في دائرة الضوء
بقلم: خميس بن عاشور
نعيش اليوم في أواخر القرن العشرين، والعالم كله يستعد للدخول في القرن
الواحد والعشرين، والعالم الغربي المتقدم مشغول كثيراً بهذا الحدث، فهو يعمل
جاهداً على نشر أفكاره وهيمنته على أطراف العالم، بل صار يتطلع إلى أقطار
السموات والأرض مستكشفاً لبطاح جديدة يرسو عليها بسفائنه ويحط فيها بمراكبه
الفضائية. وأما الدول والأنظمة المتخلفة: فإنها تحاول أن تتظاهر بالاهتمام المزيف
والمبالغ فيه، لأنها ربما لا تعلم أنها لا تزال تعيش من حيث التقدم المادي مع بداية
القرن العشرين، ولكن العالم الغربي يهوى كثيراً أن يتندر ويضحك على وقع
شحطات هؤلاء الذين يرومون دخول القرن القادم على متن عربة بخارية حاملين
في أيديهم بندقية بارود ذات طلقة واحدة.! ! إن هذا المشهد لا ريب يدل على أزمة
حضارية حقيقية وأزمة إنسانية نعيشها في عرصات هذا العالم المضطرب بأفكاره
وفلسفته ومنهجيته، فهذه التكنولوجيا المعقدة لم تعد منذ عهد قريب سرًّا من الأسرار
التي تعلل قوة مجتمع من المجتمعات، ولا سيما عندما أصبحنا نشاهد هذه
التكنولوجيا في صورة ألعاب يلهو بها الأطفال في كل مكان، لقد أصبحت
التكنولوجيا ملكاً للإنسانية جمعاء، ولا يسعها أن تكون سرّاً مكنوناً، بل لا يمكنها
أن تكون كذلك ولو أرادت؛ فبعدما كان الاختراع العلمي يحتاج إلى زمن طويل
نسبيًّا لكي يصير تطبيقيًّا على نطاق واسع، تقلصت هذه المدة إلى درجة كبيرة
بعدما تمكن الإنسان من أصول وقواعد العلوم وجعلها أسيرة أهوائه ورغباته، وحتى
الاختراعات المذهلة في ميادين الأسلحة النووية والكيماوية فإن الكثير من الدول
أصبحت مالكة للخبرة العلمية التي تمكنها من صناعتها وتطويرها، غير أنه يمنعها
من ذلك قلة الأموال من ناحية، والضغوط الدولية لمحاصرة إنتاج هذه الأسلحة
الفتاكة من ناحية أخرى. إن الأخطار الكبيرة التي أصبحت تتهدد الإنسانية جراء
بعض المخترعات العلمية جعلت العالم بأسره يتورط في مشكلة أخلاقية نجمت من
اعتداء العلم المادي على الطبيعة وعلى إنسانية الإنسان الذي أصبح يعامل معاملة
الأشياء والآلات. لقد تطور العلم المادي تطوراً كبيراً، في حين بقيت بعض العلوم
متأخرة، العلوم التي تعالج قضايا الإنسان من حيث هو إنسان. إن العالم اليوم في
حاجة إلى المسلمين، وأما المسلمون فحاجتهم مع بداية القرن القادم، ليست هي
العُدد المادية فحسب، ولكن الأهم من ذلك هو تلك العُدد المعنوية الكبيرة، وهل
العالم الإسلامي اليوم في مستوى هذه المسؤولية؟ ، أو بالأحرى: هل هو سائر
على الطريق القويم لتحقيق هذه القوة الحقيقية، قوة المستقبل؟ .
إن كل المؤشرات والأدلة تتجه نحو إثبات تلكم الحاجات الملحة للإنسان
المعاصر من أجل معرفة ذاته، وهذا ما قد يفسر الاندفاع نحو العودة إلى إنسانية
الإنسان، وعودة الدين إلى مكانته في نفوس الأفراد والمجتمعات. وكثير من
المحللين يغضون الطرف عن حقيقة هذا التوجه العالمي نحو إعادة الاعتبار إلى
الدين، وخاصة من لدن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم كذباً وزوراً مثقفين، فهم
يعتبرون المتديّن خارجاً من دائرة الثقافة، واصطلحوا على أن المثقف لا بد من أن
يكون (لائيكيًّا) أي: جاعلاً الدين وراءه ظهرياً، مع أن الثقافة في لغة المعاجم تقوم
على أركان، من أهمها: العلم، والدين، والفن ... ولذلك فإنه بإمكاننا أن نحكم
على الثقافة بالمفهوم الحالي أنها في أزمة قاتلة.
