مجله البيان (صفحة 2081)

الورقة الأخيرة

وقفة محاسبة

بقلم:أحمد بن عبد الرحمن الصويان

قال الله (تعالى) : [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ

جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الزمر: 23] .

منزلة عظيمة من منازل المؤمنين: تسمو فيها النفس وتعلو على أهواء البشر، يقف الإنسان بين يدي ربه خالياً يتدبر آيات الله (عز وجل) بسكينة ووقار،

فتلامس الآيات قلبه، وترتجف جوانحه، فيطأطئ رأسه ذلا، ويعفر وجهه

بالأرض عبودية وإخباتاً، ويناجي ربه بتضرع يطلب منه العون والغفران..

فتنحدر الدموع من بين عينيه إنابة وخضوعاً.

يقرأ الآية من كتاب الله فتعمر قلبه، وتزكيّ نفسه، وتغير من طبيعته وسلوكه، وتدفعه إلى المزيد من الطاعات والإقبال على الله. قال الله (تعالى) : [إنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلَى

رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] [الأنفال: 2] .

تحيط به الشهوات من كل مكان، وتُجْلَبُ عليه الفتن بخيلها ورجلها.. ولكنها

تتساقط وتتناثر تحت قدميه، فينظر إليها باستعلاء وثبات، ويمضي لا يلتفت إليها، مرطباً لسانه بحمد الله والثناء عليه، فمناجاته لربه تكسبه القوة والعزيمة، وقلبه

أبيض كالصفا، لا تضره فتنة مادامت السموات والأرض.

قال رسول الله: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ذكر منهم:

ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من الدمع» [1] وقال: «عينان لا تمسهما

النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» [2] .

سبحان الله! ما أعلاها من منزلة.. وما أكرمها من صفة. حيث يتجلى عمق

الإيمان وصفاؤه في القلب.

إن رقة القلب وسكينته وإخباته لربه وتذلله بين يديه تعظيماً وإجلالاً، منزلة

سامقة من منازل المؤمنين، تتقاصر أمامها نفوس الضعفاء، وهم العجزة.

بهذه القلوب الحية الصادقة العامرة بنور العلم والإيمان انطلق الصحابة

(رضي الله عنهم) بتيجانهم الشمّاء، يدكون الحصون، مقبلين غير مدبرين،

يفتحون الآفاق، ويرفعون راية التوحيد، حتى تهاوت على أيديهم عروش كسرى

وقيصر.

فما أحوج الأمة إلى العالم الرباني الذي إذا سمع الآية تتلى بين يديه وجل قلبه، وفاضت عيناه بالدمع، ووقف عند حدودها وعض عليها بالنواجذ، ولم يتجاوزها

إلى غيرها لهوى في نفسه أو ضعف في ثباته..

ما أحوج الأمة إلى الداعية الذي يجتهد في التعليم والتبليغ والتربية، حتى إذا

جن عليه الليل وهدأت العيون، نشط لمناجاة ربه والوقوف بين يديه رافعاً أكف

الضراعة والإخبات، يسأل الله (تعالى) العون والتأييد بعين باكية ونشيج عذب..!

ما أحوجنا إلى الدموع المخلصة التي تترجم صدق الإيمان وثباته واستعلاءه

على أهواء البشر.. فإلى الله (تعالى) نشكو عجزنا وضعفنا وقسوة قلوبنا..!

قال رسول الله: «لو تعلمون ما أعلم: لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً» [3] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015