أدب وتاريخ
عدنان بن سالم الفهد
.. قال الفتى الشامي: وقفت متقطع الفؤاد.. مقروح الكبد.. من هول
الفاجعة! ! بالأمس كانت أمي.. واليوم أبي.. رحمة بي يا أرحم الراحمين.. إني
لأذكر ذلك الأمس حينما قفل في وجهي باب من أبواب الجنة بموت أمي.. وبكيت
ذلك اليوم وبكى كل نبض في قلبي حتى تقطعت أطنابه حرقة ومرارة.. وكلما
تذكرت قصة إياس القاضي - عندما ماتت أمه فبكى وأجاب عندما سأله السائل ما
أبكاك؟ ! قال: (كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما) فتزداد حرقتي
ويزداد نحيبي.. وها هو الباب الثاني قد أقفل اليوم.. من يواسيني؟ ؟ .. ومن
يدعو لي بالرضا؟ ؟ .. رحمة الله عليك يا أمي.. كم قد تحملت من عذاب وألم،
وكم كنت لا أعرف لك فضلاً! ! .. رحمة الله عليك يا أبي.. وحمداً لك يا رب أن
لم تجعل أبواب رحمتك تقفل في وجهي، أما قال رسولك في صلة الوالدين بعد
موتهما ... وإكرام صديقهما، ومنه ما ورد عن ابن عمر: (إن أبر البر صلة الولد
أهل ود أبيه) ..
أعاهدك يا رب أن أصل صديقهما، وأبرهما بأهل ودهما بعد موتهما..
وإني أتوب إليك توبة نصوحًا عن ما مضى من عصياني وعقوقي.. ولكن..
للتوبة شرط إرجاع الحق.! ! أبي.. أمي.. ولكن يا رب.. يا للهول! ! ..
ياللفجيعة! ! .. أحقاً أني في حقيقة؟ ؟ كيف أعتذر؟ ؟ .. كيف أرجع الحق
وصاحبا الحق قد مضيا؟ ! ! كيف أقابلهما؟ ؟ .. كيف أرجع الحق.؟ . كيف
يقبل قولي؟ .. ولات حين مندم! ! . أبي.. أمي..
قال الفتى الشامي: فتخيلت لفرط حزني أن أبي قد تبسم وهو يقول لي:
يا أسعد: إني أعلمك كلمات في المروءة.. قلت: نعم يا أبي، كأنك تسمعني
وأنت في عالمك الآخر.. قال: لا يا بني.. بل أعيد عليك كلمات تعرفها قد علمتك
إياها في صغرك.. أو أحسبك قرأتها في تلك الأكداس من الكتب التي كنت تقرأ لي
منها بعد أن هداك الله والتزمت بالإسلام - أو كما زعمت لي -.. يا بني.. (إن
للسان مروءة فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر
.. وللخلق مروءته، فمروءته سعته وبسطه للحبيب والبغيض) .. بني أما مروءة
النفس هي حملها قسراً وقهراً على ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين ليصير
لها ملكة في جهره وعلانيته) .
- قال الفتى الشامي. نعم يا أبي. نعم، ولكن ثق أني على عهدك وسأحمل
نفسي على المروءة الحقة في لساني وجناني..
- قال الفتى: قالت أمي مقاطعة. دعك من هذا يا أبا أسعد فوالله ما رأيت
منه تلك المروءة التي تحدثه عنها، فما كان للسانه حلاوة ولا لين، وما كان في
خلقه سعة ولا بسطة، وما حمل نفسه قسراً وما أجبرها قهراً. قال الفتى: حسبك
ياأماه.. حسبك.
- قال الفتى. فصرخت صرخة قطعت كبدي ومزقت أضلعي.. ونحبت
وبكيت.. وأمي تكمل: مروءتك يا بني أين كانت عندما كنا في الحياة الدنيا؟ ؟
- قال الفتى: وأين أنت يا أماه الآن؟ ؟ ألست معي.. إني أعتذر إليك مما
بدر مني.
- قالت: دعك من هذا يا بني كفاك يا أسعد [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ] ? [وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]- قال الفتى: فشهقت.. فوقعت ولكن تمالكت نفسي ونهضت قائماً.. رحماك ربي.. أرجوك يا أمي لا تكملي.. إني قد تبت الآن.. و.. سوف تصفحين عني.. لا لن أعود لمثل ذلك.