لقد حاول هؤلاء المثقفون جهدهم إنشاء تلك الفرقة والقطيعة بين العلم الطبيعي والدين، غير أن علماء الطبيعة أنفسهم كذبوا هذه العلاقة وبينوا أن ميادين الفكر التي لا تزال تبحث عن موضوع لها لا يمكن اعتبار نتائجها إلا وهماً وسراباً، وذلك عندما تكون هذه النتائج تتصادم مع حقائق العلوم الموضوعية، ولنا أن نقدم بعض الشهادات لأكبر علماء الطبيعة في هذا العصر هديةً إلى أولئك المثقفين الذين لم يأخذوا من الثقافة الغربية غير الكفر الذي يسمونه (لائيكية) وتنويراً: يقول الفيزيائي والفلكي الإنجليزي (آرثور ستانلي أربجتون) : (إن الفيزياء الحديثة تقودنا بالضرورة إلى الله، ولا تبعدنا عنه، ولم يكن أي مخترع للإلحاد عالماً طبيعيّاً، بل كانوا جميعاً فلاسفة أنصاف معتدلين جدًّا) [1] ويقول الإنجليزي (أرنست روثر فورد) (1871م1936م) الحائز على جائزة نوبل سنة 1901م: ( ... وأيضاً العالم النزيه الذي كشف بعضاً من جوانب الوجود، لا ينبغي أن يكون مرتاباً في الله، إنه لتفسير خاطئ في الأوساط المتخصصة، أي: إن العالم الذي يعرف عن الوجود أكثر من غيره يتوجب عليه أن يكون بلا رب، العكس هو الصحيح تماماً ... ) [2] ويقول الفيزيائي الأمريكي (أرثور هـ كومبتون) (1892م1962م) الحائز على جائزة نوبل سنة 1927م: ( ... بعيداً عن هذا جدًّا أن تكون في نزاع مع الدين، فقد تحول العلم إلى حليف للدين، فمن خلال فهم أفضل للطبيعة نتعرف بشكل أفضل أيضاً إلى الله، وإلى الدور الذي يجب أن نلعبه في مسرحية (!) الكون) [3] .
إن هذه الحضارة المعاصرة لها جذور دينية من غير شك رغم إنكار هؤلاء
المثقفين لهذه الحقيقة الدامغة، سواء أنظرنا إليها مظاهر وصوراً، أو أصولاً
وقواعد فكرية؛ فمن حيث المظاهر لنأخذ ثلاثة أمثلة: من آسيا نأخذ اليابان، ومن
أوروبا بريطانيا والدول الاسكندنافية، ومن أمريكا الولايات المتحدة، وهذه الدول
هي الأكبر والأكثر تقدماً ومدنية، فسنجد أن اليابان دولة متديّنة وأن اليابانيين الذين
بزوا غيرهم في العلوم الإلكترونية المعقدة يتدينون بالخرافات، ومنها: اعتقادهم أن
الإمبراطور هو من أبناء وسلالة الآلهة، إضافة إلى أن الراية اليابانية ترمز إلى
تلك الخرافات الدينية البدائية. وأما بريطانيا فإن الصليب هو شعار رايتها وكذلك
الدول الاسكندنافية كلها، ولا تزال الملكة في بريطانيا تركب العربة التي تجرها
الأحصنة، ولم نسمع بأحد من المثقفين يقول بأن الملكة متخلفة. وأما الولايات
المتحدة فيكفي للدلالة على توجهها الديني الرسمي ما هو مكتوب على ورقة المئة
دولار من عبارة (نثق بالله in god we trust) بالإضافة إلى اعتراف
(البراجماتية) وهي فلسفة المجمتع الأمريكي بالدين ورعايته والدعوة إلى التمسك به، ورؤساء الولايات المتحدة يحرصون دائماً على ارتياد الصلوات في الكنائس
الأمريكية. وأما عندما ندرس أصول هذه الحضارة الغربية فإننا نجدها مرتكزة على
أسس دينية، وهذا عكس ما هو متداول عند بعض المثقفين المسلمين وغيرهم،
وبإمكاننا الاستشهاد على ذلك بكتاب لأحد علماء الاجتماع الألمان (ماكس فيبر)
(1864م1920م) وعنوان كتابه هو: (الأخلاق البروتستانتية والفكر الرأسمالي)
وقد واجه في هذا الكتاب ادعاءات الماركسية من أن الاقتصاد هو الذي يؤثر في
الفكر وليس العكس، وبيّن أن الدين هو الذي قام عليه الفكر الرأسمالي، ومعروف
أن العقيدة البروتستانتية تحث على الإخلاص في العمل والحث على الإتقان فيه [4]
حتى صارت الصناعة الغربية آية في الإتقان والجودة، والجميع يعلم أن الثورة
الصناعية قامت في بريطانيا حيث غالبية السكان على العقيدة البروتستانتية.
