مقال
نظرات
في قضية ترجمة معاني القرآن الكريم
بقلم: د. فهد بن محمد المالك
بعد أن استعرضنا في الحلقات الثلاث الماضية من هذه السلسلة التي أسأل الله
العظيم أن أكون قد قدمت فيها للقارئ العزيز معلومات مفيدة قضية ترجمة معاني
القرآن الكريم وما يدور حولها من توجيهات وقواعد، وبعد أن ذكرنا أن جميع
الترجمات وبدون استثناء تحتاج للمزيد من الدراسة والبحث لما تحويه تلكم
الترجمات من أخطاء، ولما يكتنفها من قصور وخلل، لعلنا في هذه
الحلقة الأخيرة نسلط الضوء على نماذج من بعض الأخطاء التي وقع فيها أولئك
المترجمون، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النماذج من الأخطاء هي غيض من
فيض مما هو موجود في الترجمات المتداولة، ولو أردنا الإسهاب في سردها لطال
بنا المقام ولَكَلّ منا البنان.
ونظراً لطول الموضوع وتشعبه، فقد آثرت أن أقتصر على سرد نماذج من
الأخطاء العَقَدِيّة والأخطاء الفنية دون التوسع فيها، وهدفي من ذلك: حفز همم
المسلمين عموماً، والمهتمين بكتاب الله (عز وجل) خصوصاً إلى مزيد من بذل
الجهد في مواجهة هذا الطوفان الذي أصاب أغلى وأثمن كتاب على وجه الأرض،
وهدفي الآخر هو تبصير أهل الإسلام بخطورة الأمر، وأنه جدير بالعناية والتركيز.
أولا: نماذج من الأخطاء العقدية:
إن فكر المترجم وعقيدته ومنحى حياته لهو من الأمور التي سبق أن أشرت
إلى أن لها تأثيراً كبير اعلى الترجمة وعلى أسلوبها، وكما قيل: (كل إناء بما فيه
ينضح) .
ولعل الأمثلة الآتية تبين صدق ذلك:
المثال الأول:
تعتبر ترجمة محمد أسد (رحمه الله) التي أعطيت فكرة مبسطة عنها في الحلقة
الماضية من الترجمات القوية من الناحية اللغوية ومن الناحية الفنية، ومحمد أسد
معروف لدى الكثير من القراء من خلال كتابه الشهير (الطريق إلى مكة) ، إلا أنه
(رحمه الله) حَكّم عقله كثيراً في ترجمته على حساب النص الصريح؛ مما أدى به
إلى الوقوع في شطحات كبيرة، خالف بها مذهب أهل السنة والجماعة، ومن هذه
الشطحات:
أ - أنه يَشكّ في حقيقة: أن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) قد وقع في النار
حقيقة عندما قذفه فيها النمرود، وأنه (عليه الصلاة والسلام) قد بقي حياً وهو في
النار، ويرى محمد أسد أن ذلك لا يقبله العقل بتاتاً، فيقول في تعليقه على الآية:
[قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ] [الأنبياء: 69]
Nowhere does the Qura'n state that صلى الله عليه وسلمbraham was actually, bodily thrown into the Fire and miracoulously kept alive in
it [1] .
وترجمة ذلك:
(لم يرد في أي موضع من القرآن أن إبراهيم) عليه الصلاة والسلام (قد
قُذِفَ في النار بجسمه حقيقة، وأنه (عليه الصلاة والسلام) بقي حياً فيها بمعجزة
إلهية) .
بل إن محمد أسد تجاوز ذلك إلى القول: إن هذه القصة والواقعة أي قصة
قذف النمرود لإبراهيم (عليه الصلاة والسلام) في النار من المعتقدات التلمودية التي
يجب تجاهلها.
ب - يَشُكّ محمد أسد (رحمه الله) مصداقية أن عيسى عليه الصلاة والسلام قد
تكلم في المهد، ويرى أن تكلم الطفل وهو في المهد من الأمور التي لا يقبلها العقل
البشري، يقول في تعليقه على الآية:
[فَأَشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِياً (29) قَالَ إنِّي عَبْدُ
اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِياً] [مريم: 29، 30] .
