المسلمون والعالم
اتفاق دايتون
أي سلم هذا الذي ينشدونه؟
عبد الله عمر سلطان
بينما غطت احتفالات اتفاق دايتون الأفق، كانت الولايات المتحدة ترسل
رسالة واضحة إلى العالم عن طبيعة هذاالاتفاق وظروف ولادته ... لقد اصطفت
طاولات العشاء الذي أُجري في مرآب للطائرات في قاعدة دايتون الجوية، وكان
على الضيوف أن يحتفلوا في قارب حشرت فيه طائرات من نوع إف 15، وإف
16 وطائرات (الشبح) وغيرها من صواريخ جو/أرض، وجو/جو في رسالة
واضحة لايمكن أن تفوت على لبيب.
لقد كان مضمون الاتفاق سيئاً بما فيه الكفاية، وبالرغم من الضغط الأمريكي
القوي (على الجانب البوسني بالخصوص) وقرقعة السلاح وإغراء المساعدات، فإن
المراقبين على شتى اتجاهاتهم لم يعتبروه أكثر من مجرد هدنة مؤقتة أو شريط
إعلاني لتلميع رئاسة كلنتون وتصويره على أنه صانع السلام.
جمهورية (سقط المتاع) :
مجلة النيوزويك الأمريكية اختارت هذا الاسم لجمهورية البوسنة (الورقية)
التي شهدت ولادتها في دايتون، يقول المحلل البريطاني نويل مالكوم الذي سخر من
تعليق أحد أعضاء الوفد الأمريكي على الاتفاق بأنه ولّد أعظم وأعقد دستور في
العالم لدولة حديثة: (هل تظل هذه الدولة دولة فعلاً؟ [ويضيف] سوف تتكون
البوسنة والهرسك من كيانين هما: جمهورية الصرب والاتحاد المسلم/الكرواتي،
وسوف يكون لكل منهما حكومته وبرلمانه وشرطته وجيشه، وسيكون كل منهما
مسؤولاً ضمن أراضيه عن القوانين المتعلقة بمسائل مثل: أجهزة الإعلام والتعليم،
وسيكون لكل منهما الحق في إقامة (علاقات موازية) مع الدول المجاورة، وسيكون
لكل منهما الحق في فرض الضرائب، وسيتمتع كل من الكيانين بالسلطات المنوطة
بحكومات الدول الفعلية باستثناء قائمة قصيرة من المسائل التي أنيطت بالحكومة
المركزية.
حيث سيكون هناك برلمان بوسني ومجلس للوزراء ورئاسة من ثلاثة أشخاص.
وإذا ما أزلنا المهام العملية العادية مثل إدارة الحركة الجوية من القائمة، فلن
يتبقى سوى قائمة مختصرة جداً تحتوي على السياسة الخارجية والسياسة النقدية
والجمارك والهجرة، فهل تكفي هذه السلطات في غياب كل السلطات الأخرى التي
تمارسها الدول الحقيقية للإبقاء على البوسنة حية؟ !
ولكن المشكلات تذهب إلى أبعد من ذلك؛ فعلى الرغم من أن المؤسسات
المركزية للدولة البوسنية قد تملك الحق وفق اتفاقية دايتون في معالجة هذه المسائل
القليلة، إلا أنها قد تفتقر إلى القدرة على ذلك؛ ولهذا السبب تم إدخال كثير من
العوائق والضمانات في هذه الآلية، بحيث يسهل على أي فئة أن تجمد العملية
برمتها.
إذن لماذا حرصت أمريكا على تمرير الاتفاق والمخاطرة بحياة عشرين ألف
جندي أمريكي من أصحاب الدماء الزرقاء؟ ؟
الجواب يتشكل من جزأين: جزء يتعلق بالنتائج السريعة المتمثلة في مصلحة
الإدارة الأمريكية لتصوير نفسها على أنها صاحبة السلام وصانعته لاسيما في عز
الموسم الانتخابي، كما يؤكد على حقيقة الدورالأمريكي وأهميته في حل المشكلات
الدولية وأنها صاحبة الشأن في تسيير الملفات الساخنة في الوقت الذي تبدو فيه
أوروبا عملاقاً اقتصادياً وقزماً سياسياً، ويتأكد ذلك حينما نتأمل الاتفاق ونخرج منه
بنتائج حاسمة ومنطقية تقول: إنه أقل إنصافاً للمسلمين من الحلول الأوروبية
السابقة التي طالما رفضتها أمريكا بحجة أنها تكافئ المعتدي وتظلم الضحية! !
