هموم ثقافية
(1)
بقلم: سامي محمد صالح الدلال
إن منبع هذه الإشكالية يتصل باختلاف زاوية النظر للديمقراطية، مما
يؤدي إلى تعدد وجهات تفسير مضامينها في النظام السياسي الواحد والمجتمع الواحد، فكيف إذا تعددت الأنظمة السياسية وتضاعفت المجتمعات! ، لا شك أن ذلك
سيؤدي إلى مزيد من انفراج زاوية الخلاف في تفسير الديمقراطية. ومكمن ذلك
يعود إلى أنها من نتاج العقل البشري الذي يخضع لتأثيرات شتى كل منها له دوره
في انفعالاته ويترك بصماته على تكييف خياله وتوصيف أوامره.
ولنُخْضعْ الآن هذه الإشكالية لزوايا نظر متعددة.
منظور الحكام:
إن الحكام في العالم الثالث لا يعتبرون الديمقراطية وسيلة من وسائل المشاركة
الشعبية في الحكم، بل هي من وجهة نظرهم تكأة يتكئون عليها لإضفاء رونق
جماهيري على حكمهم، ولذلك فإن الانتخابات وما ينتج عنها من مجالس نيابية
ينبغي أن يضع لها الحكام برنامج إخراج عملي يحقق هذه الغاية، ويوصل إلى هذا
الهدف، فإذا ما اختلت المعادلة عند التطبيق لصالح ازدياد نفوذ المجلس النيابي بما
لايؤدي إلى تحقيق رغبات الحكام، فإنهم لا يتورعون عن استخدام الجيش لقمع
آثار اختلال تلك المعادلة، كما حدث في تركيا وباكستان والجزائر وروسيا والقرم
وغيرها.
إن هؤلاء الحكام يطلبون من المجلس النيابي أن يقوم بدوره المناط به لتشريع
القوانين التي ترسم للناس طريقة حياتهم على المنحى الذي يخدم أهداف الحكام
ويحقق أطماعهم، ولن يستطيع المجلس النيابي أن يضطلع بهذا الدور المبرمج له
إلا إذا كان أداة طيعة في يد الزعيم، يستمع لرأيه ويأتمر بأمره، ومن قبل قال
فرعون لملئه (الذين هم أعضاء مجلسه) : [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ
سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] وقد كان فرعون سبّاقاً في استعمال مجلسه واجهة
لتحقيق مآربه وأهدافه الطاغوتية، فأراد استخلاص قرار من ذلك المجلس بقتل نبي
الله (موسى عليه الصلاة والسلام) خوفاً من أن يفلح موسى (عليه الصلاة والسلام)
في تبديل عقيدة الجماهير الحاشدة من حالها الشركي إلى دين التوحيد، أو أن يردها
إلى الصلاح الذي هو في عرف فرعون فساد، قال (تعالى) : [وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ
الفَسَادَ] [غافر: 26] ، وكأنما ليس ثمة فساد في الجماهير التي يحكمها فرعون؛
فهي في مفهومه قد استكملت أركان الصلاح بعبادتها له وطاعتها أوامره فهي والحال
هذه ليس فيها من الفساد مايذكر! .
لقد كانت خشيته ظاهرة من أن يدب فيها الصلاح بانتشار دعوة التوحيد فيها
بعد أن كانت في حالة فساد حقيقي تمثل في استسلام الجماهير له وتأليههم لشخصه؛
اقتنع فرعون بالنتيجة التي وصل إليها [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] .
إن الديمقراطية في العالم الثالث (كما يسمونه) ينبغي أن تحقّق من منظور
الحكام هذه الغاية وإلافلا داعيَ لها.
ومن هذا المنظور، فإنهم ينظرون إلى هذه الديمقراطية باعتبارها واجهة
تضفي على حكمهم طابع المشاركة الشعبية، وتنفي عنهم تهمة الطاغوتية
(الديكتاتورية) فضلاً عن كونها مسرباً يمررون من خلاله رغباتهم في إطار قانوني، والواقع أنهم لا يجدون في ذلك صعوبة تذكر، ذلك أن المجلس النيابي واستمرار
بقائه مناط بهذا الدور الموكل إليه.
