دراسات شرعية
المنهج العلمي للاستدلال
بقلم:أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يعتمد المنهج العلمي للاستدلال عند أهل السنة والجماعة على كتاب الله
(تعالى) ، وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع السلف الصالح (رضي
الله عنهم) .
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا] [النساء: 59] .
وقال الله تعالى: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى:
10] .
وقال الله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7] .
والاعتماد على الأصول الثلاثة المعصومة هو أساس دين الإسلام، ويرتكز
على القواعد التالية:
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها.
القاعدة الثانية: الاعتماد على الأحاديث الصحيحة.
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص.
وفي هذه المقالة سأتحدث عن هذه القواعد الثلاث بشيء من الإيجاز، مبيناً
منهاج أهل السنة في الاستدلال، وفي الحلقة التالية سأتحدث عن منهج المبتدعة في
الاستدلال، وقواعدهم في التلقي.
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية:
إن أصل دين الإسلام الذي ارتضاه الله (تعالى) لعباده المؤمنين الاستسلام
والخضوع والانقياد، قال الله (تعالى) : [وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] [الزمر: 54] .
وحقيقة الاستسلام: تعظيم أمر الله (سبحانه وتعالى) ونهيه، والوقوف عند
حدود ما أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله (تعالى) : [ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج: 32] . فكل ما أمر به
الشارع أو نهى عنه، فحقه التعظيم والإجلال والامتثال، قال الله (تعالى) : [إنَّمَا
كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [النور: 51]
فإذا جاء الأمر من الله فلا مجال للاختيار أو التردد، قال الله (تعالى) : [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] . وقد نفى الله (عز وجل) الإيمان بالكلية عمّن أعرض عن حكم
النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرض به، أو وجد في نفسه حرجاً من ذلك، قال
الله (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد توعد الله سبحانه وتعالى المخالفين لأوامره بقوله: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابِ أليم] [النور: 63] .
منهج السلف الصالح في تعظيم النصوص:
سطر السلف الصالح (رضي الله عنهم) أروع الأمثلة وأصدق الصفات في
الالتزام بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه، والوقوف عند حدوده بدون
زيادة أونقصان، ومن أمثلة ذلك:
* عن أبي قتادة قال: كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بُشير
بن كعب فحدّثنا عمران يومئذ فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «
الحياءُ خير كله» أو قال: «الحياء كله خير» ، قال بشير: إنّا لنجد في بعض
الكتب أو الحكمة: أنّ منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفٌ! قال: فغضب عمران
حتى احمرتا عيناه، وقال أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وتعارض فيه؟ ! قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران. قال: فمازلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به! ! [1] يعني: أنه
ليس متهماً بالنفاق! ! .
* وعن عبد الله بن مُغَفّل (رضي الله عنه) : أنه رأى رجلاً من أصحابه
يخذف. فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكره أو
قال ينهى عن الخذف؛ فإنه لايُصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر
السن ويفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف! فقال له: أخبرك أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يكره أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف، لا أكلمك كذا
وكذا..! [2] .
* عن قبيصة الشامي: أن عبادة بن الصامت خرج مع رجل إلى أرض
الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسرة الذهب بالدنانير، وكسرة الفضة
بالدراهم، فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «لا تَبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثلٍ لا زيادة بينهما ولا نَظِرة» .
فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة! فقال عبادة: أحدثك
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحدّثني عن رأيك؟ ! لئن أخرجني الله لا
أُساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة، فلمّا قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر: ما أقدمك
يا أبا الوليد؟ ! فقص عليه القصة، فقال: ارجع إلى أرضك وبلدك لا إمرة له
عليك، فقبّح الله أرضاً لست فيها وأمثالك [3] .
* وحدّث أبو معاوية الضرير عند هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: «
احتج آدم وموسى» ، فقال أحد الحاضرين: كيف هذا، وبين آدم وموسى ما
بينهما؟ ! قال: فوثب هارون، وقال: يُحدّثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض بكيف؟ ! فما زال يقول حتى سكت عنه [4] .
* وقال رجلٌ للزهري: يا أبا بكر: حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «ليس منّا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا» ، وما أشبه
هذا الحديث؟ ! فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: «من الله (عز وجل)
العلم، وعلى الرسول-صلى الله عليه وسلم- البلاغ، وعلينا التسليم» [5] .
* من أجل ذلك كله كان السلف الصالح (رضي الله عنهم) في أشد التثبت
والتحري والتوقي في فعل السنة، فلا يفعلون شيئاً إلا بعلم صحيح، فها هو ذا
رجلٌ يعطس إلى جنب عبد الله بن عمر، فيقول: الحمد لله، والسلام على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له عبد الله بن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله
والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
علمنا أن نقول: الحمد لله على كلّ حال» [6] .
* ونظير هذا أن سعيد بن المسيب رأى رجلاً يُصلي بعد طلوع الفجر أكثر
من ركعتين، يُكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله
على الصلاة؟ ! فقال: «لا.. ولكن يُعذبك على خلاف السنة» [7] .