فاتفاق دايتون هو محصلة لخطط كارينجتون وأوين وإخوانهما من دهاقنة
السياسة الأوروبيين.
أما في الجانب الاستراتيجي فيأتي تدخل أوروبا لسببين مهمين: أحدهما
متوسط المدى، ويتمثل في إنقاذ حلف الأطلنطي وبعث الحياة فيه لاسيما في
المواجهات المقبلة مع العدو الإسلامي، كما صار واضحاً ... فالحلف يمثل التزاماً
بالأمن الجماعي أمام الأخطار الشرقية (الشيوعية سابقاً) أو الجنوبية (دول العالم
الإسلامي) فالحلف أثبت أنه الأداة المثلى للحفاظ على الأمن الأمريكي المرتبط
بالاستقرار في أوروبا، كما اتضح خلال الحربين العالميتين، ولاشك أن ضياع
هيبة الحلف يمثل ضياعاً لاستثمار أمني وسياسي عمره يزيد عن النصف قرن..
أما العامل الثاني فهو استثمار القيادة الأمريكية للحلف على المدى البعيد،
حيث إن أمريكا ترى في دولة يحكمها المسلمون في أوروبا ذريعة وفرصة لاستمرار
نفوذها في القارة القديمة من خلال الناتو، في الوقت الذي تتوجس فيه أوروبا على
تناقضاتها القومية من احتمال نمو تيار إسلامي في البلقان، يمكن أن يمتد لا عن
طريق الحرب هذه المرة، وإنما ثقافياً وحضارياً إلى أوروبا الغربية، المسيحية.
فالبوسنة حسب الاتفاق، دولة علمانية أوروبية ديمقراطية غربية الطابع،
والمسلمون فيها على الرغم من كونهم الأكثرية المطلقة 50% يملكون ولايحكمون.
فالاتفاق ينص على دستورية مبدأ الفيدرالية بين المسلمين والكروات في
نصف الجمهورية المحاذي لكرواتيا! ! ! ومبدأ الكونفدرالية بين هؤلاء والصرب
في النصف الآخر من البلاد المحاذي لصربيا، فأين هو الوجود الإسلامي في هذه
الدولة؟ وأين هو حق الأكثرية المسلمة في النظام الديمقراطي؟
أما العاصمة (سراييفو (فقد تركها الاتفاق موحدة إرضاءً للمسلمين، ولكنه
بالفعل قسمها إلى تسعة قطاعات منسجمة قومياً، كل قطاع له لغته الرسمية،
ونطاقه التعليمي، ومناسباته الخاصة، حيث ينتخب سكان كل قطاع ممثليهم في
المجلس البلدي للمدينة، الذي ينتخب بدوره عمدة للمدينة وثلاثة نواب له (مسلم
وكرواتي وصربي) ، ليرأس كل منهم المجلس لمدة سنة بالتناوب.
وإذا كان موضوع إبقاء سراييفو موحدة نزولاً عند رغبة المسلمين، فأين هو
التأثير الإسلامي في العاصمة ذات الأكثرية المسلمة الساحقة؟
واتفاق دايتون وإن أوقف حمامات الدم في البلقان لبضع سنوات أو أقل فإنه قد
أعاد البريق للزعامة الأمريكية وأعطاها نفوذاً متجدداً في القارة القديمة وحوض
المتوسط، ولن يغير مؤتمر برشلونة لدول المتوسط من ذلك شيء مهما كانت درجة
نجاحه) .