منظور الأحزاب:
إن الديمقراطية من وجهة نظر الأحزاب هي وسيلة للوصول إلى الديكتاتورية
الحزبية، أي فرض رأي حزب ما على جميع الأمة من خلال المجلس النيابي.
وقد يتحقق ذلك لحزب من الأحزاب: من خلال حصوله على الأغلبية
البرلمانية؛ إما بقوة حضوره الجماهيري، من خلال حسن تنظيمه وكثافة إعلامه
وتبنيه لقضايا الناس ولو نظرياً، وإما من خلال فرض سيطرته وهيمنته الحزبية
عن طريق الجيش (كما هو الحال في حزب البعث الحاكم في بعض الدول العربية) .
إن هذه الأحزاب وهي في حُمّى الاندفاع للحصول على أكبر عدد من كراسي
المجلس، تضحي بقيم خلقية، وتمارس أبشع الأفعال الردِيّة، من رشوة ومحسوبية، دون أن يرمش لها جفن أو أن ترتجف في يدها إصبع؛ ولذلك تراها تتقاتل
بالسلاح للحصول على أصوات الناخبين، بنفس القوة التي توزع فيها الرشوة،
سواء أكانت أموالاً أم وعوداً بمناصب، وهي في كل ذلك لاتتورع عن ممارسة
الكذب والدجل لتحقيق أغراضها والوصول إلى مراميها.
ونظراً لانحطاط المستوى الثقافي لدى كثير من الجماهير؛ فإنها سرعان ماتقع
في فخاخ هذه الأحزاب، لتكون لها صيداً سهلاً، لكنه ثمين! ! .
كما أن هذه الأحزا ب يتربص بعضها ببعض كل التربص باسم الديمقراطية،
وليس ثمة ضحية لهذا الصراع إلا مصالح الشعوب المستضعفة التي لاتجد ما يسد
جوعها، ويكسي عريها، ويوفر مأواها.
ومن سخريات الواقع أن معظم هذه الأحزاب ترفع شعارات براقة مضمونها
واحد وعباراتها شتى، فجميعها لم توجد إلا لخدمة مصالح الكادحين والعمال
والفلاحين، ولرفع الظلم عن المظلومين، وللنهوض بمستوى المعيشة، وتحقيق
الكفاية والعدل وتشييد دعائم النهضة، وهلم جرا.
إن معظم هذه الأحزاب قد نشأت محادة لله ورسوله، وهي ألعوبة في أيدي
أعداء الأمة، بل هي رماحها التي تخرق، وسيوفها التي تقطع، ولقد اتخذت من
الديمقراطية لباساً تختفي تحت مخططاتها وتحيك مؤامراتها، ففرقت الأمة، وشتت
كلمتها وبعثرت جهدها، بعد أن صدتها عن دينها، وماكان ينبغي لهذه الأمة أن
تستسلم لهذه الأحزاب وقادتها بعد أن غشيتها رحمة ربها بهذا الدين العظيم الذي
ارتضاه لها، قال (تعالى) : [وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ
حَتَّى حِينٍ] [المؤمنون: 52 54] .
وكم فعلت هذه الأحزاب من أفعال شائنة بعد أن استلمت السلطة، وتبرقعت
بلبوس الديمقراطية، فسامت شعوبها سوء العذاب، فقتلت الشرفاء وحولت الصلحاء
إلى المحاكم العسكرية وعاثت في الأرض فساداً، وصدق فيها قوله (تعالى) :
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
الخِصَامِ (204) وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لا يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
المِهَادُ] [البقرة: 204- 206] .
