل الغلال على

حسابهم إلى الإسكندرية؛ لبيعها على الإفرنج وليشتري بثمنها البضائع الإفرنجية،

بالإضافة إلى ذلك: قام الباشا ببخس المكيال وامتنع عن دفع ثمن الغلال [18] ،

كما تلاعب الباشا في صرف العملة ونَقّص وزنها وعيارها، وعين خاله ناظراً

للضّرب، وقرر له في كل شهر خمسمئة كيس، بينما كان الناظر السابق يقبض

خمسين كيساً فقط [19] ، وفي إحدى المرات أخذ الباشا جميع الغلال بما في ذلك ما

يدخره الناس لقوتهم وباعه على الإفرنج [20] ، كما حجر على الأُجَرَاء والمعمرين

والمستعملين في الأبنية والعمائر، وألزمهم العمل في عمائر الدولة بمصر أو افتداء

أنفسهم أو إقامة بديل عنهم مع دفع أجرته [21] ، كما ابتدع تحرير الموازين،

وأبطل موازين الباعة وألزمهم شراء موازين الدولة، وهو باب يتجمع منه أكياس

كثيرة [22] ، وقام بإطلاق جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور

والمساكن، فإن وجدوا بها أو ببعضها خللاً أمروا صاحبها بهدمها وتعميرها، فإن

كان يعجز عن ذلك أخرجوه منها، وأعادوا بناءها وتصبح من حقوق الدولة [23] ،

ولم يكتفِ بكل هذا، بل أمر بالمناداة في الناس بتحديد الربا على القروض التي

يحصل عليها الناس من العسكر، وذلك لشدة الضيق والحاجة، وهذا من غرائب

الأحكام! ، حيث ينادى على الربا جهاراً وفي الأسواق من غير حياء ولا مبالاة،

لأنهم لا يرون ذلك عيباً في عقيدتهم [24] ، ولقد أوجز المؤرخ الجبرتي (رحمه

الله) أسباب الخراب في الدولة، فذكر زيادة الخراج واختلال المعاملة والمكوس

واحتكار جميع الأصناف والاستيلاء على أرزاق الناس، فلا تجد مرزوقاً إلا من

كان له خدمة الدولة متولياً على نوع من أنواع المكوس أو مباشراً أو كاتباً أو صانعاً

في الصنائع المحدثة، ولا يحاسب على ذلك إذا كان من غير العرب، أما الباشا فقد

وضّح طريقة تعامله مع من يرفض الانصياع إلى تلك السياسات الظالمة؛ فقد قال

في معرض لومه للعلماء الذين انتقدوه علانية في اجتماعاتهم بالأزهر: (إن حصل

من الرعية أمرٌ ما فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام) [25] لذا: فلم يجد

الفلاحون مخرجاً من هذا الجحيم سوى ترك البلاد والهجرة إلى الشام؛ ليكونوا

بمنأى عن ذراع الباشا، وذلك بسبب خصومته مع والي الشام.

... ... ... ... ... ... ... ... ... وللحديث صلة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015