مستقبل الاتفاق:
بين مستقبل الاتفاق يطل ماضي التطهير العرقي الذي تتضح صورته يوماً
بعد يوم، ويظهر العالم عارياً من كل المشاعر الإنسانية حيث نرى تواطؤ القوى
الدولية مع الصرب والكروات في ارتكاب جرائمهم ... لقد أشعل المسؤولون
العسكريون لحلف الناتو بما فيهم رئيس الأركان الأمريكي الرأي العام بالحديث عن
خطورة (المجاهدين) في البوسنة وضرورة ترحيلهم بالرغم من عدم ثبوت ارتكابهم
لجريمة واحدة، بينما يظل المجرمون الحقيقيون يمارسون أدوارهم القذرة بالرغم
من إدانتهم من قبل المحاكم والحكومات الغربية بارتكاب أبشع المجازر البشرية..
والسؤال: هل كان التركيز على المجاهدين ستاراً لإخفاء العلاقة المشبوهة بين
عرابيّي دايتون وجزاري صربيا..؟
سؤال يحاول هذا التقرير الإجابة عليه ... (تقول مختلف الروايات التي
أوردتها وسائل الإعلام الدولية نقلاً عن شهادات (الخوذ الزرقاء) الهولنديين، إن
(راتكو ملاديتش) (القائد العام لقوات صرب البوسنة) قد استدعى عشية 11 يوليو
1995، ضباط الفيلق الهولندي المكلفين بحماية سربرينتشا، وذلك في قاعة أحد
الفنادق الواقع في محيط المدينة المحاصرة منذ أكثر من سنتين، ووضعهم داخل
إحدى القاعات التي علق فيها خنزير من أرجله الخلفية، وأمر أحد الجنود فذبحه
أمام الملأ، فنفرت الدماء من رقبة الخنزير الذبيح في جميع الاتجاهات، وهنا
استدار ملاديتش إلى (ضيوفه) المشدوهين من (حفاوة) هذا الاستقبال، وقال لهم
بالحرف: (بهذه الطريقة سنعامل كل أولئك الذين سيضعون أنفسهم تحت حماية
جنود (الخوذات الزرقاء!) .
وراح (ملاديتش) يستكمل بسادية متوحشة في سربرينتشا ما بدأه في مقاطعات
بوسنية أخرى طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمليات (تطهير عرقي) وديني
رهيبة، أصاب فيها البشر والحجر، ومس المقدسات وداس المحرمات، لكن هذه
المرة بشكل شامل، كبير المدى والاتساع، لقد وضع بين يديه حياة مايفوق أربعين
ألف بوسني بالإضافة إلى ما قام به مجرمو الصرب من مذابح وما عمل من أخاديد
دفن فيها ألوف من المسلمين العزل.
إن المعلومات الاستخباراتية الأمريكية سربت هذه المعلومات وقت المحادثات
وهي تثبت التورط الحقيقي لذلك الجنرال الفاشي الصربي راتكو ملاديتش وزعيمه
السياسي رادوفان كاراديتش، إنما كان بقصد الضغط غير المباشر على زعيم بلغراد، الذي لا يقل فاشية عن صنيعته، أي سلوبودان ميلوسيفتش، وذلك حتى تلين
قناته في محادثات دايتون التي تمت تحت الرعاية الأمريكية، ومن جهة أخرى يبدو
أن أمريكا كانت متخوفة من أن تتهم بإخفاء معلومات في قضية مذابح سربرينتشا،
لاسيما وأن عملية (استجواب) ضباط الفيلق الهولندي العامل في سربرينتشا تحت
المظلة الأممية، وهو الذي عاش أفراده مختلف الوقائع الفظيعة لعملية التصفية
العرقية التي مارسها الجنرال ملاديتش، ستعلن على الملأ.