Since it is not conceivable that anyone could be granted divine revelation and made a prophet before attaining to full maturity of intellect and experience, … However, the whole of this passage (verses 30- 33) may also be understood as having been uttered by Jesus at a much time aftar he had reached maturity and been actually entrusted with his prophetic mission [2] .
وترجمة ما قاله هي:
(بما أنه لا يمكن تصور نزول الوحي على شخص وتكليفه بالنبوة قبل
بلوغه الكامل مرحلة الرشد والإدراك ... ؛ لذلك فإن هذا المقطع من
الآيات (30 33) من الممكن فهمه على أنه كان حديثاً وكلاماً من عيسى (عليه الصلاة والسلام) في وقت متأخر من حياته بعد بلوغه وتكليفه الفعلي بمهمة النبوة) .
ج - ينكر محمد أسد (رحمه الله) مبدأ النسخ في كتاب الله (عز وجل) ، ويرى
أن هذا المبدأ مرفوض نهائياً في حق كتاب الله سبحانه، وأننا لو قلنا بذلك، فإننا
نعطي كتاب الله الكريم صبغة بشرية.
انظر إلى ما قاله عند تعليقه على الآية: [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاًتِ
بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... ] [البقرة: 106]
بل إنه ذهب إلى القول بأننا لو ربطنا الآية بالتي قبلها لاتضح لنا أن الشيء
المقصود بالنسخ: هو ما قالته اليهود والنصارى في حق كتبهم المقدسة، وأن معنى
هذه الآية لا يعني القرآن بذاته [3] .
المثال الثاني:
من الشطحات التي شطح بها عبد الله يوسف علي (رحمه الله (تعليقه على
الخضر حيث قال في تعليقه على الآية:
[فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا ... ] [الكهف: 65] .
He is a mysterious being [4]
وترجمة ذلك (أنه أي الخِضْر: شخصية غامضة) وقد بدا واضحاً في التعليق
شدة تأثر عبد الله يوسف علي بالأدب الإنجليزي فقد شبه الخضر بشخصية
أسطورية موجودة في الأدب والتاريخ اليوناني تعرف باسم Melchizedeck.
أما لقمان فقد شبهه عبد الله يوسف علي في تعليقه بشخصية يونانية تعرف باسم
صلى الله عليه وسلمesop [5] .
أما محمد أسد (رحمه الله (فله رأي أشد خطراً من ذلك: حيث يرى أن
الشخصيات المذكورة في القرآن كالخضر، ولقمان، وذي القرنين هي شخصيات
أسطورية خرافية، وليست واقعية حقيقية؛ فهو يصفهم بأنهم (Figures Mythical) [6] وهذه تعني (شخصيات أسطورية) .
المثال الثالث:
في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة ذكرنا أن محمد ظفر خان صاحب فكر
ومعتقد قادياني؛ لذلك يتوقع منه ومن أمثاله أن يحاولوا نشر فكرهم، وبث معتقدهم
داخل ترجماتهم، وكما هو معلوم لدى القارئ العزيز أن من أصول الفكر القادياني:
الاعتقاد بأن غلام أحمد مرزا هو آخر الأنبياء بعد نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم-؛ لذلك فقد حاول محمد ظفر خان التلاعب بالآيات في ترجمته حتى تخدم
فكرته القاديانية، وكمثال على ذلك فقد ترجم الآيات:
[هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (?) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (?) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]
[الجمعة: 2-4] .
He it is Who has raised among the unlettered people, and will raise among others from tem who have not yet joined them, a Messenger from among themselves who recites unto them His sings, and purifies tem [7]
وهنا يتضح أن محمد ظفر خان قد دمج الآيتين 3، 4 معاً بطريقة خبيثة حتى
تخدم فكره ومعتقده، وترجمته لهذه الآيات يمكن أن تترجم إلى العربية كما يلي:
(هو الذي بعث في الأميين، وسيبعث في آخرين لما يلحقوا بهم رسولاً من
أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويطهرهم....)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العطف في [وآخرين منهم] يعود على الأميين
كما قال ذلك الزمخشري: [ (وآخرين] مجرور عُطِفَ على الأميين، يعني: أنه
بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد،
وسيلحقون بهم؛ وهم الذين بعد الصحابة (رضي الله عنهم) [8] . وقال مجاهد
وغيره: [وآخرين منهم ... ] هم الأعاجم وكل من صدق النبي -صلى الله عليه
وسلم- من غير العرب، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه (قال: كنا جلوس عند
النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه [وآخرين منهم ... ] قالوا: من هم
يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي فوضع النبي -
صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان، ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله
رجال أو رجل من هؤلاء) رواه مسلم والترمذي والنسائي [9] .
