افتتاحية العدد
يا دعاة الإسلام:
الائتلاف.. لا الاختلاف
بعد سقوط الدولة العثمانية، وتمزق العالم الإسلامي، سيطر الاستعمار على
ديار الإسلام، وأذاق المسلمين ألواناً من الذل والهوان، وسعى جاهداً لنزع الهوية
الإسلامية، وسلخ الأمة الإسلامية عن حضارتها وتاريخها، ثم خرج المستعمر بعد
أن زرع أذناباً علمانية من بني جلدتنا، يتكلمون بلساننا، أجسامهم نبتت في أرضنا، وقلوبهم وعقولهم تربت على فكر الغرب أو الشرق، واستمرت متعلقة برموزها
وحُدَاتُها هناك. وأصبح هؤلاء القوم أشد خطراً على المسلمين من أسيادهم
المستعمرين، حيث تفننوا في مسخ الأمة الإسلامية وإفسادها وسلب هويتها،
وخدعوا الشعوب بالشعارات البراقة والأطروحات الملفقة.
ولكن ماذا كانت النتيجة؟
دخلت الأمة في أنفاق مظلمة، وتعرضت لهزائم ونكسات متنوعة في شتى
المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية.. ولا تخرج الأمة من مأزق إلا وتدخل
في مأزق أشد منه إظلاماً وفساداً.. وكلما سقط قناع وانكشف ما وراءه صُنِعَتْ
أَقْنِعَةٌ أُخر، لمعت في وسائل الإعلام..
وفي هذا الجو المظلم من الزيف والخداع.. وفي هذه المستنقعات الآسنة من
التخلف والانحطاط.. ولدت الحركة الإسلامية المعاصرة من جديد..!
لقد ظن أعداء الإسلام أنه بسقوط الدولة العثمانية قد وئد الإسلام، فإذا
بالصحوة الإسلامية تقلب الموازين، وتزيل تلك الظنون والأوهام.
وعلى الرغم من القمع والتسلط الذي ووجهت به الحركة الإسلامية ورجالاتها، إلا أن مطارق الظلم لم تزدها إلا قوة وتجذراً وصلابة.
لقد امتدت هذه الأغصان الكريمة، وتنامت بصورة مذهلة أدهشت جميع
المراقبين والمتابعين لسير الأحداث، وأصبحت الصحوة الإسلامية هي الشغل
الشاغل للساسة والكتاب العلمانيين ووسائل الإعلام، وبخاصة بعد السقوط المفاجئ
للمعسكر الشيوعي.
لقد درجت وسائل الإعلام الغربية على التحذير من ذلك (الغول) القادم من
المشرق الإسلامي، وتوالت التقارير السياسية و (التحليلات) الإعلامية، تشرح هذه
الظاهرة، وتحدد معالمها وأبعادها، وترسم الخطط والاستراتيجيات السياسية
والعسكرية لمواجهتها.
ماذا تملك الصحوة الإسلامية حتى يهابها أعداء الله؟ !
هل تملك التقنية..؟ !
هل تملك الاقتصاد..؟ !
هل تملك القوة..؟ !
هل تملك السلاح..؟ !
لا تملك شيئاً من ذلك على الإطلاق، ولكنها تملك هذا الدين الرباني الذي
أنزله الله ليبقى إلى قيام الساعة، قال (تعالى) : [هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] [التوبة: 33] .
لقد أنجزت الصحوة الإسلامية خلال العقود الماضية إنجازات هائلة، والتفت
الشعوب الإسلامية حولها بكل ثقة واطمئنان، حتى أصبحت بحمد الله بعثاً شمل
معظم طبقات الأمة، فهذه المسيرة المباركة سائرة، ولن تتوقف بإذن الله (تعالى) .
ولكن..! أليس من العقل والحكمة.. بل ومن الشرع: أن نعاود النظر في
هذه المسيرة، ونقلب الطرف هنا وهناك، ونحاول بكل جدية وإشفاق تقويم هذه
المسيرة سلباً وإيجاباً، حتى نضمن سلامتها واستقامتها على الطريق المستقيم،
خاصة في هذا العصر الذي تمر فيه الصحوة الإسلامية بمنعطف خطر بالغ ... الأهمية..؟ !