وأما المسلمون بوضعهم الحالي: فإنه ليس لديهم ما يدخلون به إلى القرن
القادم، ولا يملكون من الأشياء المادية والنظريات العلمية ما يجعلهم يساهمون في
صياغة الاستراتيجية القادمة، إلا أنهم في الحقيقة يمتلكون شيئاً هو أسمى من كل
هذه الماديات والتقنيات المذهلة، إنهم يملكون هذا الدين الإسلامي العظيم الذي تفتقر
إليه المدنية الغربية، وبعبارة أخرى: إنهم يمتلكون دواءً خطيراً من شأنه أن يعالج
مشاكل الإنسان التي تقوده إلى الشقاء والانتحار والبؤس المعنوي، إنهم باختصار
يمتلكون قوة المستقبل.
ولنتساءل هل حققت المدنية الغربية بوضعها الراهن سعادة الإنسان؟ .
إننا نشعر دائماً بأن العلم وتطبيقاته قد انحرف عن وظيفته الإنسانية المتمثلة
في خدمة قضايا الإنسان من حيث هو إنسان، بل إننا نجد شياطين الفكر الغربي
وفلسفته قد وضعوا للناس مُسَلّمة، هي: أن العلم والدين ضدان لا يلتقيان، فإما أن
نأخذ بتلابيب الدين ونتمسك به، فنبقى في تخلف دائم، وإما أن نترك الدين لكي
نرقى في سلم المجد والرقي المادي والتقنية؛ لنصل إلى درجة من الرفاهية تمكننا
من تلبية رغباتنا وشهواتنا إلى أبعد الحدود، ولكن النتيجة والثمرة التي وعد بها
هؤلاء الشياطين تخلفت، بل كانت وبالاً وخسراناً، ففي غياب من الدين تسبب
العلم والاستغلال المتوحش للتكنولوجيا في تلويث الطبيعة، وصار الإنسان في
بعض المناطق من كوكب الأرض لا يجد الهواء النقي لكي يتنفسه، وفي غياب من
الدين ظهر الظلم في أبشع صوره متمثلاً في استعمار شعب بغرض نهب ثرواته،
وبعيداً عن توجيهات الدين صارت المرأة مفتولة العضلات كالرجل، وفقد الإنسان
بالتالي إنسانيته وهو أغلى ما يمتلكه، وليس غريباً إذن بعد هذه الكارثة أن يتوجه
الإنسان بتساؤلات عن قيمة هذا الوجود الذي طغت عليه المادة والفكر المادي،
وعن الغاية التي يمكن أن يصل إليها بعد هذا البعد عن قضايا الإنسان الأساسية،
وبعبارة إسلامية: البعد عن الفطرة التي فُطر الناس عليها، وبعد هذه الصدمة أدرك
الإنسان المعاصر أن الدين هو الدواء الوحيد الذي لا مناص من استعماله لعلاج هذه
الأمراض التي تفتك بالروح والجسد معاً.
إن هذا التوجه العالمي نحو الدين جعل بعض الملاحظين يرون في ذلك
مؤشراً لرجوع الحروب الصليبية (الدينية) ، وهذا الحكم قد يكون صحيحاً، ولكن
بالإمكان تفاديه واجتنابه عن طريق الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وأما اللجوء
إلى الحروب، فإن تجارب الإنسانية في هذا الميدان تجعلها ربما تفكر في طرق
أخرى، سيما وأن الساحة العالمية اليوم تدندن على وتري الحوار والسلام العالميين، ونؤمن نحن المسلمين بوسيلة الدعوة إلى الله، كما أننا نؤمن إيماناً قويًّا بأن
الإنسانية ستستجيب إلى داعي الله الذي يدعوها بإخلاص إلى التوبة والرجوع إلى
طريق الله وطريق الإسلام، وذلك كلما ألفينا السبيل منشرحاً بدون وجود عوائق
نحو قلوب التائهين والتائهات في هذا العالم المريض بأفكاره وحضارته.