ومن هنا يتضح خطأ محمد ظفر خان الذي عطف (وآخرين) على (بعث) .
المثال الرابع:
تعتبر ترجمة الإنجليزي آربري من الترجمات الجيدة نوعاً ما، إلا أنها لم
تخل كذلك من سموم في داخلها لتضليل الناس عن طريق الصواب. انظر إليه وهو
يترجم الآية:
[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ] [الأعراف: 157] .
Those who follow the Messenger, the prophet of the common folk [10]
وهذه الترجمة من آربري يمكن ترجمتها بالعربية إلى: (الذين يتبعون الرسول
نبي العوام (العامة [.
وفي هذه الترجمة ما فيها من تحريف وتغيير للمعنى الأساس في الآية. وفيها
ما فيها من تلاعب بالألفاظ والكلمات، وإلا فإن الفرق كبير بين (النبي الأمي)
و (نبي العوام (العامة] .
كما أن داود قد سلك مسلكاً مشابهاً في التحريف والتغيير لما فعله آربري
فيترجم داود الآية:
[والفتنة أشد من القتل] [البقرة: 191] . إلى:
[11] Idolatery is worse than carnage ...
وهذه الترجمة تعني: (الوثنية أسوأ من المذبحة) .
ثانياً: نماذج من الأخطاء الفنية:
المقصود بالأخطاء الفنية هي تلك الأخطاء التي خرج بها المترجم عن قواعد
وأصول فَن الترجمة، وأطلق لنفسه العنان أن يتصرف كيفما شاء دون مراعاة
لضوابط وقواعد علم الترجمة. والأمثلة الآتية هي نقطة من بحر تلك الأخطاء
الفنية التي ملأت صفحات الترجمات:
(?) أخطأ محمد ظفر خان كثيراً في ترجمته للآيات التي فيها قسم من الله
(عز وجل) ، فهو يستخدم الصيغتين التاليتين للدلالة على القسم:
We cite in evidence….
We call to witness …. [12]
وهاتان الصيغتان تبعدان كل البعد عن الدلالة على معنى القسم.
(?) من المسلمات الأساسية في فن الترجمة: أن المترجم الناجح عليه أن
يسير على وتيرة واحدة في ترجمته، فإذا ترجم الكلمة في موضع ما إلى مرادف لها
في اللغة المقابلة، عليه أن يستخدم المرادف نفسه إذا جاءت الكلمة نفسها في موضع
آخر. إلا أن أغلب المترجمين لم يراعوا ذلك في ترجماتهم، والأمثلة الآتية دليل
على ذلك:
أ - هناك ست سور في القرآن الكريم تبدأ بـ[آلم] وقد ترجمها عبد الله
يوسف علي إلى صلى الله عليه وسلم. L. M (مع تحفظي الشديد على هذه الطريقة في ترجمة
المقطعات) إلا أنه لم يسلك نفس المسلك في بقية المقطعات وفواتح السور: فتجده
يترجم بعض المقطعات خلافاً لطريقته الأولى كالتالي:
المص:.صلى الله عليه وسلمlif , Lam, Mim, Sad.
حم:. Ha, Mim.
كهيعص:. Kaf , Ha , ya, صلى الله عليه وسلمin, Sad.
ب - الآية: [.. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبْا ... ] .
تكررت في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم (سورة الأنعام 52، وسورة
الأعراف 37، وسورة هود 18) ، ومع ذلك فقد ترجمها عبد الله يوسف علي إلى
ثلاث صيغ مختلفة هي:
Who can be more wicked than one inventeth a lie against God.
Who is more unjust than inventeth a lie against God.
Who doth more wrong than inventeth a lie against God.
