مجله البيان (صفحة 2117)

في دائرة الضوء

الفكر طبيعته وأهميته

بقلم: د. عبد الكريم بكار

كلمة (الفكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جداً على ألسنة

العامةوالخاصة اليوم؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف الفكر بأنه:

(إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول) .

ويقولون: فكّر في مشكلة: أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها [1] .

ولعلنا نعرف التفكير بأنه (إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول

الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف العلاقات والنسب

بين الأشياء) [2] .

ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئاً مطابقاً للأحكام والمبادئ،

ولا مطابقاً للثقافة أو العقل أو العلم، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول

إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة

وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل.

وبناء على هذا فإن العالم غير المفكر، فقد يكون المرء عالماً ولايكون مفكراً. وقد يكون مفكراً ولايكون عالماً، وذلك لأن الميدان الأساس للعلم هو الإلمام

بالجزئيات؛ أما ميدان الفكر فهو إبصار (الكليات) والاشتغال عليها؛ وقليل أولئك

الذين يسمح لهم الاشتغال بالجزئيات بالتوجه إلى النظر الكلي، كما أن طبيعة

الاشتغال بالقضايا الكبرى (تزهد) المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئية، حيث

يرون أنها مندرجة في أنظمة أشمل تتحكم فيها.

ومع افتراق الطبيعتين إلا أن هناك خطوطاً عريضة تجمع بينهما أهمها:

أن كلاً من المعطيات الفكرية العامة والجزئيات العلمية الصغيرة يميل إلى

الظن والتخمين والبعد عن اليقين؛ وذلك بسبب أن الجزئيات هي مناط الاجتهاد،

ونتائج الاجتهاد تكون في الغالب ظنية، كما أن وفرة العناصر والمعطيات التي

تساعد في تكوين الرؤى الكلية تجعلها بعيدة أيضاً عن الصلابة والجزم؛ لكن

(الإحالات الثقافية) والخبرات المتراكمة تنقلها إلى حيز اليقين أو الرفض أو التعديل

بعد مدة زمنية معينة.

لكن هذا لايهوّن أبداً من شأن المعطيات الفكرية؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية

أنه (لاشيء يضيع) ؛ فالفكرة مهما كانت، تترك انطباعا معيناً سلبياً أو ايجابياً؛ فقد

تشكك في مسلمة من المُسلّمات، وقد تعزز ظناً من الظنون، وقد تنبه إلى شيء

منسي، وقد تنقذ أمة من كارثة محققة! !

وكثيراً ما يحدث أن تأتي الفكرة قبل أوانها أو في غير محيطها؛ فلا تحدث

اضطراباً في الواقع العملي، وهي أيضاً لا تضيع لأنها ستشكل الخميرة التي سوف

تنبت يوماً ما أفكاراً أو حلولاً حين تجد المناخ المناسب [3] .

