مجله البيان (صفحة 2198)

متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية

الخطاب السياسي الإسلامي

(رؤية نقدية)

بقلم: د. سعد الدين العثماني

نقد الخطاب السياسي للصحوة الإسلامية ليس انتقاصاً من قدر كسبها السياسي، وليس نكراناً لتأثيرها الإيجابي الكبير في حياة الأمة: إدخالاً لخطاب الدين في

مجالات كانت حكراً على العلمانية، وعودة بشرائح من أبناء المسلمين إلى دينهم

وإلى تَبَنّيه حلاًّ وخلاصاً وحيداً لأمتهم.

لكن ككل عمل بشري، فإن إنتاج الصحوة الإسلامية وكسبها النظري والعملي

في حاجة مستمرة إلى التقويم والمراجعة؛ لاكتشاف جوانب الخلل والقصور،

ومحاولة علاجها، ومعرفة جوانب القوة، والعمل على إثرائها وتعميقها.

ما الخطاب السياسي؟

يطلق لفظ الخطاب السياسي على معانٍ عدة، لكن يهمنا هنا أن نتوقف عند

اثنين منها:

1- مجموعة الأفكار والتصورات المنظمة والمرتبطة منطقيًّا والمتعلقة بتحليل

الواقع السياسي وتحديد طرق معالجته والتأثير فيه، وهذا قريب من التعريف

المتداول لدى المتخصصين في علم السياسة.

2- طرق ووسائل تبليغ منظومة الأفكار والتصورات السياسية، والتعبير عن

الرأي السياسي، وتتعدد هذه الوسائل إلى منطوقة (التصريح، الخطبة..) ،

ومكتوبة، ومصورة ... وغيرها.

وهذا المعنى الثاني هو الذي سنستعمله في هذه المقالة.

ويرتبط الخطاب السياسي ارتباطاً قويّاً بالمبادئ والمفاهيم التي يحملها

الشخص أو تحملها المجموعة التي تنتجه، كما يرتبط بالتصورات التي يقتنعون بها

عن الواقع من حولهم وطرق التأثير فيه. وهكذا: فمن غير الممكن فهم خطاب

سياسي معين دون الغوص في ذلك الجهاز المفاهيمي الذي ينطلق منه، وفي كثير

من الأحيان: فإن علاج نقص الخطاب السياسي يبدأ من علاج الأخطاء العقدية

والتصورية والفكرية التي أنتجته.

ونكتفي بمثال واحد من تاريخنا القديم: فالخطاب السياسي للخوارج، والمتسم

بالتكفير والمناداة بإعطاء الأولوية للخروج على الحكام، بدءاً من علي بن أبي

طالب (رضي الله عنه) ، ناتج عن انحراف في العقيدة، وليس فقط عن خطأ في

تقدير الواقع أو في أسلوب معالجته.

وهذه المكانة المركزية للجهاز المفاهيمي في التأثير في الخطاب السياسي، لا

تمنع من أن بعض جوانب الخلل فيه ناتجة عن أسباب نفسية لصاحب الخطاب، أو

عن سوء تقدير للقوة الذاتية أو للواقع المحيط.. أو عن غيرها من الأسباب.

أصول عامة:

وقد يكون من الضروري التذكير في البداية ببعض الأسس والأصول الشرعية

المهمة، التي يكون الجهل بها بالغ التأثير على أداء الصحوة السياسي:

1- العمل السياسي مجال اجتهاد كما بين ذلك العلماء الذين كتبوا في السياسة

الشرعية، كما أنه مجال مقاصد؛ لدخوله في دائرة المعاملات (التي يسميها علماؤنا: العاديات) ، وهذا من معاني القاعدة الأصولية: (الأصل في العبادات والمقدرات

التعبد، والأصل في العاديّات الحِكَم والمقاصد) [1] .

ومن ذلك: أن إجراءات السياسة الشرعية إجراءات تهدف إلى تحقيق

المصالح ودرء المفاسد وفق الضوابط الشرعية، وإن لم يرد بذلك الإجراء نص،

وعنها ينقل ابن قيم الجوزية قول أبي الوفاء بن عقيل: (السياسة ما كان فعلاً بحيث

يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا

نزل به وحي) [2] .

2- لذلك: فمجال السياسة الشرعية مجال يحتاج إلى حذر شديد؛ لأن الجمود

فيه مثل التسيب سواء بسواء عمل على عكس ما يريده الشرع، لذلك يعيب ابن

القيم على أناس تشددوا هنا (فسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة

الحق والتنفيذ له، مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنها حق مطابق للواقع، ظنّاً منهم

منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما

فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة

الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر) . [3] ...