وأمثلة هذا الباب كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله لبيان المقصود.
وبهذا يتبيّن أن الكتاب والسنة هما أصل الاستدلال، وهما المعيار الذي توزن به
الآراء والاجتهادات، ولايستقيم إيمان المرء إلا بتعظيمهما وامتثال ما دلا عليه من
القول والفعل والاعتقاد، ويُلخّص الطحاوي منهج أهل السنة بقوله: «ولاتثبت قدم
الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم
يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح
الإيمان» [8] .
وقال البربهاريّ: «إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو
يريد غير الآثار: فاتهمه على الإسلام، ولاتشك أنّه صاحب هوى مبتدع» [9] .
وقال ابن تيمية: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم يعني أهل السنة
اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين
لهم بإحسان: أنه لايقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولاذوقه، ولامعقوله
ولاقياسه، ولاوَجْدِهِ، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات: أنّ
الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم» [10] .
وقال أيضاً: «فمن بنى الكلام في العلم (الأصول والفروع) على الكتاب
والسنة والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى
الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال
القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد وأصحابه
فقد أصاب طريقة النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى ... » [11] .
القاعدة الثانية: الاعتماد على السنة الصحيحة:
أمرالله (سبحانه وتعالى) بطاعة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في آيات
كثيرة، منها قوله (تعالى) : [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7] ، وقوله تعالى: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله] [النساء: 80] .
وثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إني أوتيتُ القرآن ومثله
معه» [12] ، فكل ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حق وصدق
لاريب فيه، قال الله (تعالى) : [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (?) إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] [النجم: 3، 4] .
وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الموضحة والمبينة لكتاب الله (عز
وجل) ، كما قال سبحانه وتعالى: [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ]
[النحل: 44] .
وقد ذمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقواماً يتركون ماجاء في سنته،
فقال: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكىء على أريكته، فيقول:
بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله» [13] .
ومن بدائع مواقف الصحابة (رضي الله عنهم) : أن عمران بن حصين كان
جالساً ومعه أصحابه، فقال رجلٌ من القوم: لاتحدثونا إلا بالقرآن، فقال له: ادْنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وُكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة
الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ ! أرأيت لو
وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف
بالصفا والمروة؟ ! ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إلاّ تفعلوا
لتضِلّنّ « [14] .
ولهذا قال ابن تيمية:» البيان التام هو ما بينه الرسول؛ فإنه أعلم الخلق
بالحق، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بيّنه من أسماء
الله وصفاته وعلوّه ورؤيته، هو الغاية في هذا الباب « [15] .
وقال أيضاً:» الثواب على ما جاء به الرسول، والنّصرة لمن نصره،
والسعادة لمن اتبعه، وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به، والمعلمين للناس
دينه، والحق يدور معه حيثما دار، وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له: أعلمهم بسنّته
وأتبعهم له، وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ، وإما دين مبدّل لم يُشرع
قط « [16] .
وبسبب هذه المنزلة العظيمة لسنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتمّ بها أهل
السنّة اهتماماً عظيماً، علماً وعملاً، وحرصوا على حفظها ونقلها، وقاموا بتحقيقها
وتنقيحها، وتمييز صدقها من كذبها، خاصة بعد ظهور الفتن وانتشار المبتدعة
وفشو الكذب. ولهذا قال عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) :» إنّا كنا مرة إذا
سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا
وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إلا ما
نعرف « [17] .
وقال التابعي الجليل محمد بن سيرين:» لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما
وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر
إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم « [18] .
وقال الإمام مالك بن أنس:» إن هذا العلم هو لحمك ودمك وعنه تسأل يوم
القيامة، فانظر عمّن تأخذه « [19] .
ويشرح ابن تيمية الداعي لتنقيح السنة النبوية فيقول:» وبيننا وبين
الرسولمئون من السنين، ونحن نعلم بالضرورة أنّ فيما ينقل الناس عنه وعن غيره
صدقاً وكذباً، وقد روي عنه أنّه قال: «سيُكذب عليّ» ، فإن كان هذا الحديث
صدقاً، فلابد أن يكذب عليه، وإن كان كذباً فقد كذب، وإن كان كذلك لم يجز لأحد
أن يحتج في مسألة فرعية بحديث حتى يُبيّن ما به يثبت « [20] .
وقد رسم أئمة الحديث منهجاً علمياً متميزاً في ضبط أصول الرواية وتقعيد
قواعدها، فحفظوها بفضل الله تعالى من العبث والتزييف، فهم المرجع الذي يُرجع
إليه في معرفة الصحيح من الضعيف، قال ابن تيمية:» المنقولات فيها كثير من
الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحوغير العرب، ونرجع إلى
علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير
ذلك، فلكل علم رجالٌ يعرفون به، والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء قدراً، وأعظمهم
صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً، وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وعلماً
وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان ... « [21] .