وهناك إلى جانب هذا سمة أخرى أساسية للأفكار، وهي أن الأفكار التي

نستخدمها في حركتنا الاجتماعية تكون في العادة ملائمة للظروف والأحوال المحيطة

بها، ومهمة الأفكار إحداث تغيير ناجح في تلك الظروف نحو الأفضل والأسمى،

وهذا التغيير الذي يحدث يوجب علينا تغيير الأفكار التي نحجت كما تغير الأفكار

التي أخفقت، وذلك لأن تغيير الأفكار للظروف يوجدها في ظروف جديدة غير

ملائمة لها، وهذا مشاهد في الأعمال الإصلاحية الكثيرة التي حدثت في العالم؛

فحين تطرح أفكار وأساليب لتحقيق النظافة العامة مثلاً فإن تلك الأفكار تفقد وظيفتها

وأهميتها حين تصبح النظافة عادة للناس، ويصبح الحث عليها غير ذي معنى،

وحين تبلور أفكار في ضرورة إرسال الأولاد إلى التعليم الجامعي، ثم تنجح تلك في

تحقيق مقصدها يصبح الحديث عن تلك الضرورة غير مفهوم وهكذا.. وهذا يعني

أن كثيراً من الأفكار تنتهي صلاحيته ليس في حالة إخفاقه فقط وإنما في حالة نجاحه

أيضا.. وهذا مغاير بالطبع لحقيقة المبادئ والقيم العليا التي تتأبى على التحقق

الكامل، ويظل بينها وبين التمثل الواقعي هوة دائمة مما يصونه من الاستنفاد،

ويجعل الحاجة إليها مستمرة، ويكمن مقتل النهضة الفكرية في كثير من الأحيان في

التشبت بأفكار حققت غايتها، وفقدت وظيفتها، والزهادة في مبادئ توجب طبيعتها

الخاصة وجوب المحافظة عليها؛ لأنها تمثل محور الحياة الفكرية التي لاقوام لها

بدونه.

أهمية الفكر:

صدّ تأكيد كثير من مفكري المسلمين على أهمية الفكر كثيراً من الشيوخ

والشباب عن الاهتمام بمناهج الفكر وقضاياه ظناً منهم أن ذلك الاهتمام سيكون على

حساب العمل والتربيةوالأخلاق والسلوك.. وسبب هذا الظن أننا حين نتبني توجهاً

معيناً في الإصلاح نلح عليه إلحاحاً يوهم الأخرين بأننا لانرى سواه.، وأننا نهمل

ماعداه؛ ومن ثم فإنني أبادر إلى القول: إن استقامة الفكر ونقاءه ليس بديلاً عن

التربية ولا الأخلاق ولا أعمال الخير ولا الحركة الدعوية، ولكنه الشرط الأساس

لصوابها ورشدها، فمهمة الفكر رسم مخطط الحركة وجعلها اقتصادية، بحيث

تتكافأ نتائجها مع الجهد والوقت المبذول فيها، كما أنه يحيّد كل الوسائل والأساليب

التي ثبت قصورها ويكثف الخبرات والتجارب المكتسبة في بعض المقولات

والمحكات النهائية، ويساعد على طرح البدائل والخيارات في كل حقل من حقول

العمل، وهذا كله لايتأتى عن غير طريق الفكر. ويمكننا إلى جانب هذا أن نستجلي

مسوغات أخرى للاهتمام بالفكر في المفردات التالية:

1- إن الحضارة الغربية ذات منظومات متكاملة في المجالات الثقافية

والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولها تصورها الخاص في جميع شؤون الحياة، وهي (الآخر) بالنسبة لنا، وملاحظاتنا على أنساقها المختلفة ستظل محدودة

الأهمية مالم نبلور البديل الأصلح والأنفع والأكمل في تلك المجالات كافة من

منظورنا الخاص لنا [4] ، ولاسيما أنه الأجهر صوتاً والأكثر عتاداً وعدة، وإذا كنا

نملك قوة الحق فإنهم يمتلكون حق القوة، ويطالبون بدفع استحقاقاتها.

وبإمكاننا أن نكون محنة وتحدياً حقيقياً لهم في حالة واحدة، هي أن نستطيع

تقديم رؤيتنا الكونية بشكل واضح، وأن نطرح بعض الحلول الجذرية المتميزة

لبعض الاختناقات الحضارية التي يعاني منها بنو البشر اليوم، وهذا لايتم إلا من

خلال فيض من الخطط والدراسات والنماذج المتقنة؛ وهذا كله سبيله الرؤية الفكرية

الناضحة والشاملة.

2- من الممكن لكل الأنشطة الحضارية أن تمضي في سبيلها إلى حد معين؛

فالاقتصاد في أسرة، والنشاط الزراعي في حقل، ومساعدة ضعيف في مجتمع،

كل ذلك من الأنشطة التي يتيسر القيام بها دون الحاجة إلى عناء التفكير، لكن

عندما يصل الأمر إلي تنشيط اقتصاد دولة أو التخطيط لمجتمع كبير أو حل أزمات

حركة أو جماعة في ظروف حاسمة، فإن التفكير المركز والمعقد يكون هو الآلية

التي ينبغي استخدامها.

وإني أعتقد أن معاناة الأمة من بعض المشكلات لمدد تصل إلى قرون كانت

بسبب إهمالها للفكر والنقد والمتابعة والمراجعة باعتبارها مبادئ أساسية في التغيير

والإصلاح والارتقاء.

