هدم العقيد لمزاجيته
أفضل من هدم سجن
من قذائف الحاكم بأمره في ليبيا الجديدة أنه أعلن في خطاب ألقاه أمام ما
يسمى بمؤتمر الشعب العربي أنه سيداهم مع ذوي المسجونين السجن الموجود في
طرابلس وسيهدمه ثم يفرج عن أربعمائة ليبي معتقلين فيه. وأنه سيتحمل شخصياً
مسئولية هذه الخطوة وما ينشأ عنها، وأنه لا مكان للسجون في ليبيا.. وفي اليوم
التالي نفذ ما وعد به حيث قاد بنفسه " بلدوزر " وبدأ بهدم جدار السجن وكان حوله
عدد كبير من رجال السلطة وذوي المعتقلين، وفي مشهد عاطفي مؤثر خرج
السجناء يعانقون أقرباءهم والدموع تتساقط من أعين الجميع وكأنها حبات المطر،
و (كاميرات) التصوير تنقل هذا المنظر المؤثر وهذا ما يحرص عليه ويعشقه الحاكم
بأمره في طرابلس.. وغير مستغرب على المعتقلين وذويهم أن يتفاعلوا مع هذا
الحدث فلقد كانوا يظنون أنهم لن يلتقوا في هذه الدنيا وكان الأهل لا يعلمون فيما لو
كان أبناؤهم أحياء أو أمواتاً. وفي الوقت نفسه كان مكتب الاتصال الخارجي يبلغ
البعثات الدبلوماسية في طرابلس. هذا القرار الذي ينص على الإفراج عن المعتقلين
الأجانب أيضاً.
وأعلن صاحب القذائف في المؤتمر الآنف الذكر أن جميع المواطنين العرب
يمكنهم اعتباراً من الآن الدخول بحرية ومن دون أي قيد أو شرط إلى ليبيا، وقال
بالحرف الواحد:
(نحن نعلن أنه اعتباراً من هذه اللحظة أن ليبيا هي أرض كل العرب
بمقدورهم دخولها عبر جميع المنافذ وسوف نقاوم أي شخص يمنع أي عربي من
دخول ليبيا بحرية تامة من دون قيد أو شرط) . وتوعد الذين يعرقلون منح
تأشيرات للعرب فقال:
(إذا سمعت أن أي مكتب أخوة أو مكتب شعبي في الخارج منع أي عربي
عن القدوم إلى ليبيا بحرية سوف أرسل له جماهير من هنا أو جماهير عربية هناك
لتزحف عليه وتدمره) .
وفي 24 رجب عام 1408 هـ تجمع آلاف المواطنين أمام مبنى الجوازات
والسفر وفي مقدمتهم الذين كانوا ممنوعين من السفر، وتقدمهم العقيد معمر حيث
دخل بهم المكاتب وأمر بإحضار ملفات الممنوعين، ثم بدأ بتمزيقها وشاركته
جماهيره في التمزيق، وقام بتسليم الممنوعين من السفر جوازاتهم الممنوعة.
وغير مستغرب أن يكون هذا الحدث موضع اهتمام الناس في الوطن العربي،
وبشكل أخص في ليبيا لأن مثل هذا الأمر يعد ظاهرة جديدة، ولأن الشعب العربي
عاطفي ينسى العقل والمنطق بل والتاريخ والجغرافيا أمام الأحداث المؤثرة التي تمر
به.. ونحن في (البيان) نحرص على عرض هذا الحدث في إطاره الصحيح،
وننبه القراء أولاً إلى أنه لا يجوز تجاوز الأحداث التي شهدتها ليبيا خلال الأعوام
الماضية، لقد قامت عدة انقلابات عسكرية ضد العقيد كان آخرها قبل حوالي
شهرين، وفشل الانقلاب ورافق فشله بطش وتنكيل وسفك دماء، وتحركت القبائل
تطلب الثأر من النظام، وأصبح العقيد وقبيلته في وضع لا يحسدون عليه..
وجاءت هذه المحاولة بعد الصدمة العنيفة التي تعرض لها نظام العقيد على يد
القوات التشادية، وساد الذعر في أوساط الجيش وأدرك أفراده أن الحاكم بأمره يزج
بهم في معارك ليس لهم من ورائها أي مصلحة، وكثر التذمر بين رجال القوات
المسلحة، وانتشرت ظاهرة الهروب من الخدمة، وأصبح رجال مخابرات العقيد
وجماهيره كالجيش الانكشاري غير قادرين على ضبط الأمور، ورجل المخابرات
ليس مستعداً دائماً للوقوف مع النظام ضد أهله وذويه. أما ضباط الجيش فيتساءلون:
مهما فعلنا لن نكون عند الحاكم بأمره كما كان زملاؤه في مجلس الثورة. لقد
بطش بمعظمهم، فناس منهم علم الناس بموتهم، وناس آخرون لا يعرف أحد فيما
لو كانوا أحياء أو أمواتاً، ويقولون أيضاً: إلى متى سيبقى هذا الرجل يطلب منا أن
نفكر بعقله وليس بعقولنا؟ هل هذا هو الإسلام الذي زعم أنه جاء ليكون جندياً من
جنوده، أم هذه هي أخلاق العرب حيث يتشدق دائماً بأن أمله الوحيد تحقيق الوحدة
العربية؟ أم هذه هي الحرية والتقدمية والديمقراطية التي يكثر من تردادها؟ !