من أجل ذلك كله: يتبيّن أن الاستدلال العلمي الصحيح يعتمد على الأحاديث
الصحيحة والحسنة، وأمّا الأحاديث الموضوعة والضعيفة فلا يجوز الاستدلال بها،
ويجب الحذر منها. ولهذا قال ابن تيمية:» فالواجب أن يفرق بين الحديث
الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث
الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموماً ولمن يدعي
السنة خصوصاً « [22] .
وقال أيضاً:» الاستدلال بما لاتُعلم صحته لايجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا
علم، وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع « [23] .
وقال أيضاً:» ولايجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي
ليست صحيحة ولا حسنة « [24] .
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص:
إن صحة فهم النصوص الشرعية ركيزة رئيسة لصحة الاستدلال، ولايستطيع
المرء أن يعرف مراد الله (عز وجل) ، ومراد رسوله إلا حينما يستقيم فهمه لدلائل
الكتاب والسنة. وكثير من البدع والضلالات إنما حدثت بسبب قلة العلم وسوء الفهم.
أصول مهمة يعتمد عليها:
ومن الأصول العلمية التي يجب الاعتماد عليها في فهم النصوص الشرعية
ودراستها:
أولا: الاعتماد على منهج الصحابة (رضي الله عنهم) :
للصحابة (رضي الله عنهم) منزلة جليلة، فقد شرفهم الله (تعالى) ، وأعلى
منزلتهم، ورفع أقدارهم ودرجاتهم، وعدلهم من فوق سبع سموات، فقال (تعالى) :
[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] [التوبة: 100] . وقال (تعالى) : [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]
[الفتح: 29] .
قال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) :» من كان منكم متأسياً فليتأس
بأصحاب محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها
علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة
نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى
المستقيم « [25] .
وقال أبو محمد بن حزم:» فمن أخبرنا الله (عز وجل «أنه علم ما في
قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف عن أمرهم أو
الشك فيهم البتة» [26] .
من أجل هذا؛ فإن فهم دلائل الكتاب والسنة إنما يؤخذ من الصحابة (رضي
الله عنهم) ففيهم تكلم الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وعليهم نزل الكتاب، فهم
أعلم الناس بمراد الله (تعالى) ومراد رسوله-صلى الله عليه وسلم-، خاصة بعد أن
كثرت البدع، وقل العلم، وفسدت الفهوم،، وهجرت السنّة، وقد صح عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، قوله: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة» [27] .
قال ابن تيمية: «يحتاج المسلمون في العقيدة إلى شيئين: أحدهما: معرفة
ما أراد الله ورسوله بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي نزل بها،
وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك
الألفاظ؛ فإنّ الرسول لمّا خاطبهم بالكتاب والسنة عرّفهم ما أراد بتلك الألفاظ،
وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلّغوا تلك
المعاني إلى التابعين أعظم ممّا بلغوا حروفه..» [28] .
وقال الشاطبي: «.. ولهذا فإن السلف الصالح (من الصحابة والتابعين ومن
يليهم» كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه.. « [29] .
وقال ابن أبي العز الحنفي:» وكيف يتكلم في أصول الدين من لايتلقاه من
الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟ ! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله
لايتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولاينظر فيها، ولا فيما قاله
الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون
القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لايسلك سبيلهم فإنما يتكلم
برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن
أصاب « [30] .
ثانياً: معرفة اللغة العربية:
لكي تفهم دلائل الكتاب والسنة على الوجه الصحيح لابد من معرفة لغة العرب
التي نزل بها القرآن الكريم، والتي خاطب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه. ولهذا تواتر اعتناء علماء الأمة وأئمتها بلغة القرآن حتى يوضع خطاب
الشارع في موضعه اللائق به شرعاً.
قال الإمام الشافعي:» .. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان
العرب دون غيره، لأنه لايعلم من إيضاح جمع علم الكتاب أحدٌ جِهل سعة لسان
العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي
دخلت على من جهل لسانها « [31] .
وقال ابن عبد البر:» ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون
على كتاب الله (عز وجل) : وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها، وسعة لغتها،
وأشعارها، ومجازها، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه، وسائر مذاهبها لمن قدر، فهو شيء لايُستغنى عنه، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يكتب إلى
الآفاق: أن يتعلموا السنّة والفرائض واللحن يعني النحو كما يتعلم القرآن « [32] .
وقال ابن تيمية:» ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف مايدل
على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي
خوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة
الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا
يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنه دال عليه، ولايكون الأمر
كذلك.. « [33] .
وقال الشاطبي:» المقصود هنا: أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة،
فطلب فهمه إنما يكون في هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: [إنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياً] [يوسف: 2] . وقال: [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ] [الشعراء: 195] .
وقال: [لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ] [النحل: 103] . إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان
العجم، فمن أراد فهمه، فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه
من غير هذه الجهة « [34] .