المسلمون والعالم
الأساطير والحقائق وحمامات السونا!
بقلم: د. عبد الله عمر سلطان
ماذا بعد قرار الكونجرس الأمريكي القاضي بنقل سفارة بلاده من تلأبيب
إلى القدس؟ سؤال يتردد في صدر كل عربي ومسلم منكسر، يرى إرهاب النظام
العالمي الجديد، يقبض بكلتا يديه على قدسه الشريف وأقصاه السليب.
صدر القرار حينما كانت أمريكا تستضيف عشرات المسؤولين العرب، الذين
تقاطروا عليها بعد أن شهدوا احتفالات الأمم المتحدة، بمناسبة مرور خمسين عاماً
من الزور والغبن الدوليين. كان القرار رسالة موجهة إلى السائرين في ركاب الحل
الأمريكي/الإسرائيلي، وصفعة قوية لمقاولي السلام الشجاع، وجرعة أخرى من
المهانة إلى الذين وقعوا تلك الأرتال من الاتفاقات والوعود غير المقدسة.
كانت الصفعات تتوالى، والذل يتشكل في أكثر من قالب، والإهانة تتجلى
على مستويات القيادات اللاهثة والشعوب المصمّتة..
هل يمكن الربط بين حادث «شخصي جدّاً» وقرار خطر إلى أبعد حد
حصلا في يوم واحد؟ .. في يوم صدور القرار كان «الزعيم» عرفات يمضي
وقتاً طيباً في نيويورك التي فتحت أبوابها له بعد أن دفع الثمن من دم الضحايا
واتفاقات الذل وتسليم السيادة، كان سيادة الرئيس يحضر احتفالات منظمة «
البطرس» في نيويورك، وعرفات طالما صَوّرته وسائل الإعلام الأمريكية على
أنه زعيم إرهابي وثائر أقرب إلى الهمجية، أما اليوم فإنها تُبرز وجهه الإنساني،
وتتغنى بمآثره ولباقته التي قالت عنها صحيفة بريطانية: «إنها ربما تفتحت بعد
قِرانه بسيدة مسيحية متحضرة! !» .
عرفات أراد أن يثبت أنه متحضر بما فيه الكفاية، فقرر حضور حفلة
الاستقبال التي جرت في مركز (لنكولن) ، حيث ستُعْزَفُ مقطوعات موسيقية غربية
على شرف الحضور! لم يأل الزعيم جهداً في إظهار اهتمامه بموسيقى القوم، فقرر
أن يحضر رغم ازدحام جدول أعماله! لكنه كما نقلت وكالات الأنباء فوجئ حسب
قول دبلوماسيين أمريكيين بأحد مساعدي عمدة مدينة نيويورك (رودولف جولياني)
يربت على كتفه طالباً منه المغادرة، بالرغم من أن الزعيم لم «يتمتع» إلا بسماع
الحركتين الأولى والثانية لسمفونية بتهوفن التاسعة. هذا ماروته وكالات الأنباء.
لم تجدِ تصريحات الرئيس عرفات في جامعة هارفارد بكونه «شريكاً
للصهاينة» ، وأنه يحب اليهود وقد تربى في حي كل أطفاله من اليهود.
كانت صفعة الطرد الشخصية قد تكاملت مع محاولة الكونجرس الأمريكي
طرد «القدس» من ذاكرة ووجدان كل مسلم.. الفرق الوحيد: أن الإهانة لعرفات
دليل رخص هذه القيادة التي جرأت الصهاينة الأمريكان على الاعتراف بالقدس
عاصمة ليهود، ضاربين بعرض الحائط كل القوانين والمشاعر والأعراف!
لماذا هذا الإذلال؟
هناك ملاحظات مهمة يطرحها القرار الأمريكي الظالم أمام مرأى الأمة
الإسلامية، التي تعودت في هذه الفترة الحالكة أن تكتفي بالمزيد من الفواجع
والنكبات، فبعد اتفاق واشنطن ظهر للعيان أن هذا الاتفاق لايحقق (حتى باعتراف
مرتكبيه «أُولى المطالب الفلسطينية، لكن المزعج حقاً أن هؤلاء المستسلمين
لعدوهم المنفذين لمخططاته أصبحوا أقوياء على شعوبهم فقط، شجعاناً في تحطيم
بذرة المقاومة والتضيحة لا غير.. هنا أدركت الشعوب ما يعنيه مصطلح» سلام
الشجعان! «الذي طالما رددته قيادات العجز.. إنها شجاعة خنق الشعوب وتمرير
المشروع الصهيوني الفاجر على أجسادها..