إن ثمة حقيقة دعوية تدمي القلب، وتحزن النفس، ولا تحتاج إلى كبير جهد
أو عناء لإثباتها، وذلك: أن الإنسان لا يكاد يذهب إلى بلد من بلاد الإسلام إلا
ويجد الدعاة أحزاباً متفرقين وأشتاتاً متناحرين.
ونظرة سريعة في أحوال العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، تُظْهِرُ لنا
بجلاء ذلك التصدع الداخلي في صفوف الحركة الإسلامية: فالفرقة والتنازع
والتدابر سمة مشتركة لدى معظم العاملين للإسلام، فهي القاسم المشترك الأكبر
بينهم:
الجماعات الإسلامية في مصر لا تحصى ...
الحركة الإسلامية في سوريا تتمزق وتتنازع، وكانت مأساة حماة ثمرة مرة
لذلك..
الحركة الإسلامية في كشمير تجاوزت عشرين حزباً..
الجهاد الأرتيري يبدأ بالتوحد والائتلاف، وينتهي بالفرقة وتبادل التهم..
الصراع الحزبي في الباكستان يؤدي إلى هزيمة الإسلاميين في الانتخابات
هزيمة ساحقة..
الأحداث الدامية في أفغانستان مثال صارخ للفوضى الحزبية والتنظيمية..
أحداث الخليج شرقت بالمسلمين وغربت، وكشفت ما كان مستتراً..
وهكذا في الأردن، والخليج، واليمن، والسودان، والمغرب العربي ...
وتجول حيثما شئت داخل هذه المنظومة الإسلامية، فالظاهرة هي هي، تزداد حيناً
حتى تصل إلى الصراع وتشابك الأيدي، وتقل حيناً آخر، ولكنها كما قال الشاعر:
أرى تحت الرماد وميض نار ... وأخشى أن يكون لها ضرام
إن أي متابع لمسيرة العمل الإسلامي المعاصر يلحظ هذا الشرخ الممتد في
الجسم الإسلامي، ورغم أن الأصل الذي حث عليه الإسلام، وتواترت به
النصوص، واجتمعت عليه الأمة، هو الائتلاف والاتحاد، وأن تكون الأمة المسلمة
يداً واحدة على من سواها، يسعى بذمتها أدناها، إلا أن رياح الفرقة وأعاصيرها
تزداد يوماً بعد يوم، وما تزيدها الأحداث إلا تجذراً واتساعاً، وكان الظن أن المحن
والشدائد سوف تقود إلى التوحد، أو على أدنى الأحوال إلى التنسيق واتخاذ مواقف
مشتركة، ولكن التجارب الماضية والجارية أظهرت شيئاً آخر، فعقدة التفرد
والتميز ملازمة لأكثر التجمعات، وكل تجمع يعتقد بأنه الإمام الذي تثنى عنده
الركب، ويلتف حوله الناس، ويسلّم بين يديه القريب والبعيد، ويجتمع عنده
العرب والعجم ... !
قلب الحركة الإسلامية يغلي ويتمزق من الداخل بسبب هذه الصراعات
المستمرة بين الإسلاميين، تلك التي تغذيها الحزبية الطاغية في الصفوف، والتي
أنهكت الجسم المسلم وحاصرته، وأصبحت عند بعض فصائله معيار الحق وأساسه؛ فالحق ما قاله القادة، ولو خالف من خالف، والباطل ما ردوه، ولو وافق من
وافق..!
إذا هدأت الأمور بين بعض الدعاة لا ترى إلا الابتسامات الصفراء الباهتة،
والمجاملات الباردة، مشوبة بشيء من التوجس والحذر والشك، وقد يتحول ذلك
في بعض الأحيان إلى تراشق بالتهم وإسفاف في العبارات ولغط أجوف ومهاترات
تطول ولا تنتهي، وإذا دعت الضرورة الحزبية شمر المشمّر عن ساعديه واستل
لسانه، وأخذ يفري في أعراض إخوانه المسلمين، فالغيبة والنميمة محرمتان على
العوام، أما بين الدعاة فالمصلحة الحزبية تجيزهما..! !
أما آن لنا أن ندرك بعد كل هذه التجربة أن الاعتصام بحبل الله المتين
والاجتماع على الهدى المستقيم هو القوة الحقيقية التي نستطيع أن نواجه بها ... الأعداء..؟ !
قال الله (تعالى) : [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] .