- قال أبي: وما ذلك يا أم أسعد؟ !
- قالت أمي: أما تذكر يا أبا أسعد كم رفع في وجهي صوتاً منتصراً لزوجته
أو محتجاً على تدليلي لابنته.. أما سمع وهو الملتزم بالإسلام ذلك الحديث عن أبي
الدرداء، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال أبو
الدرداء: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول. «الوالد أوسط أبواب
الجنة» .. فإن شئت فضيع هذا الباب أو احفظه.. والله يا أبا أسعد ما أمرته
بطلاق وإنما كانت بعض الأمور المنزلية البسيطة.. ووالله لو أرجعت إلى الدنيا
لسامحته.. ولكن قد مضى قول ربي أن لا أعود..
- قال الفتى: نعم يا أمي إني أعلم ذلك.. ولكن لِمَ لَمْ تغفري لي وأنا في
الدنيا؟ ؟ ..
قال الفتى: إني أعلم لم ذلك! ! .. لأني ما اعتذرت ليغفر لي أو أسامح
ولكني أخذت زوجتي إلى غرفة أخرى متسلياً بها.
- قد أضعت الباب (باب الجنة) يا أسعد..
- لا. لا يا أبي ما أضعته..
- قال الفتى. قال أبي: أضعته يا أسعد.. أما أغضبتك في ذلك اليوم..
فنظرت إلي شزراً، وأنت تعلم في ذلك اليوم أن ابن أبي حاتم قد نقل عن عروة في
قوله تعالى: [واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ] ، قال عروة: إن أغضباك
فلا تنظر إليهما شزراً..
وجهي، أما قال رسولك في صلة الوالدين بعد موتهما ... وإكرام صديقهما،
ومنه ما ورد عن ابن عمر: (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) ..
أعاهدك يا رب أن أصل صديقهما، وأبرهما بأهل ودهما بعد موتهما.
وإني أتوب إليك توبة نصوحاً عن ما مضى من عصياني وعقوقي.. ولكن..
للتوبة شرط إرجاع الحق..! ! أبي.. أمي.. ولكن يا رب.. يا للهول! ! .. يا
للفجيعة! ! .. أحقاً؟ ني في حقيقة؟ ؟ كيف أعتذر؟ ؟ .. كيف أرجع الحق
وصاحبا الحق قد مضيا؟ ! ! كيف أقابلهما؟ ؟ .. كيف أرجع الحق.. كيف يقبل
قولي.. ولات حين مندم! ! .. أبي..؟ مي..
قال الفتى الشامي: فتخيلت لفرط حزني أن أبي قد تبسم وهو يقول لي:
يا أسعد: إني أعلمك كلمات في المروءة.. قلت: نعم يا أبي، كأنك تسمعني
وأنت في عالمك الآخر.. قال: لا يا بني.. بل أعيد عليك كلمات تعرفها قد
علمتك إياها في صغرك.. أو أحسبك قرأتها في تلك الأكداس من الكتب التي
كنت تقرأ؟ ي منها بعد أن هداك الله والتزمت بالإسلام - أو كما زعمت لي -.. يا
بني.. (إن للسان مروءة فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر.. وللخلق مروءته، فمروءته سعته وبسطه للحبيب والبغيض) .
بني (أما مروءة النفس هي حملها قسراً وقهراً على ما يجمل ويزين، وترك
ما يدنس ويشين ليصير لها ملكة في جهره وعلانيته) .
- قال الفتى الشامي. نعم يا أبي. نعم، ولكن ثق أني على عهدك وسأحمل
نفسي على المروءة الحقة في لساني وجناني..
- قال الفتى: قالت أمي مقاطعة. دعك من هذا يا أبا أسعد فوالله ما رأيت
منه تلك المروءة التي تحدثه عنها، فما كان للسانه حلاوة ولا لين، وما كان في
خلقه سعة ولا بسطة، وما حمل نفسه قسراً وما أجبرها قهراً.. (قال الفتى: حسبك
يا أماه.. حسبك..) .
- قال الفتى: فصرخت صرخة قطعت كبدي ومزقت أضلعي.. ونحبت
وبكيت.. وأمي تكمل: مروءتك يا بني أين كانت عندما كنا في الحياة الدنيا؟ ؟ .
- قال الفتى: وأين أنت يا أماه الآن؟ ؟ ألست معي.. إني أعتذر إليك مما
بدر مني.