ولم يكتف مقاولو سلام الشجعان باتفاقهم المخزي، بل طافوا بقاع الأرض
مزهوّين بفعلتهم تلك، مروجين لمصطلح الشرق أوسطية الصهيونية، مشيدين
بمناقب أولاد العم الأطهار! منددين بالإسلام وأهله! من الإرهابين الأشرار، نظر
المواطن المنكسر إلى هذه الحالة وقال: الغرب اكتشف فجأة براءة السلطة التي
طالما رماها بالهمجية والتخلف.. وكلما خنق هؤلاء الإرهابيون القدامى شعوبهم
ومارسوا همجيتهم تجاه أبناء الإسلام أصبحوا» متحضرين «و» عقلاء «،
وكلما أخرجوا من جيب شعبهم شبراً وموطئاً غدوا» شركاء مسؤولين «وأصحاب
نظرة صائبة وسلوك متحضر.
» ليت هؤلاء قد عاملوا عدوهم كما عامل زعماء الحركات الوطنية في العالم
عدوهم «، قالها طالب في جامعة غزة لمراسل محطة فضائية أوروبية ... الطالب
لم يقل ليتهم كانوا في شموخ عمر بن الخطاب أو بسالة صلاح الدين؛ لأن هؤلاء
هم القمم التي تحتفظ بها شعوبنا في ذاكرتها.. ومالم يقله الطالب قالته الكاتبة
الإنجليزية (هيلينا كوبان) مخاطبة عرفات قائلة:» الإسرائيليون وأصدقاؤهم
الأمريكيون شعروا بسعادة غامرة عندما رأوا ووصفوا بكثير من التفصيل مدى
التقارب الشخصي بين المفاوضين ونظرائهم الإسرائيلين خلال مفاوضات طابا،
عندما كانوا يروحون ويأتون سوية معاً، هل ياترى ستحاول التقرب من شعبك
بالشكل نفسه؟ أم أصبحت معزولاً عنه ... ربما من المناسب أن تطلب من أحد
مساعديك الأذكياء قراءة سيرة (لوكاس مانغولي) الذي عين رئيساً لحكومة «دولة»
بوتسوانا «المستقلة» في عام 1977م، هل تعرف بوتسوانا؟ لابد أنه كان مغرماً
مثل أصحابك بحمامات السونا، لكن كل تلك الحمامات إضافة إلى أجهزة القمع التي
وفرها له أصدقاؤه من الأقلية البيضاء الحاكمة في جنوب إفريقيا آنذاك لم تستطع
إنقاذه من تطلعات شعبه إلى العدالة.. عليك بعد ذلك أن تقرأ سيرة (نيلسون مانديلا)
و (هوشي منه) لترى مقدارالانضباط الذاتي الذي أبدياه في علاقاتهما على كل
الأصعدة مع عدوٍ أقوى منهما عسكرياً، سواء داخل قاعة المفاوضات أم خارجها،
وانظر كيف أنهما حرصا على إدامة علاقات قوية مع شعبيهما جواباً أفضل بل
وحيداً على عدم التوازن في القوة العسكرية، إذا كان لك ولفريقك التفاوضي العودة
إلى الشعب، وإذا كان للشعب أن يعود إلى تنظيم نفسه فإن هذا سيقوي موقفك في
المفاوضات مع إسرائيل أكثر مما يقويه الاستحمام مع الإسرائيليين ألف مرة! ! «.
ويبدو أن الزعيم المفتون بحمامات السونا، وسمفونيات بتهوفن، ورِقّة اليهود
لايحب سماع الكلمات الجارحة التي بدت بغيضة منذ أن وَجّهَتْ السلطة بُوصْلَتَهَا
نحو الكنيست والبيت الأبيض.
أساطير تتهاوى:
أصبح من نافلة القول: إن القوى الإسلامية في الشارع الفلسطيني أصبحت
هدفاً أولَ للاتفاقات والمفاوضات والصفقات العرفاتية/ الإسرائيلية، وطال هذا حتى
الجماعات العلمانية التي تقول: (لا) لمفاوضات وتنازلات» حمامات السونا «!