3- ومن نتائج ما سبق: أن مجال السياسة الشرعية مجال اختلاف

الاجتهادات والآراء، واجب المسلم فيها طاعة الله بحسب الاستطاعة، وتحري

المصلحة قدر الإمكان، وقد يوافق الصواب كما قد لا يوافقه، (لكن لا يكلف الله

نفساً إلا وسعها، فإذا اتقى العبدُ اوَ ما استطاع: آجَرَه الله على ذلك، وغفر له

خطأه، ومن كان هكذا: لم يكون لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ... ) [4] .

وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على

العمل باجتهادهم [5] .

4- يخضع مجال السياسة الشرعية للقاعدة العامة: (فيما إذا تعارضت

المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح

منها) [6] .

ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة، أشار إلى بعضها ابن تيمية في أماكن متعددة

من فتاواه [7] .

مهمة البلاغ المبين:

ويأتي تحديد الهدف البعيد المتوخى من الخطاب السياسي الإسلامي عاملاً آخر يؤثر على طبيعة الخطاب السياسي وعلى خصائصه.

وفي رأينا: فإن هذا الهدف البعيد المدى هو: تحقيق البلاغ المبين لمبادئ

الدين؛ لأنه الهدف الذي ابتعث الله (سبحانه) من أجله الرسول؛ يقول (تعالى) : ... [ ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] [العنكبوت: 18] والبلاغ المبين هو الواضح البيّن، الذي يوصل المعاني المطلوبة إلى من يتوجه إليه الخطاب، فقد يكون الخطاب واضحاً عند صاحبه، لكنه غير واضح عند سامعه ومتلقيه، وهذا بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] [ابراهيم: 4] .

وهكذا: فإن الخطاب السياسي الإسلامي يجب أن يهدف إلى أن يبلغ الكفاية

في الوضوح وتقديم الحجة، ويتجنب كل العوائق التي تحول دون ذلك، وإلا فليس

مبيناً، كما أن على هذا الخطاب ألا يكون عائقاً أمام التبليغ والدعوة وإيصال الفكرة

والموقف الإسلاميين.

وكل جوانب النقص والخلل التي سنتحدث عنها هي في حقيقتها من العوائق

أمام (البلاغ المبين) ، ومن المشوشات على الدعوة في فهمه للدعوة ومبادئها.

بين العاطفية والموضوعية:

لعل من أول سمات الخطاب السياسي الإسلامي التي كثر الحديث عنها، هو

كونه في غالب الأحيان خطاباً انفعاليًّا عاطفيّاً، يُؤْثر الخطابة على التحليل

الموضوعي، ويطغى فيه الحماس على المنطق العقلي.

ورغم أهمية إلهاب الحماس في كل عمل سياسي، وأهمية تقوية العواطف

الإيمانية في كل عمل إسلامي إلا أن الضروري أن يكون التفكير العميق هو الموجه

للعاطفة، وأن تعرض القضية الإسلامية عرضاً مبنيّاً على الإقناع لا التأثير النفسي

والإثارة الوجدانية.

والفرق بين الأمرين كبير من وجوه متعددة:

فغلبة الحماس والعاطفة يمنع من التفكير في العواقب واحتساب النتائج؛ لأنه

يسهل الانسياق وراء شعارات حماسية تضبب الرؤية، وتمنع من استخلاص النتائج

الموضوعية، وقد يؤدي كل هذا إلى صدام غير مبرر ولا محسوب مع طرف

سياسي في الساحة، كما يؤدي إلى أن تخوض الحركة الإسلامية معارك سياسية قبل

أوانها وأكبر من قدراتها، ولا يبعد أن يتم بعض ذلك بفعل إثارات استدراجية دبرت

من خارج الصف الإسلامي.

وغلبة الحماس والعاطفة يؤدي إلى استعجال النتائج، ويحاول أن يحرض

لذلك ويستجيش، بينما التوجيه العقلي والفكري يحاول إيصال المبادئ والأفكار،

والتأثير بالتالي على مهل وفي رفق وهدوء.