- قالت: دعك من هذا يا بني كفاك يا أسعد: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ (7) ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ] [وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ...
- قال الفتى: فشهقت.. فوقعت ولكن تمالكت نفسي ونهضت قائماً..؟
حماك ربي.. أرجوك يا أمي لا تكملي.. إني قد تبت الآن.. و.. سوف تصفحين
عني.. لا لن أعود لمثل ذلك.
- قال أبي: وما ذلك يا أم أسعد؟ !
- قالت أمي: أما تذكر يا أبا أسعد كم رفع في وجهي صوتاً منتصراً لزوجته
أو محتجاً على تدليلى لابنته.. أما سمع وهو الملتزم بالإسلام ذلك الحديث عن أبي
الدرداء، أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال أبو
الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول. (الوالد أوسط أبواب
الجنة) .. فإن شئت فضيع هذا الباب أو احفظه.. والله يا أبا أسعد ما أمرته بطلاق
وإنما كانت بعض الأمور المنزلية البسيطة.. ووالله لو أرجعت إلى الدنيا لسامحته
.. ولكن قد مضى قول ربي أن لا أعود..
- قال الفتى: نعم يا أمي إني أعلم ذلك.. ولكن لم لم تغفري لي وأنا في
الدنيا..
قال الفتى: إني أعلم لم ذلك! ! .. لأني ما اعتذرت ليغفر لي أو أسامح
ولكني أخذت زوجتي إلى غرفة أخرى متسلياً بها.
- قد أضعت الباب (باب الجنة) يا أسعد..
- لا. لا يا أبي ما أضعته..
- قال الفتى. قال أبى: أضعته يا أسعد.. أما أغضبتك في ذلك اليوم..
فنظرت إلى شزراً، وأنت تعلم في ذلك اليوم أن ابن أبي حاتم قد نقل عن عروة في
قوله تعالى [واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ] قال عروة: إن أغضباك فلا
تنظر إليهما شزراً..
- قال الفتى: قلت: يا أبي.. ولكنك ظلمتني.. فقال لي أبي: وإن.. وإن
يا أسعد.. أما نقل لك البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس أنه قال: «ما من
مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسباً إلا فتح الله له بابين - يعني من الجنة -
وإن كان واحد فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضي عنه،
قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. وربك يقول [وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] ثم.. أي ظلم هذا؟ ! ! .. هل أمرتك بشر؟ ؟ لا والله.. إن هي إلا أمور دنيا..
ولتكن أموراً كنت تتعبد الله فيها ... ثق تماماً.. أنك أضعت الباب يا أسعد..
- قال الفتى: فصرخت.. وما عساني أن أفعل وقد ماتا..؟ ! نعم.. لا
عذر ولا قبول.. وربي بالمرصاد.. ويلي! ! ..
- قال الفتى: وسرت راجعاً بعد دفن أبي ومعي من الجموع الكثير.. وكنت
والله مرعوباً متفتت الأحشاء كسيفاً مطرقاً.. ما زال في فكري ذلك اليوم.. وتلك
الأيام التي كنت أرد على أمي أصواتاً أو أحتج على أبي مغاضباً وكإني سيد الدنيا..
وفي تلك الأيام التي ما أرضى أن ترفع أمي طرفاً لزوجتي أو يحتج أبي على
تصرف لي مهما كان صغيراً.. في تلك الأيام كنت أعلم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] .. وما أعي معنى لذلك
إلا اليوم.. وكم أبكيتها.. ولكني كنت أقرأ قول ابن عمر: بكاء الوالدين من
العقوق والكبائر.. وأقرأ قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
ثلاثاً قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان
متكئاً: ألا وقول الزور، وما زال يكررها حتى قلت ليته سكت) - قال الفتى:
وكم أبكيتك يا أمي.. وكم.. ويا ليتنى قد اعتذرت، ما منعني إلا النسيان أو
الغضب، و.. لست أدري.. ولكني سأستغفر ربي ما عشت وأتذكر الأثر دائماً:
لا تقطع من كان يصل أباك فيطفأ بذلك نورك) .. - قال الفتى: وخطرت لي أمي..
بني أسعد.. إذا ألمت بك مصيبة فكيف تفعل؟ ؟
- قلت: سأستغفر ربي.. قالت: أما لو كنت حية لهانت عليك. قال الفتى:
قلت كيف ذاك يا أماه؟ ؟ قالت: روي عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني
خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه فغرت عليها،
فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال له: (هل أمك حية؟) ، قال: لا، قال: تب إلى
الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت، فذهب.. يقول الراوي: فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة..