أصبح إدوارد سعيد الوجه العلماني /الليبرالي للمنظمة بدون مقدمات راديكالياً،
واكتشفت السلطات اليقظة: أن محمود درويش شاعر الماركسية الفلسطينية ورمزها
ليس أكثر من صوت للفتنة وهو كذلك وغَدَا كل من يشكك في خطوات الخنق
الإسرائيلي التدريجي حليفاً للإرهاب! .
بالرغم من كل هذا الضجيج، فهناك أساطير صنعها الإعلام الغربي تتهاوى
بفعل الخداع الإسرائيلي والدعم الأمريكي.
لايمكن لعرفات مهما دعمه حلفاؤه الجدد أن ينكر أن منظمته فتح قد أصبحت
جسداً بلا روح، بعد أن أصبح الزعيم هو المنظمة، وصارت اجتماعاتها معدة
(للبصم) على كل اتفاق تذبح فيه فلسطين، أو تقطع على أعتابه كرامتها أو
أشلاؤها ... آخر اجتماعات اللجنة التنفيذية في تونس، لم يكمل حتى النصاب المطلوب لتمرير اتفاق خطير مثل اتفاق طابا، وبالرغم من ذلك فقد مرت خطوات القيادة الفلسطينية الخارجة حتى عن أبسط القواعد الجماعية بسلام، فليس من مصلحة إسرائيل وجوقتها في الداخل والخارج أن يسلط الضوء على ممارسات عرفات الديكتاتورية في هذه المرحلة؛ طالما أن المطلوب من السلطة الوطنية يتم وفق» روح الشراكة «بين اليهود وعرفات.
كما لايمكن لعرفات والقوى المتواطئة معه أن ترفع شعارها الإرهابي التقليدي: أن الذي توصلت إليه مع حكومة رابين هو أفضل الممكن، وأنه ليس أمامها سوى
الاستسلام لابتزاز أمريكا وإسرائيل.. لقد رفض عرفات قبل أن يندمج في شراكته
السرية في أوسلو عرضاً مقدماً من حكومة إسحاق شامير في الجولة السابقة
لمفاوضات واشنطن لمنح الفلسطينيين ما مساحته 63% من أراضي الضفة، وتقاسم
30% من هذه الأراضي، وضم إسرائيل للباقي (7%) من المساحة، بينما قبل
عرفات في اتفاقه الأخير (سيء الذكر) أقل من ذلك بكثير حيث لاتسيطر السلطة
العرفاتية إلا على 27% من مساحة الضفة، إضافة إلى تنازل السلطة عن حقوق
المياه التي ستصل إلى 26% من مياه الضفة، والباقي يذهب للمستوطنات التي
تحتاج إلى كميات تعادل ثلاثين مرة ما يحتاجه مواطنو الضفة! ! ونلاحظ هنا: أن
رفض عرفات للعرض الشاميري كان حراماً من منطلق أنه يتم عبر وفد المفاوضات
برئاسة (حيدر عبد الشافي) ، بينما التخفيضات الهائلة التي أعطاها عرفات لرابين
الهالك وبيريز المتحفز، فهي حلال؛ لأنها تمت عبر المحتل الفلسطيني الذي يصفه
بعض الفلسطينين» التيس المستعار «الذي يَعْقِدُ على المرأة من أجل التحايل على
ضرورة زواجها ببعل جديد.. نعم شراكة حتى في أساليب اليهود وحيلهم (السبتية)
التي يحسبون أنهم بها أذكياء، وقد خابوا وخاب شريكهم! ولايمكن للزعيم وطغمته
وآلته الإعلامية الناطقة بالزور أن تخفي أن الضفة المحتلة قد أصبحت جزراً
ومحميات» هنود حمر «فعلاً؛ فقد قسمت المناطق إلى أ، ب، ج، وقامت
إسرائيل ببناء طرق التفافية حول هذه المناطق، ويتطلب التنقل بين هذه المحميات
العرفاتية إلى تصريح خاص من» السادة الصهاينة «، لاسيما وأن عرفات نفسه
حتى الآن لايستطيع أن يتنقل بين الأراضي المحررة إلا بعد الحصول على تصريح
إسرائيلي. ولابد أن نذكر هنا أن قائد الشرطة الفلسطينية في أريحا (الرجوب) قد
مُنع من الانتقال خارج أريحا خلال اشتراكه في المباحثات بالرغم من بلائه المشهود
في محاربة معارضي الاتفاق وتعذيبهم حتى الموت (كما حصل لمواطن فلسطنيي
الأصل حاصل على الجنسية الأمريكية» .. إن إسرائيل تحب أن تذكر عملاءها
الجدد أنهم تحت قدم جيش الدفاع وجنرالاته!