المنظور القبلي:
إن التنافس بين القبائل لاحتلال مراكز التوجيه ومواقع السيطرة واستلام زمام
القيادة كان من قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعندما جاء الإسلام أزاح
عصبية الجاهلية الأولى، وعَقَدَ التفاوتَ والتمايزَ على علم التقوى، قال (تعالى)
[.. إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..] [الحجرات: 13] ثم لما خبا الحس الإسلامي في
نفوس المسلمين في أزمنتنا الحاضرة هذه، نبا إلى السطح من جديد حس الانتماء
القبلي، وطغت النعرة العشائرية، وقد وجدت القبائل في الديمقراطية بغيتها التي
تحقق من خلالها بروزها على غيرها بأسلوب حديث وحضاري! !
فمن أجل هذا تؤيد القبائل الديمقراطية وتشارك فيها؛ فتتضافر جهود القبيلة
على دعم مرشحيها بكل الوسائل المادية والمعنوية المتاحة، ولا تشترط القبيلة
غالباً فيمن يمثلها حرصه على الدعوة إلى الإسلام وتحكيم شريعة الله المنزلة على
خير الأنام، بقدر ماتشترط قدرته على التعبير عن مطالبها، وتمكنه من إبراز
مناقبها، ورفع اسمها، ولوكان مرشحها ملحداً أو صوفياً حلولياً.
ويتنافس نواب القبائل في المجلس على استصدار القوانين التي تعزز بروز
قبائلهم، ويتسابقون في تقديم الخدمات لمناطقهم، فترى نائب القبيلة في البرلمان لا
يمثل شعبه إنما يمثل قبيلته فحسب.
ولعل بعض القبائل لو خيرت بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي
لاختارت الأخير إن شعرت أنها ستكون أكثر بروزاً وأوفى حضوراً في رحابه؛
حيث إنها لا تستطيع أن تحقق ذلك في النظام الإسلامي الذي يسمو فوق كل الشرائح
الطبقية والانتماءات القبلية.
فلما صار للقبائل هذا الثقل في الكفة الديمقراطية تسابقت الأحزاب على كسب
رضاها، وخَطْب ودها؛ أملاً في توظيف أصوات المنتمين إليها لصالح دعم تلك
الأحزاب، ولما رأت تلك القبائل تدافع الأحزاب نحوها وتنافسها على حيازة
أصواتها، وجدت في ذلك ضالتها، وهي الاستفادة من تلك الأحزاب وإمكاناتها
الكبيرة في تسخيرها لصالح مرشحيها، وهكذا حصل الانقضاض التداخلي
والامتزاج التفاعلي بين الأحزاب والقبائل، كل منهما منصرف الذهن إلى توظيف
الآخر لصالح أهدافه.
إن القبائل ترى في الديمقراطية محضناً لتفريخ الأحزاب ووسيلة ممتازة
للبروز السياسي من خلال انضمام أفراد القبيلة إلى الأحزاب المختلفة التي من
خلالها يتسلقون سلم الأضواء السياسية، والتي بدورها توفر الفرص الاقتصادية
وتوسع وترفع مكانتها الاجتماعية.
فالديمقراطية من خلال هذا التحليل تكرس وتعزز وتعمق الحس القبلي
والانتماء العائلي على حساب الرسوخ العقدي والامتثال الدعوي؛ وهذا يعني أنها
تنأى بتلك القبائل عن مفهوم قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أتقاكم..]
[الحجرات: 13] .
وهذا معناه: من الناحية العملية افتراق الكلمة، وبث بذور العداوة وتنمية
روح البغضاء، وتوسيع التنابز بالألقاب؛ بما يؤدي إلى تفتيت الوحدة الحقيقية
واستهلاك الطاقات الشعبية فيما يضر ولاينفع، مما يوهن الكيان الإسلامي ويضعف
تماسكه، ثم يؤدي به في نهاية المطاف إلى أن يكون لقمة سائغة في فم أعداء الأمة
ومبغضيها.
إن القبائل هي مادة سواد المسلمين، ويلاحظ قصور كبير لدى الإسلاميين في
قيامهم بمهام الدعوة على منهاج أهل السنة والجماعة في تلك القبائل الكثيرة المبثوثة
في طول العالم الإسلامي وعرضه، مما جعل ساحتها فارغة، فاقتنص العلمانيون
هذه الفرصة ليملؤوها بغثاء أفكارهم الهابطة وآرائهم الهدامة.