- قال الفتى الشامي: قلت: يا أماه والله لست أدري هل أضعت الجنة حقاً أم
ماذا..؟ ولكني حسبي بإني قد بررت ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ولا يكلف الله
نفساً إلا وسعها..
- قال: قالت أمي: دونك وما رغبت فيه من زهد في الجنة، وهل ظننت
أن سلعة الله تكون حسب الهوى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
» رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم
يدخل الجنة «.. دعك من هذا، أما أحرقت قلبي وأنا حية؟ .. أما أبكيتني طاعة
لشهواتك أو لنزعاتك أو لزوجتك أو لأمزجتك الخاصة في مواعيد إعداد الطعام أو
استقبال ضيف.. بني.. اسمع بني وأخبر من وراءك من الناس.. قال الفتى:
قلت هاتي يا أم.
- قالت: بني إن الطاعة التي يريدها الله ليست الطاعة التي على هواك متى
غضبت نفرت.. ومتى رضيت وأنست استرضيت.. فالأم لهجها الدائم) قد
رضيت عليك يا بني) . وما تظنها قائلة وقد فطر الله قلبها على حب الابن.. أما
ترى كم من أصدقائك من هجر وفجر فإذا رجع إلى أمه تبسمت وكأن لم يكن قد
حدث منه شيء.. وأنى لها أن تعتب على فلذة كبدها.. ولكن.. هل يرضي هذا
الله؟ .. ثم إن كان ذلك فما معنى قوله تعالى: [وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا
تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُل رَّبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] .. وهذا قضاء وحكم وجوب من رب العزة على عدم
التأفف وهو الأصغر.. وما علمت الأم تبالي بالتأفف ولكنه طاعة لله، وتأدب معه،
وقد قرن ذلك بالإخلاص له وعدم الشرك.. ومرة أخرى قرن فقال: [واعْبُدُوا اللَّهَ
ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً] .. إذا كان لك رغبات في الحب والكره،
وذبذبات في الرأي فمتى كان لك أن تقيس الرضا بمعيارك وتظن أنه رضى للوالدين
فقد هلكت يا أسعد.. أما رأيت كيف يستذل الطائر وينكسر إذا خفض جناحه للنزول
فكذلك اخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. وهذا ما فهمه ذلك السلف الصالح.. أما
سمعت عن ذلك الرجل الذي حمل أمه على عنقه حاجاً وكان يرتجز وهو يطوف
ويقول:
إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم التفت إلى ابن عمر وقال له: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: لا ولا
بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل الكثير.
- قال الفتى: وأكملت أمي قائلة: إيه يا بني.. كم كنت أتمنى أن أراك
شاكراً لي قلباً وقالباً، وكم كنت لا أراك إلا مرات قلائل ربما يمر اليوم واليومان
ولا أراك.. وقد شغلت بمعافسة زوجتك وأولادك.. وأحن أن تتمثل الطاعة الحقة
التي عرفها أبو هريرة رضي الله عنه عندما كان في بيت غير بيت أمه، فإذا أراد
أن يخرج مر ببيت أمه ووقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله
وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله
كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.. ثم إذا أراد أن يدخل
بيته صنع مثله ... بربك يا بني هل كنت تستطيع أن تتخلف عن زوجتك يوماً أو
يومين.. لا..
- قال الفتى: قلت: ولكن يا أماه كانت سليطة اللسان لا تتركني.. أما أنت
فطيبة القلب..
- قال الشامي: قالت: هو ذاك.. إنها سلعة الله.. ولكني لا أعلم ما يفعل
بي غداً حتى أصفح عنك أولاً.. فذلك اليوم الذي سنتقابل فيه هو اليوم الذي يفر فيه
المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.. لكل منا شأن يغنيه.. وهو يوم لا
أعرف فيه إلا نفسى! ! ..
- قال الشامي. فتأملت ما خطر لي وبكيت وأنا أقول:
فضيعتها لما أنست جهالة ... وطال عليَّ الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقل ويتبع الهوى ... وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
ولكن هيهات.. ولات حين مندم ...