ويطارد العقيد كابوس المعارضة في الخارج يزيد عددهم على ستة عشرألفاً
من كبار المثقفين وأصحاب الاختصاصات العلمية المهمة وهؤلاء يؤثر غيابهم على
مستقبل بلد لو كان عدد سكانه أضعاف عدد سكان ليبيا، فكيف يكون الحال مع بلد
يقل عدد سكانه عن ثلاث ملايين نسمة، ومساحته واسعة جداً، ولهؤلاء أنصار كثر
داخل السجون الصغيرة، والكبيرة في ليبيا، ولا ندري هل شملتهم قرارات الإفراج
أم لا؟ !
هذا العدد الضخم من المعارضة لا يثقون بالعقيد، ويؤكدون بأن هذه ليست
المبادرة الأولى في سياسته الارتجالية، ولا يتصورون بأن الأمن سيعود إلى ربوع
ليبيا في ظل هيمنة الحاكم بأمره، ويتساءلون كيف يطاردنا النظام ونحن في الخارج، ويسخر قطاع الطرق والقراصنة والمجرمين لتصفيتنا في مختلف عواصم العالم
ثم يزعم بأنه وفي موقف من مواقفه المزاجية قرر بأنه لن تبقى هناك سجون في
ليبيا بعد الآن؟ !
وفضلاً عن هذا كله فالشعب فقد المواد الضرورية من الأسواق، والعقيد
يتحدث بعقلية راعي الإبل أو الغنم، ونحسب أنه سوف يصدر كتاباً أخضر جديداً
يشرح فيه كيف يستغني عن العملة الصعبة في ظل نظام يقوم على المقايضة، فمن
يملك البيض يشتري خبزاً، ومالك القمح يشتري زيتاً، وهكذا.. والخلاصة فنظام
العقيد أشرف على الانهيار، وبات يشك بأقرب الناس إليه، ونصحه زعماء قبيلته، بأنهم لا يقبلون أن ينتقم الناس منهم وهم لا يستطيعون مقاومة الشعب كله، وفي
مثل هذه الحالات عودنا الحاكم بأمره في طرابلس كما عودنا أشباه الحاكم بأمره على
تفجير قذيفة من قذائفهم السلمية التي يمتصون عن طريقها النقمة الشعبية العارمة،
فكانت مبادرته بهدم سجن من سجون طرابلس، وفتح البلد أمام المواطنين العرب..
وفي ثنايا هذه المبادرة تبرز شخصية العقيد المستبدة الظالمة التي لا يمكن الاطمئنان
إليها، ونحسب أن بعض الناس سيقولون لنا: كيف يهدم الرجل سجناً ويفتح بلاده
أمام العرب ثم تقفون منه هذا الموقف؟ ولماذا تتسرعون في إصدار الأحكام؟ !
نقول لهؤلاء: على رسلكم وتعالوا نناقش ما قاله العقيد، وما قيل رسمياً عن
هذه المبادرة:
* قال العقيد: اعتباراًمن هذه اللحظة فستكون ليبيا هي أرض كل العرب،
إلخ ... قال مثل هذا الكلام منذ بداية ثورته.. وعندما غضب من السادات طرد
العمال المصريين بطريقة غير كريمة، وسجن بعضهم، وعندما غضب من
بورقيبة أيضاً طرد العمال التونسيين.. وليس هناك مانع يمنعه من تكرار مثل هذه
الأفعال لأنه يتحرك بمزاجية غريبة.
* ومن جهة أخرى ماذا سيصنع العرب في ليبيا، والبلد في حالة إفلاس وهو
الذي يملك موارد هائلة من النفط ولكن العقيد أنفقها على ثوار كوستاريكا،
ونيكاراغوا، وإيرلندا وحبش، وجنبلاط، وغيرهم.. وغيرهم. أما الحديث عن
المؤسسات والمصانع التي أفلست وماذا فعل بها الخبراء السوفييت فهذا يحتاج إلى
مقالات، بل ويعرف عامة الليبيين مثل هذه الأمور التي تعد سبة عار في تاريخ هذا
النظام.