ولاشك أن جنوح القبائل نحو المشاركات الديمقراطية فيه مؤشر كاف للتدليل
على نجاح العلمانيين في اقتحام حصون الإسلام، من خلال التأثير على زعماء
القبائل ورواد توجيهها، وإننا نأمل أن يولي الإسلاميون القبائل والعشائر ماتستحق
من الاهتمام وبذل الجهد؛ لتسلك السبيل القويم والمنهاج الصحيح، فتكون رافداً
غزيراً للعمل الإسلامي الدعوي التغييري المنضبط بالنصوص الشرعية والواعي
لساحة الواقع، وما فيها من دهاليز وماتكتنفها من مؤثرات.
منظور العامة:
أقصد بالعامة: أغلبية الناس، وهم العوام الذين يشكلون في العالم الثالث
الطبقة الكبرى، وهؤلاء يقسمون إلى شرائح: فمنهم أميون، ومنهم مثقفون ثقافة
محدودة، وأغلبهم عمال وفلاحون ومهنيون، ومعظمهم غير منتمين إلى الأحزاب،
فيستفاد من ضوضائهم وصراخهم في الهتافات والمظاهرات وإحداث الضجة وتعميم
الصخب.
إن هذه الطبقة غالباً ماتكون في ضنك من العيش ومكابدة للحياة، فهي في كدّ
لا ينقطع، تسعى ليل نهار لتحصيل قوت يومها وسد جوعة أبنائها، وإن كثيراً
منهم لايفلح في الوصول إلى خط الكفاف، فهم بمثابة الغريق، يفتش عما يمكن أن
ينقذه وإن كانت قشة، ولما كانت الأحزاب ترفع شعار الدفاع عن الفقير والمسكين
وعن المكفوف والملهوف، وأنها من خلال الديمقراطية ومعارك المجالس النيابية
ستعيد للمظلوم حقوقه وتدفع عنه أسباب الفاقة والعوز، لذلك نظر العامة إليها أي
الأحزاب المنادية بالديمقراطية على أنها طريق لحل أزماتهم وتحصيل حاجاتهم،
فهي وسيلة مشروعة، من وجهة نظرهم، للحصول على مكاسب معيشية، بل
رفاهية حياتية، فتدافع العامة للانتساب إليها (تنظيماً حزبياً وشعاراً ديمقراطياً) ، فتم
سوقهم في أنفاق الديمقراطية، ثم انساحوا في دروبها ومسالكها، وصاروا لها داعين
وللاحتكام إليها مطالبين! !
ورغم أن جميع هؤلاء من المسلمين أقصد في البلاد الإسلامية فإنهم لم يفطنوا
إلى أن ما يرومونه من حل لمشكلاتهم وإشكالاتهم لايتحصل لهم إلا في دوحة
الإسلام وظلالها الوارفة، وماسبب ذلك إلا جهلهم به لطول عهدهم بهجره؛
ولتقصير كثير من علمائه في القيام بحقه، فالإسلام لدى أغلب العوام عادة موروثة
تنحصر في (سجادة الصلاة وسبحة ألفية) ! وعلاقة بين العبد وربه لاشأن لها بأي
منحى من نواحي الحياة.
ولذلك تعلق العوام بالديمقراطية، بعد أن قدمها لهم الإعلام على أنها المنقذ من
مهاوي الجهل والفقر، وباعتبارها أيضاً طريقاً مفتوحًاً أمامهم يغريهم بالمشاركة في
الحكم وصنع القرار السياسي، دون أن يدركوا أن هذا الطريق المنفسح مد
أبصارهم نظرياً لايستطيعون سلوكه عملياً لانعدام حصولهم على مقومات ولوجه،
فضلاً عن اقتحام قلاعه واجتياح حصونه، إن العوام في هذا البحر الخضم كالسمك
الذي هجر قاعه المكتنز بأصناف الغذاء ولاذ بالسباحة قرب السطح يفتش عن فتات
خبز يلقيه إليه صياد، فما يكاد يزدرده حتى يحس بوخز رأس السنارة وهي تنغرز
في جوفه، وليست إلا لحظات، فإذا به هامد الحركة في سلة صائده!