ج - كذلك وقع آربري في الخطأ نفسه؛ وذلك بعدم استخدامه لمرادف واحد
للكلمة نفسها، ففي المثال التالي يترجم آربري كلمة (آية) إلى معنيين مختلفين.
ففي قوله تعالى:
[.. يتلوا عليكم آياتنا ... ] [البقرة: 151] .
يترجمها آربري إلى:
To recite Our signs to you … [13] .
ويترجم آربري الآية:
[وإذا بدلنا آية مكان آية..] [النحل: 101] .
صلى الله عليه وسلمnd when we exchange averse in the place of
another verse [14] .
وهنا على الرغم من أن كلمة (آية) و (آيات) لهما المعنى نفسه، إلا أن
المترجم ترجمهما إلى معنيين مختلفين.
(?) أخطأ آربري في تسميته لسورتي (المؤمنون) و (غافر) فقد أعطى لكلا
السورتين الاسم نفسه بصيغة المفرد The رضي الله عنهeliever (سورة غافر يسميها
بعض العلماء سورة المؤمن) . وترجمة آربري بهذه الطريقة تسبب خلطاً وإشكالاً
لدى القارئ لمثل هذه الترجمة.
كما أن آربري وقع في خطأ كبير؛ وذلك بتسميته سورة الروم في ترجمته
باسم The Greeks. وهذه التسمية تعني الإغريق أو اليونانيين، وهذا خطأ
تاريخي فادح فضلاً عن تشويه المراد وتحريف المقصود بكلام رب العالمين؛ وليت
الأمر اقتصر على خطأ التسمية فقط، بل إن آربري ارتكب الخطأ نفسه في ثنايا
السورة فهو يترجم الآية:
[غُلِبَتِ الرُّومُ] [الروم: 2] . إلى:
The Greeks have benn vanquished. [15]
(?) من أصول الترجمة ألا يضيف المترجم من عنده شيئاً لم يكن موجوداً
في الأصل، إلا أن داود في ترجمته لم يتقيد بذلك إطلاقاً، فهو كما ذكرنا في الحلقة
الثالثة يطلق لنفسه العنان في إضافة وحذف ما يشاء، كما في ترجمته للآية:
[قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِياً]
[مريم: 10] .
your sign is that of. Three days and three nights, He replied you shall be bereft of speech [16] .
وهنا أضاف داود كلمة (ثلاثة أيام) وهي لم تكن موجودة في الأصل.
ختاماً: -أود التنبه لعدة أمور:
1- من الأخطاء التي يقع فيها كثير من الإخوة عندما يلقي خطاباً أو محاضرة
أو خطبة بلغة غير العربية، ويريد ذلك المتحدث الاستشهاد بشيء من القرآن الكريم، تجده يقول: إن الله (سبحانه وتعالى) قال في كتابه العزيز، ثم يقرأ الترجمة التي
عنده، ومكمن الخطأ هو أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين،
لذا فإنه بإمكان المتحدث في مثل هذه الحالة أن يشير إلى أن الذي بين يديه هو
ترجمة لمعنى ما قاله الله (سبحانه) ، وليس هو نص ما قاله.
2- عندما يطلب أحد منك أيها القارئ العزيز ترجمة لمعاني القرآن الكريم
عليك أن تحرص على اختيار أفضل الترجمات وسؤال أهل الاختصاص عن ذلك؛ وذلك حتى لاتوقع من طلب منك في متاهة وضلال، وتكون أنت السبب في ذلك.
3- ضرورة التنبيه على ما في الترجمات من انحرافات وشطحات والتحذير
من ذلك. وإيضاح الصواب والحق للناس أجمعين.
والآن لعلك أيها القاريء العزيز أدركت مدى أهمية هذا الموضوع وهذه
القضية ولعلك أدركت أنه لابد من تضافر الجهود وتآزر الهمم؛ وذلك للوقوف أمام
هذا الطوفان الجارف الذي يمس أنفس كتاب عرفته الخليقة. ولعلك كذلك أدركت
مدى الحاجة إلى إنشاء هيئة إسلامية عالمية تتولى شؤون ترجمة معاني القرآن
الكريم إلى لغات العالم.