* وكيف نصدق أن هذا النظام سوف يفتح صدره للعرب وهو الذي قطع
الرواتب والمساعدات عن شباب ليبيا الذين يدرسون في الخارج مما جعل نفراً منهم
يرتمون هنا وهناك بحثاً عن لقمة العيش.
* قال العقيد بأنه يتحمل وحده مسئولية الإفراج عن المعتقلين، ومن قبل
تحمل وحده مسئولية الزج بهم في السجون، وتحمل وحده تبذير أموال الأمة.
صحيح أن العقيد أفرج عن المعتقلين ولكن المشكلة أنه يتصرف بما يوحيه
إليه عقله. إن كان الذين أفرج عنهم مذنبين فأين المحاكم والقانون والمحامون،
ولماذا لا تعلن هذه الأمور على الملأ؟ ! .
لماذا لا يتفضل العقيد إن كان جاداً ويقول: كان عقلي كل شيء في حياتكم،
وقررت الآن العودة إلى المحاكم والقوانين، وكل مواطن بريء حتى يدان، ولا
يدان إلا إذا دافع عن نفسه بحرية ومن غير كبت ولا إرهاب..
* قال العقيد: " إذا سمعت أن أي مكتب أخوة أو مكتب شعبي في الخارج
منع أي عربي عن القدوم إلى ليبيا بحرية سوف أرسل له جماهير من هنا أو
جماهير عربية هناك لتزحف عليه وتدمره ".
وهذا المقطع وحده من خطاب العقيد يفسر لنا نفسيته التي لا يستطيع التحرر
مما تمليه عليه من هواجس وأهواء، فهو دوماً صاحب القرار، والجماهير ملك
يديه من المحيط إلى الخليج - هذا إن سلمنا جدلاً بأنه قومي عربي - ومن يخالفه
فمصيره الموت والدمار.. مسكينة أمتنا التي طالما ابتليت بمثل هذا الرجل العجيب
الغريب، والمدهش حقاً أن كثيراً من العاطفيين يعجبهم قول العقيد هذا، ولو تأملوا
قليلاً لوجدوا فيه محنة ليبيا التي استمرت حوالي عشرين عاماً! !
فالمكاتب الشعبية مكاتبك أيها العقيد، ورجالها أنت الذي اخترتهم، وهم أعز
ما تملك فكيف لا يسلمون من تدميرك عندما يمنعون أي عربي من دخول بلدك؟
انتبه أخي القارئ إلى قوله (أي عربي) ، فإذا افترضنا صدق العقيد هل يدمر
المواطن الليبي لأنه منع مجموعة من تجار المخدرات مثلاً؟ ! ومن ثم لماذا قرار
التدمير بيد العقيد وهو الذي يعتمد على أشبه ما يكون بصراع الطبقات، ولماذا
يستغرب العقيد تحرك قطعات عسكرية لتدميره وتدمير نظامه أو تحرك الشعب في
الداخل والخارج لمثل هذا الغرض؟ فهل قرارات التدمير التي يأمر بها شرعية
وتقدمية والقرار الذي يصدره الشعب أو الطبقة الواعية من الشعب ليست شرعية
ولا هي تقدمية؟ !
أيها العقيد العتيد: اعلم أن هذه المسرحية إذا انطلت على غوغاء الناس
وعامتهم فلن تنطلي على ضباط جيشك، ولا على المعارضة في الخارج والداخل،
ولن يقبل إنسان يحترم نفسه أن يعيش في بلد دستوره وقوانينه مزاجك ومواقفك
المتقلبة.. وحتى عامة الناس سيشعرون بعد حين فقدان المصداقية فيما قلته وسوف
تزداد نقمتهم، ولن يثقوا بك حتى لو تبت وصحت توبتك.
أيها العقيد النجيب. إن مزاجيتك لا يقبلها ولايرضاها أحد داخل ليبيا ولا
خارجها فإذا قال الرجل الثاني في نظامك: إنني مؤمن بكتابك الأخضر، فاعلم أنه
يكذب عليك كما تكذب أنت عليه وعلى غيره، فحدد موقفك وأعلن عن المبادئ التي
تؤمن بها:
* هل أنت مسلتم وتريد تحكيم شرع الله كما أعلنت في بداية حكمك، إذن
لماذا تقول بإلغاء السنة والتي حكم عليك بسبب ذلك علماء المسلمين في العالم بالردة؟ ولماذا قتلت عدداً غير قليل من الدعاة، وأئمة المساجد؟ ولماذا حاولت إرغام
الطالبات على الخروج بغير إذن أهلهن والتدرب على السلاح والاختلاط بالسفهاء
من جماهيرك؟ !