والتساؤل الذي بات يطرحه مختلف المهتمين بالقضية البوسنية اليوم، هو:
لماذا تخلفت أمريكا في تقديم كل الوثائق المورطة لملاديتش وزبانيته كل هذه المدة؟
الظاهر هو: أن واشنطن لم ترد أن تنفجر في وجهها قضية مذابح سربرينتشا
ضد المسلمين، ومذابح كرايينا ضد السكان الصرب العزل، في الوقت الذي تقوم
فيه برعاية محادثات سلام تعتبر مصيرية بالنسبة لمستقبل منطقة البلقان كلها:
ولذلك قامت إدارة البيت الأبيض بتفريغ جعبة المعلومات الخطيرة التي تمتلكها على
دفعات صغيرة، وذلك لتخفيف الصدمة من جهة، وحتى لاتعطي الكونغرس
الأمريكي مبرراً قوياً يدفع به إلى الموافقة على رفع حظر السلاح المضروب على
البوسنة وأطراف الصراع الأخرى في البلقان، ومن جهة أخرى يعتقد أن تخلف
أمريكا عن الإعلان عما تملكه من وثائق بخصوص مذابح سربرينتشا، كان مع
زعيم كرواتيا فرانيو توجمان لمشروع الهجوم الخاطف على إقليم كرايينا الكرواتي،
ولهذا انتظرت أمريكا المدة الكافية حتى يتسنى لها ولحليفها توجمان تنفيذ ذلك
المخطط، وبعدها أصبح بالإمكان تسليم وثائق إدانة قادة صرب البوسنة إلى محكمة
الجنايات الدولية. ومن جهة أخرى يبدو أن تسليم هذه الوثائق في هذا الوقت بالذات، إنما قصد به الضغط على سلوبودان ميلوسيفتش، الزعيم الصربي المفاوض في
دايتون، وذلك حتى يجبر على قبول أهم شروط مسودة السلام البلقانية تلك، أي
منع قادة صرب البوسنة من تسلم أي مناصب سياسية في جمهورية البوسنة التي
شرع في وضع ملامحها الأولى في دايتون.
حسابات الغرب الباردة:
إن كل هذه المبررات لايمكن أن تقنع أي أحد، وبالتالي فالتساؤلات ستبقى
حول مسؤولية العالم الغربي وأمريكا بالذات عن مذابح شرق البوسنة التي راح
ضحيتها عدة آلاف من المسلمين، حيث تركت السفاح الرهيب ملاديتش وجنوده
يرتكبون المجازر ولم تتحرك لنجدتهم، وذلك عن سوء قصد وطوية، ومن أجل
حسابات استراتيجية وتكتيكية باتت اليوم واضحة وبينة، لكن السؤال الذي سيبقى
معلقاً هو: لماذا لم تحاول تلك الدول الكبرى الضغط على بلغراد وقيادة صرب
البوسنة السياسية في باليه حتى يمكن إجلاء سكان منطقة سربرينتشا وجيب (جيبا)
المُسْلِمَين الموضُوعَين تحت الحماية الأممية، والأخطر من كل هذا: لماذا تم
السكوت على تلك المجازر الرهيبة التي ذهب ضحيتها آلاف من مسلمي البوسنة؟
.. هذا هو ما في الاتفاق.. وتلك هي القواعد التي بني عليها. أما المستقبل
فهو إفراز لهذا الماضي الكريه.. دعونا نستشهد بنوبل مالكوم مرة أخرى حيث
يقول: ونحن نتطلع إلى رجالات دولنا وهم يرتشفون أنخابهم في جلسة التوقيع على
المعاهدة في باريس يتعين علينا أن نسأل: أهذه هي الحصيلة التي يريدونها حقاً؟
والجواب الصحيح عن ذلك هو: أجل.
وبقي هذا الهدف السياسي الرئيس، وكانت المشكلة في كيفية تحقيقه مع
المحافظة على الالتزام العلني بصيانة وحدة الدولة البوسنية.
وجاء الحل في اتفاق دايتون: إطار يضمن من الناحية النظرية المحافظة على
البوسنة، ولكنه يؤدي خطوة خطوة، من الناحية العملية إلى تفكيكها. إنها دولة
جرى تصميمها لكي تدمر نفسها، في تقسيم بالحركة البطيئة، وهو أقصى ما
توصلت إليه النظرية التفكيكية في علم السياسة.
نعم ... إن البوسنة مقبلة على (حفلة دم مريعة طالما أن السادة في عواصم
رعاية التطهير العرقي ماضون في خطتهم الشريرة، وطالما أن المسلمين مشتغلون
في إزالة أثار همجية المجاهدين! وطالما إعلامهم يلاحق الجمعيات الخيرية ورجال
العطاء القلائل الذين يرفضون أن تتحول البوسنة ومسلموها إلى (خنازير) تذبح من
الوريد إلى الوريد.
وحسبنا الله ونعم الوكيل،،