إن من المؤسف حقاً أن بعض الإسلاميين ينعت الحديث عن الفكر بالحديث

البارد؛ حتى إذا طرحت مشكلة وطلبت حلاً لها لم تجد إلا الوجوم أو الهروب! !

3- إن العالم الإسلامي لايعاني من نقص في الإمكانات ولا الوسائل، فما هو

متوفر لديه إن لم يكن أكثر مما عند كثيرين لم يكن أقل، لكن مشكلته تكمن في أن

فاعلية وسائله ونجاعتها مرتكزة على الأساليب والطرق التي تستخدم تلك الوسائل؛

والأساليب تظل محدودة الكفاءة مالم تستند إلى قاعدة فكرية صحيحة، ترسم خطة

واضحة للعلاج والاستطباب من خلال تشخيص الداء وتعيين الأسلوب الأمثل

ومقدار التداخل الجراحي المطلوب إلى جانب تحديد أولويات العلاج وتكاليفه

وإفرازاته، وفي هذا المقام نجد أن الأراضي التي تكفي لإشباع قارة لاتشبع بلداً،

وأن وفي الطاقة البشرية الهائلة صارت عبئا بدل أن تكون ميزة تماماً كجيش ضخم

لم يلق التدريب، ولم يجد السلاح، ولا الخطة القتالية الناجعة فهو أكوام من الكتل

البشرية المستهدفة للعدو!

إن قليلا من الإمكانات والوسائل مع كثير من الفكر والتخطيط والفاعلية

التنظيمية والحركية أعود على الأمة بالخير والنفع من أكداس الأشياء الضائعة

والمهملة.

4- عصرنا هذا هو عصر الاكتشاف، وقد اكتشف الإنسان من الحتميات

والسنن مالم يكتشفه في أي زمن من الأزمنة، ولكنه إلى جانب ذلك اكتشف من

الفرص والخيارات الشيء الكثير، وإن كثيراً مما كان يفرض فرضا صار اليوم

موضع خيار، وإن وجود حتميات وضغوط وخيارات كثيرة يلزمنا باللجوء إلى

التفكير الفعال؛ حتى لانصل إلى طرق مسدودة، وحتى لا نضيّع فرصاً متاحة، إذ

إن كل فرصة بحاجة إلى قرار، وصاحب ذلك ضعفُ وضمورُ ماكان يستخدم في

الأصل بديلاً عن التفكير مثل العادات والتقاليد والمذاهب التي توفر في العادة

استخدام العقل [5] .

5- الاستقرار النسبي كان سيد الموقف في العصور الماضية، وبما أن

الأشياء لا تتغير كثيراً فإن التكرار كان البديل الصالح عن التفكير، كما أن قلة قليلة

من الصفوة كانت تملك اتخاذ القرارات، وكانت تقوم بالتفكير عن الباقين، وكان

صنع القرارات الشخصية ميسوراً ومحدوداً لكن المجتمع اليوم لاينعم بالاستقرار

بسبب معدل التغيير الذي تغذيه (التكنولوجيا (والطموحات الاجتماعية [6] .

6- حينما تصاب أمة بدمار شديد أو زلزال ماحق فإنه يبقى لها بعد انهيار

بنيانها شيئان: مبادئها السامية الكامنة في شخصيتها الاجتماعية، وأفكارها

وخبراتها التاريخية والحضارية، وهي تستطيع من خلالهما استعادة كل ما فقدته

عندما تتوفر إرادة تجاوز المحنة، فقد دمرت الحرب كل شيء في ألمانيا، ولم يبق

لديها إلا مخزون الأفكار وعزيمة الانتصار، فتمكنت من إعادة بناء مصانعها على

ضوء الشموع بعد اندحار الهتلرية [7] وهكذا فإن أمة كأمتنا تستطيع بتوفيق الله أن

تنجز الكثير، وتستعيد الكثير إذا ما استطاعت صياغة أفكارها من جديد، وتلمس

سبل النجاة والفلاح.

وهكذا نستطيع القول بعد كل ما مضى: إن توسيع آفاق الفكر لدى المسلم

سوف يؤدي إلى توسيع مجاله الحيوي، ويقلل من ضرورات حركته [*] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015