وطغيان الانفعال والعاطفة يؤدي أيضاً إلى النظر إلى الأشخاص والهيئات

والأحداث نظرة مجافية للواقع، مبنية إما على المبالغة والتهويل، أو الاحتقار

والتهوين، أو على التشويه، فهناك مثلاً من لا يتصور صدور أمر أو موقف من

جهة معينة، فيرفض تصديق أي معلومات تثبت عكس ما كان يتوقعه، وهناك من

يسارع إلى إعلان العداء نحو جهة من الجهات وقد تكون إسلامية، تتبنى المبادئ

والأهداف نفسها لبادرة بدرت أو كلمة صدرت، لم يتحر صاحبنا ليعرف تأويلها

الصحيح، ولم يتجشم عناء المرور بمراحل التبين والتثبت، والتماس العذر،

والمراجعة ... ، وكلها أمور ضرورية شرعاً في مثل تلك المواقف قبل الانجرار

وراء الحماس بإلقاء اللوم وتوجيه التهم.

ويؤدي طغيان الانفعال والعاطفة أخيراً -وليس آخراً- إلى غياب العمق

الفكري والتحليلي في الخطاب السياسي الإسلامي، ويدخل في ذلك: التبسيط إلى

حد التسطيح للصراع الفكري والسياسي الدائر مع الآخرين، ولطبيعة عرض

القضية الإسلامية، فتحليل المشكلات المطروحة لا يتم بدراسة متأنية لأسبابها

وجذورها وعوامل تطورها، ولتأثيرها في الواقع والحلول الممكنة لعلاجها، ثم

اختيار الحل الأوفق للشرع وللواقع ولتأثيرها في الواقع عن وعي وإدراك، لكن يتم

ذلك في انفعال وإلقاء للحلول المرتجلة والأحكام الجاهزة.

إن كثرة ما جر طغيان الخطاب العاطفي على الممارسة السياسية للحركة

الإسلامية من مشكلات يستوجب في رأينا الإسراع بأمور ثلاثة:

1- إعطاء الأهمية داخل الحركة الإسلامية للتربية على مبادئ الشرع القاضية

بعدم قبول الأخبار إلا بعد روية وتمحيص وتثبت، وطلب الحجة والبرهان في كل

أمر، والتورع عن الاتهام والتجريح، والبعد عن السباب وفحش القول، والتزام

الهدوء والتأني في الخطاب ... ويبدو أن التركيز على مثل هذه الأمور غير كافٍ

لحد الساعة في البرامج التربوية للحركات الإسلامية، وفي توجيهها لأبنائها.

2- إعطاء الأهمية في المناهج التربوية داخل الصف الإسلامي للتربية

المنهجية الفكرية، ولبناء عقليات قادرة على الموازنة والنقد، ولإكساب وتنمية

المهارات المناسبة لذلك.

3- وكل هذا لن يتأتى إلا بإعطاء الريادة والقيادة لأصحاب العلم والفكر بدل

أهل الخطابة والوعظ، ليس انتقاصاً من شأن هذين، ولكن إنزالاً لهما مكانهما

الصحيح، حتى يلجما بلجام العقول، وهي النتيجة التي انتهى إليها (د. عبد الله بن

فهد النفيسي) بعد تحليل مماثل، يقول: (إن حاجة الحركة الإسلامية لصف من

الموجهين الفكريين أكثر إلحاحاً من هذا الكم الهائل من الخطباء، مطلوب الاهتمام

بإعداد الموجه الفكري؛ لأنه الحارس الأمين للجبهة (الأيديولوجية) التي تتحصن بها

الحركة) [8] .

وقد نستدل على ذلك بأسبقية العلم على العمل شرعاً وعقلاً، كما قال البخاري

في صحيحه: (باب، العلم قبل العمل، لقول الله (تعالى) : [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ

اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] ) [9] .

بين الفعل ورد الفعل:

لقد كان من أبرز نتائج طغيان العاطفية والانفعالية على الخطاب السياسي

الإسلامي، سقوطه في ردود الأفعال، وقصوره عن الفعل الموضوعي المبادِر، إن

ما نراه في كثير من الأحيان هو انتظار الأطراف الأخرى حتى تتخذ موقفاً ليتخذ

الإسلامي الموقف المناقض، أو لينسج على منواله، أو الاستيقاظ على وقع حدث،

فيسارع الخطاب الإسلامي لملاحقته، وهكذا يأتي هذا الخطاب في أحايين كثيرة

مطبوعاً بالآنية والظرفية، لاهثاً وراء المواقف والأحداث الجزئية المتلاحقة، مما

يفقده في الغالب الحضور المستمر والمتوازن في قلب الأحداث السياسية، بله

صنعها أو التأثير فيها.

ولا نعني بالفعل المبادر الإعلان المستمر (للحرب) على مختلف الأطراف،

مما قد يعتبر أقصى ما يقدر عليه مع الأسف الشديد بعض الدعاة، بل الفعل المبادر

هو المسارع إلى الخيرات، المبشر قولاً وعملاً بمبادئ الدين والرحمة والهداية ...