* هل تؤمن بالقومية العلمانية وتعتقد أنه لا فرق عندك بين أبي جهل وأبي
بكر، أو بين أبي لهب وعمر بن الخطاب، إذن لماذا وقفت مع إيران ضد العراق
ومع إيران في عدوانها على الخليج ومحاولاتها المكشوفة من أجل السيطرة على
الحرمين؟ !
* هل أنت يساري شيوعي؟ .. إن الذي نعلمه أن المعسكر الشيوعي لا يثق
بك ولا يعتبرك من المنتمين إليه ولا حتى من المؤيدين، وما تظنه أسراراً يذكره
عامة الناس وخاصتهم، وآخر هذه الأمور تأييد الخبراء السوفييت للانقلاب الفاشل
ضدك، وهؤلاء الخبراء ومن وراءهم خدعوك فيما أسميته مصانع أسلحة..
* هل أنت عبيدي باطني؟ وقد زعمت في بعض تصريحاتك أنك قريب
للخميني، ورغم تناقضاتك الكثيرة فلا زلت ثابتاً على موقف ودي من إيران
وحلفائه افي بلاد الشام؟ !
* أم أنت أمة وحدها، لا تدين ولا تؤمن بغير مزاجيتك، وهذه المزاجية
تلتقي حيناً مع الإسلام في موقف من المواقف، وحيناً آخر مع القومية العلمانية
وهكذا، وهذا هو الأرجح، وهنا مكمن الخطر.
أيها العقيد العجيب: ثق أننا والله نحب أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى،
وتطهر قلبك من الكفر الذي طالما أعلنته في إذاعتك وأجهزة إعلامك، وتحفظ
لسانك من النطق بالكفر والفسوق والعصيان، وتغير أفعالك المنكرة الشنيعة..
يسرنا يا أيها العقيد أن تفتح صفحة جديدة ناصعة بيضاء في تاريخ ليبيا وتغلق
صفحة كالحة سوداء لم يشهدها هذا البلد المنكوب في ظل استعمار الطليان وطغيانهم
ننصحك صادقين أيها العقيد إن أردت التغيير أن تغير القناعات التي في عقلك..
وأن تتخلى عن المزاجية، ثم تتلف الكتاب الأخضر وتقلع عن الكتابة لأنك لست
أهلاً لها، وتحترم قبل ذلك دين الأمة.. نعم أن تحترم عقيدة الأمة، فالمسلم قد
يصبر على الذل، وقد يصبر على الجوع، وقد يصبر على الحرمان ولكنه لا
يصبر ولا يسكت عن تأديب كل من يمتهن دينه، وإذا غلب على أمره بعض الوقت
فسوف ينفجر البركان لا محالة ويجتث الطغاة وينتصر المسلمون على الظالمين
المفسدين.
لقد أردت أيها العقيد - كما أراد أساتذتك من قبل - أن يعبدك الناس من دون
الله وأن يكون كتابك الأخضر مقدماً على القرآن الكريم، ولبثت من عمرك عشرين
عاماً تقتل وتبطش وتسجن ثم ما الذي حدث؟ !
إن الذين تربوا في مدارسك وجامعاتك ومعاهدك من الشباب لا يكرهون شيئاً
كما يكرهون نظامك، ولا يحتقرون شيئاً كما يحتقرون كتابك الأخضر، وسيبقى
هذا موقفهم حتى لو أصبح الكتاب أسود أو أحمر، ولا يقدمون شيئاً على حب الله
ورسوله.
أيها العقيد العتيد: لا أظنك تفهم هذه الحقيقة لأن المنصب يعمي قلب صاحبه، وكذلك كان من قبلك لا يتعظون ولا يعتبرون، وليست مشكلتك مع هذه الجهة الإسلامية أو تلك.. إن مشكلتك مع الإسلام، ومشكلتك مع كل من يدين بالإسلام مهما كان انتماؤه وجنسيته وإقامته.
ليتك تفهم أيها العقيد أن الأرحام التي أنجبت عمر المختار وصحبه ما زالت
تنجب رجالاً يحبون الموت كما تحب أنت وجماهيرك ولجانك الحياة ... وأن
الرجال الذين قهروا الطليان وسجلوا أنصع الصفحات في تاريخ المسلمين الحديث ما
زالوا هم الرجال لأن الإسلام العظيم هو الذي صنع هؤلاء وأولئك ... وأن الأرض
الطيبة لا تزال هي الأرض بنعمة الله وفضله.
فليتك أيها العقيد تثوب إلى رشدك وتتوب إلى ربك وتكفر عن جرائمك
وظلمك قبل أن يأتي يوم لا ينفعك فيه الندم.