فعجباً لمن يَدَعُون غذاء الإسلام ويجرون وراء فتات خبز الديمقراطية
فتصطادهم سنارة العلمانية لتلقي بهم في سلة أعداء الإسلام، وربما فقدوا حياتهم
الإيمانية التي لا استمرار حقيقياً لوجودها إلا باتباعهم دين الله المنزل من السماء،
ولقد مرت على العالم الإسلامي عهود، ولاتزال تسلط فيها الطواغيت، وصادروا
الحريات ونكلوا بالمعارضين؛ فأصبح الناس لايتكلمون إلا همساً، ولايذكرون
مطالبهم إلا تورية، ولا يعبرون عن مشاعرهم إلا في مسارب أوردة أفئدتهم،
فتراهم يعدون على أنفسهم أنفاسهم؛ ويحصون على ألسنتهم ألفاظهم، فعندما بلغت
القلوب الحناجر، وتجاوز السيل الزبى، قيل لهم: ها هي أبواب الديمقراطية قد
أشرعت، وأقداحها قد أترعت، فادخلوها آمنين، وارتووا من كؤوسها هانئين! !
فازدحموا على فجاجها أفواجاً أفواجاً، وتلاطموا على حيازة كراسي نيابتها أمواجاً،
ولسان حالهم يقول: هذه دار حريتنا ومُبوّأ استرداد كرامتنا!
إن الديمقراطية بمعناها الشامل المتضمن انعتاق الحرية عن كل انضباط
شرعي أتاحت للطغام من العوام من العلمانيين وأمثالهم، أن يتخذوا منها مظلة
لانحراف أخلاقهم وإظهار خلاعتهم وكشف عوراتهم نساءً ورجالاً باسم الحرية
الشخصية، بل أتاحت لهم أن يوظفوا أقلامهم، وينفثوا حقدهم الأسود على كل
مايمت للإسلام والمسلمين بصلة، وقد وجد هؤلاء العوام في الديمقراطية ملاذاً، في
ظله يمارسون المنكر باسم الحب، ويعاقرون الخمر باسم المشروبات الروحية،
ويبتلعون أموال الناس ربوياً باسم الفائدة، فلهذا السبب يأله هؤلاء الطغام
الديمقراطية، ويكرهون الإسلام، إن الديمقراطية تتيح لهم فرصة نشر فسادهم في
عامة الناس، حتى يصبح ذلك بينهم عادة، ومن يخرج عليه يستحق الإبادة! ! .
وأما الأحزاب، فإنهم يرون في هؤلاء العوام مادة خاماً يكثرون بها سوادهم،
ويستفيدون من أصواتهم الانتخابية، بل يستخدمونهم في تنفيذ أهدافهم ونشر
دعاياتهم والدفع بهم في نحور خصومهم! !
وإن من العجب حقاً، أن هؤلاء المستضعفين، رغم سوء حال معيشتهم
ومحدودية دخولهم، فإنهم يقعون ضحية للديمقراطيين الذين يدفعونهم للتبرع بأموالهم، على حساب اللقمة التي يقتطعونها من أفواه أطفالهم، عن طريق التأثير على
مشاعرهم واستمطار عواطفهم، رافعين الشعارات البراقة، وباذلين الوعود
المهراقة! !
وأما العوام، بل وغير العوام من أصحاب الديانات الأخرى، فإنهم يعتبرون
الديمقراطية مكسباً؛ لأنها تبعد المسلمين عن الإمساك بزمام السلطة، فضلاً عن
كونها مظلة قانونية تتيح لهم نشر أباطيلهم وترهاتهم! ! (للحديث بقية)