وطغيان خطاب ردود الأفعال ينتج عنه عدة مفاسد، منها:

طغيان المتابعة الآنية للأحداث اليومية التي تقع في الساحة السياسية،

فيصبح الخطاب الإسلامي خطاباً تابعاً، يجيب عن تساؤلات الآخرين، ويعلق على

مواقفهم وتصريحاتهم، بدل أن ينشغلوا هم بتساؤلاته ومواقفه وتصريحاته،

ويستغرقه التصدي للأحوال الطارئة بدل التحرك نحو أهداف ذاتية محددة سلفاً.

غياب التحليل الاستراتيجي الذي يأخذ بعين الاعتبار التغيرات والمستجدات،

وليس التشبث بتحليلات ثابتة جامدة، لا تتحرك بتحرك الواقع ومعطياته.

غياب الرؤية الشاملة المتكاملة، فيواجه كل حدث معزولاً عن سياقه

والمنظومة التي ينتمي إليها، وهذا يؤدي إلى عشوائية تجعل الحركة الإسلامية

تواجه كل حدث بطريقة خاصة، كأنها تنتج له خطاباً خاصًّا، وهذا يوقع في

التخبط والتناقض، وهذان أساس الفشل في كل عمل سياسي.

وكل هذه النقائص إنما تعني في الحقيقة: غياب الرؤية التخطيطية،

والتفكير ذى المدى البعيد، الذي يقرأ العواقب وينظر إلى المآلات.

خطابٌ مستغنٍ:

ينطلق جزء كبير من الخطاب السياسي الإسلامي من منطلق الاستعلاء على

الآخر والاستغناء عنه؛ فهو يخاطب غيره من فوق، على أساس أنه يملك الحقيقة

المطلقة، ويتعامل مع الآخر من منطلق الاكتفاء بقدراته وطاقاته، ويتحرك كأنه

وحده سيحقق أهداف الأمة كلها دون حاجة إلى التعاون مع الآخرين.

وهذه السمة مبنية على أخطاء في العلم والتقدير عميقة، منها:

1- رفع الاجتهادات السياسية إلى مستوى الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب

والسنة، فيعتبر الرأي المخالف فيها باطلاً مجافياً للحق، بل قد يتخذه مناط الولاء

والعداء، وقد ينسب المخالف في الاجتهاد السياسي إلى البدعة والفسوق، إن لم يكن

إلى الكفر، وهذا كله مخالف للكتاب والسنة ولما عليه سلف الأمة في هذا الباب.

2- الانطلاق من تزكية النفس وتنزيه الذات، في مقابل الحط من الآخر

وتضخيم عيوبه، ولسان حاله يقول: أنا الأعلم بالشرع، والآخر لا يدري شيئاً،

وأنا الأتبع للشرع، والآخر حائد عنه، ولا حاجة إلى التأكيد على مخالفة ذلك

للنصوص الصريحة، ومن ذلك قوله (تعالى) : [فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ

اتَّقَى] [النجم: 32] .

3- يعتبر الخطاب المستغني نفسه كاملاً، مكتفياً بذاته، لا يحتاج إلى من

ينبهه إلى خطأ، أو يعرفه بنقص، كما لا يحتاج إلى الاستفادة من الغير، ومن ثم:

فهو يخوض تجربته السياسية وحده، ويصوغ أحكامه (أو اجتهاداته) وحده، ولا

يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله غيره ولو كان من العلماء المعتبرين أو المجربين

المحنكين.

4- تنتهي هذه السمات المتسلسلة إلى أن ينظر الخطاب المستغني إلى الأفكار

والأشخاص نظرة تتسم بالمطلقية، فهي إما خير محض وإما شر محض،

والآخرون إما أصدقاء وإما أعداء، ولا حل وسط، ولا مجال لأي تطبيق جزئي

أو أن أي تدرج. وهذا يناقض بدهيات العقول، كما يناقض ما كرره علماء السلف

من أن أي شخص أو طائفة قد يكون عندها بعض الحق أو بعض الصواب الذي

يجب أن يعرف لها. والاختيار في مجال السياسة الشرعية يتم على أساس

(الأرضى من الموجود) و (الغالب أنه لا يوجد كامل، فيُفعل خير الخيرين، ويدفع

شر الشرين؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، وقد كان النبي وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس،

وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك (سورة

الروم) لما اقتتلت الروم وفارس، والقصة مشهورة، وكذلك يوسف: كان نائباً

لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم

إلى الإيمان بحسب الإمكان) [10] .