وأخيراً فإن من المؤكد أن الشعب الفلسطيني بعد هذا الاتفاق يمر بأسوأ مراحل
التشرذم والانشقاق فبعد أن كانت المنظمة تفاخر بكونها الممثل الشرعي والوحيد
للشعب الفلسطيني، نجد اليوم هذا الشعب وهو منقسم بفعل تحركات المنظمة العابثة
وتفريطها في حقه حتى تكرست القطيعة بين فلسطينيي الشتات والداخل، لاسيما
وأن الاتفاقات المتعددة لم تناقش موضوع أربعة ملايين فلسطيني خارج الضفة
والقطاع مما جعلهم فريسة لنزوات القيادات العربية مثل القذافي وتجلياته، أو
تصريحات الوزير اللبناني (نقولا فتوش) الذي وصفهم بأنهم «زبالات بشرية» ! ! هكذا! ! .
هل كان لأمثال العقيد المحدود العقل والمتناهي المفاجآت، أو هذا «الفتوش» المنتفش بحقده النصراني أن يسوم هذا الشعب المطحون مزيداً من العذاب لو كان
لديه قيادة تحترم نفسها أو تكنّ لشعبها شيئاً من الاحترام؟ .
ليس هناك من أسطورة تروج هذه الأيام سوى المقولة السمجة: إن هذا وضع
مؤقت، وإن الاتفاقات النهائية هي التي ستحل القضايا الرئيسة: كموضوع القدس
والمستوطنات، ومصير فلسطينيي الشتات.. إنها أسطورة أخرى، بل الأسطورة
الأخيرة في صندوق الأكاذيب والوعود المتلاشية التي ترفع أمام كل من يستغرب
من هذا الانحدار والاستسلام والركوع لعجل صهيون، لقد أشارت مجلة
(الإيكونمست) النافذة والواسعة الانتشار إلى أن فشل رابين أو على الأصح فشل
حزب العمل في الانتخابات المقبلة ووصول (ناتنياهو) للسلطة يهدد وضع الاتفاق
النهائي بجعل الاتفاق الحالي هو الحد الوحيد الملزم للطرفين، وهو احتمال كبير في
حالة فشل الطرفين في التوصل إلى حل نهائي عام 1999م، وهو أمر متوقع في
ظل نكث يهود بعهودها؛ مما يعني أن هذا الاتفاق الظالم سيكون اتفاقاً نهائياً.
وهنا يجب أن ندخل قرار الكونجرس في هذا الإطار.
إن اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل وضرورة نقل السفارة قبل تاريخ
مايو 1999م، يعني أن الاتفاق المؤقت يترجم عن طريق القوة الأمريكية والتنسيق
الصهيوني إلى واقع قائم على الأرض.. وتصريح الرئيس الأمريكي عَبْرَ ناطقه
وبعد يوم واحد جعل الموقف الأمريكي واضحاً كل الوضوح «إن الرئيس الذي عبر
عن رأيه في ضرورة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خلال حملة الرئاسة عام
1992م، لم يغير رأيه الشخصي في الموضوع وأن اعتراضه يكمن في توقيت
النقل» .
وهذا ما دفع منظمة النداء الصهيوني الموحد لإعطاء جائزتها السنوية لكلينتون
بعد يوم واحد من هذا التصريح.
هنا نكتفي بتصريح الرئيس الفلسطيني عرفات الذي أعرب عن استغرابه من
صدور قرار الكونجرس الأمريكي لتعارضه مع تعهدات كان قد حصل عليها بأن
هذا الموضوع سيبحث في المرحلة النهائية للمفاوضات.
إذا كان استغراب عرفات صحيحاً.. وإن كنا نشك في ذلك فإننا نستغرب نحن
مرتين؛ مرة لتصديقه أن هناك مرحلة نهائية تشكل آخر الأوراق التي تستر عورة
الاتفاق الشنيع، ومرة أخرى حين يصر هذا الزعيم على اختيار الخيارات الخاسرة
مرة تلو أخرى ... وها هو يختار أن يكون (لوكاس مانغولي) آخر!