- قال الفتى:.. أما بعد.. فإني لا أعلم هل يقدر لي الله من الأعمال
الصالحات ما يؤهلني للتوفيق في الحياة والاستغفار عن ذنبي، أم تراه يصيبني
بتفريطي في حقهما يوم كانا.. وكم رأيت من عبر ودولة الأيام على الناس.. فالله
منتقم ... والله بالمرصاد..
.. فيا غافل.. وما زال والدك معك.. وما زالت أمك معك.. أما لك في
قصتي معتبر؟ ! ! اسمع يا أخا الإسلام، والله إني أخشى عليك وعلى أهلك
وأولادك الهلاك.. كن على حذر.. وتأمل معنى آية التأفف.. [فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ] وحسبي بها.. فرفع طرف الأم نحو السماء مصيب:
إذاالتفتت نحو السماء بطرفها ... كن حذراً من أن يصب قلبك السهم
وفي آية التأفيف للمرء مقنع ... ولكنه ما كل عبد له فهم
ودونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير
وطاعتها وبرها قولاً وعملاً، لا قول لطيف.. وعمل هباء.. فالكلمات لا
تغني ولا تشبع من جوع. أما تعرف من هم أصحاب الأعراف؟ .. جاء في بعض
التفاسير عنهم أنهم أقوام قتلوا في سبيل الله ولكنهم خرجوا بدون إذن آبائهم فكانوا
من أصحاب الأعراف.. ومن قال لك يا مسكين أنك ستموت شهيداً؟ وقد خرجت
بطراً لمشاغل الدنيا.
- قال الفتى الشامي: يا أخا الإسلام.. لا تظن كما ظننت سابقاً أن طاعة
الآباء والأمهات حسب رغبتك وهواك، وإنما هي حسب ما يرغبان هما.. وإلا
لهان الأمر! !
- قال الفتى: كنت أظن أن أبي سيئ الطباع.. وأمي شرسة نمامة، ولكني
أتأمل اليوم وأقول: إن ذلك الرجل الذي قد خلقه الله منبوذاً أو مكروهاً بين الناس
طوال حياته المديدة فكان يتألم ويحتقر.. قد ضمن له الله ألا يظلم.. ووعده بتاج
يناله حقاً وهو إذعان أولاده له إذا ما كبر..
- قال الشامي:.. فبأي حق يا شامي قد انتزعت هذا الحق من أبيك؟ .. إنه
والله الهوى وحب النفس.. ويلك يا شامي يوم تعرض الموازين القسط.
يا أخا الإسلام.. يا من رغبت بزوجتك وفرحت بها متجاهلاً أمك.. ويا من
رغبت بمالك وعيالك وأصدقائك عن أبيك.. تأمل معي كيف تكون الطاعة..
أما تذكر قصة الثلاثة الذين كانوا في الغار.. نعم.. قال الأول: اللهم كان لي أبوان
شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فَناء بي طلب الشجر يوماً فلم
أرح عليهما حتى ناما.. فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما
فلبثت والقدح على يدي أنظر استيقاظهما.. حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا
غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه
الصخرة.. تأمل أخي بأي شيء توسل إلى ربه.. بالطاعة الحقة.. ومن يفعل هذا
اليوم فعله؟ ! فكم ترى زوجات مترفات منعمات.. وأنى للأم المسكينة من أن تغبق
أولاً، وكم من أبناء قد أترفوا بنعيم وأنى للأب أن يغبق قبلهم ...
أخا الإسلام.. لا تظنني أريد تفريطاً في حق الزوجة أو الأطفال ولكن أعطِ
كل ذي حق حقه.. وإياك وما أنا فيه.. واغتنم حياتهما، ورغم أنف امرء أدرك
أبويه أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة.. وما هي إلا مرارات وآلام أجترها يوشك
أن تنسينيها الأيام ولكن من لي بمحوها من اللوح المحفوظ.. يوم تجد كل نفس ما
عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً
ويحذركم الله نفسه ...
.. ثم إنك توشك أن تقول لي: ولكن لست كأفعالك فاعل فما قدمت على أبي
زوجة، وما رفعت على أمي صوتاً.. وأنا أقول لك: صدقاً قلت ولكن.. أما وإن
أوشكت أن تصر على سلامة سيرتك معهما.. فشد الوثاق ولا تمن.. فذلك هو
رباط قد هداك الرحمن لحراسته وحفظه فدونك وتوثيقه ... ويا سعتادتك.