إن هذه المقدمات أنتجت خطاباً سياسيًّا ذا سلبيات بالغة الأثر، منها:

- أنه خطاب يفقد خاصيتي الرفق واليسر، ويشكل بذلك مصدر توجس

وخوف، وربما مصدر خوف وفزع، قد يؤدي إلى فقد الأصدقاء وتكثير الأعداء،

وفتح جبهات لا مبرر لها. والأصل أن يكون الخطاب السياسي خطاباً مطمئناً،

رفيقاً، ميسراً، متلطفاً، متودداً ... [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] ، [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا

الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] ، (المؤمن يألف، ولا خير

فيمن لا يألف ولا يؤلف) [11] .

وفي الخطاب السياسي للدعوة من الخلل والنقص، وفي تأثيره من المفاسد،

على قدر نقص تمثله لتلك المعاني.

أنه خطاب يلغي من حسابه الآخر وظروفه وردود فعله، وينطلق كأن

صاحبه هو الطرف السياسي الوحيد في الساحة.

كما يلغي من حسابه ذوي الفضل والعلم، وذوي الخبرة والسابقة، كأن عهد

صاحبه يشكل قطيعة مع سابقيه، فهو الفاتح لما أغلق، الآتي بما لم تستطعه

الأوائل، وهو بذلك يلغي تجاربهم وينتقص الاستفادة منها، ويكرر أخطاءهم

باستمرار.

أنه خطاب مستعلٍ، لا يطرح نفسه بوصفه اجتهاداً، أو رأياً، أو اقتراحاً

فيه ما في اجتهادات البشر من القصور والمحدودية، بل يضفي على نفسه مطلقية

الوحي وكماله، وعصمة من نزل عليه، وكل هذا يجر إلى إصدار الأحكام

والاستنتاجات المطلقة بدل فتح باب الاحتمالات، وأخذ الأمور فهماً ومواجهة، من

منطلق النسبية والأولويات والفرص المتاحة والإمكانات الذاتية.

أنه خطاب قادح جارح، ينتقل من مناقشة وانتقاد، إلى اتهام الأشخاص

والهيئات، ونبش النوايا والخلفيات. وأصول الشرع تقضي باستئثار الله (تعالى)

بعلم النوايا، والتقحم فيها بالتالي رمي بالظن وكلام بغير دليل، وفي المقابل: يجب

العمل على فهم عقلية الآخر ومنهج تفكيره، كما يمكن الانطلاق من مواقفه

وتصريحاته المعلنة، واعتبار الاتفاق أو الاختلاف معها أمر اجتهاديًّا مبنيًّا على

آراء وترجيحات، وهذا ما يجنب التصنيفات والاتهامات المجانية التي لا رصيد لها.

خطاب غير واقعي وغير اجتماعي:

ولسنا نعني بالواقعية مجاراة الواقع وإقرار ما هو عليه من محرمات ومفاسد،

بل الواقعية مراعاة للواقع، ومحاولة الارتفاع به إلى الدعوة في تدرج، وعلى قدر

الوسع والاستطاعة، ودون هزة عنيفة؛ لأن العالِم (تارة يأمر، وتارة ينهى،

وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة) وهو (قد يؤخر البيان إلى

وقت التمكن، كما أخر الله (سبحانه) إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول

الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها) ، (فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء

أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان

الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يُبَلّغ إلا ما أمكن علمه

والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فاًمر بما

يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته: لا يبلغ إلا ما أمكن عمله والعمل

به ... ) [12] .

ويدخل في الواقعية: عدم الاكتفاء بتسطير المبادئ العامة، بل وضع الحلول

العملية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... المعيشة، فلقد بقي ما

يطرحه الخطاب السياسي الإسلامي ذا طابع عام مجرد، إلا في القليل النادر، لم

يهتم كثير من الدعاة بالظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، لم يحتل تحرير الإنسان

من الاستضعاف وتمتيعه بحقوقه وكرامته المكانة اللائقة به، كما لم يهتم الخطاب

الإسلامي في الغالب بملاحقة مظاهر هذا الحيف في الواقع، نقداً وتقويماً وإصلاحاً.

وبعد:

فليس ما ذُكر إلا بعض ما استدرك على الخطاب السياسي الإسلامي، وكله

كما قلنا لا يلغي إيجابياته في حياة الأمة، وعسى أن نستدرك ما فات، ونصلح

النقص، وندرأ الخلل، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015