دراسات اقتصادية
وقفات متأنية مع
عمليات التمويل في البنوك الإسلامية
المشاركة المنتهية بالتمليك
د. محمد بن عبد الله الشباني
من الأساليب التي تتبعها بعض البنوك الإسلامية في تمويل الاحتياجات
الاستثمارية ما يعرف بالمشاركة المنتهية بالتمليك، ويطلق أحياناً على هذا النوع من
التمويل المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك، أو المشاركة التنازلية [1] .
والكيفية التي يتم بها هذا النوع من التمويل تقوم على أساس عقد مكتوب يتم
بمقتضاه تأسيس علاقة تعاقدية بين البنك كشريك ممول بجزء من المال والعميل
كشريك ممول بالجزء الآخر من المال، بجانب تقديمه الجهد والعمل اللازم لإدارة
النشاط الاقتصادي، بموجب هذا العقد يتناقص حق البنك كشريك بشكل تدريجي
يتناسب تناسباً طرديّاً مع ما يقوم العميل بسداده للبنك من قيمة التمويل المقدم،
وبالتالي: كلما قام العميل بشراء جزء من نصيب البنك في التحويل كلما تناقصت
نسبة البنك في المشاركة، وهكذا حتى يصبح نصيب البنك من المشاركة صفراً،
وتتحول ملكية المشاركة للعميل بالكامل في نهاية فتره المشاركة المنصوص عليها
في العقد.
تأخذ صيغة التعامل بهذا النوع من التحويل
عدة أشكال، أهمها ما يلي: [2]
الصيغة الأولى: يتم إحلال العميل محل البنك بعقد مستقل، وبعد إتمام عملية
التعاقد الخاص بعملية المشاركة الأصلية، وتعطي هذه الصيغة الحرية الكاملة لكلا
الطرفين في التصرف ببيع حصته من رأس مال الشراكة إلى الطرف الآخر أو إلى
غيره.
الصيغة الثانية: يتم بموجبها الاتفاق بين البنك وعميله المشارك على حصول
البنك على حصة نسبية من صافي الدخل أو العائد المتحقق فعلاً في إطار مبلغ يتفق
عليه، ليكون ذلك الجزء مخصصاً لسداد أصل ما قدمه البنك من تمويل، أي: إنه
يتم تقسيم الإيراد المتحقق إلى ثلاثة: الأول: حصة البنك كعائد للتمويل، والثاني:
حصة الشريك كعائد لعمله، والثالث: حصة البنك لسداد أصل مبلغ التمويل
المشارك في رأسمال المشاركة.
الصيغة الثالثة: يتم بموجبها الاتفاق بين البنك وعميله المشارك على تحديد
نصيب لكل منهما في شكل أسهم محدده القيمة يمثل مجموعها إجمالي قيمة المشروع
أو العملية موضوع المشاركة، ويحصل كل شريك على حصة من الإيراد المتحقق
فعلاً ما دامت الشراكة قائمة وتعمل، ويحق للعميل المشارك إذا ما رأى ذلك مناسباً، أو وفقاً لرغبته أن يشتري من البنك بعض الأسهم المملوكة للبنك في نهاية كل
فترة أو سنة مالية، بحيث تتناقص أسهم البنك بشكل تدريجي بمقدار ما يشتري
العميل المشارك من أسهم البنك، وتزداد حصة العميل المشارك إلى أن يمتلك
الأسهم كلها؛ فيصبح المشروع ملكه بالكامل.
الصورة التطبيقة لهذا النوع من التمويل تتمثل في قيام البنك بتمويل بناء
أرض مملوكة للعميل، أو شراء أصل، مثل سيارة، يتولى العميل العمل عليها،
على أن يأخذ البنك نسبة من الدخل الصافي، والباقي من صافي الدخل يتم تقسيمه
إلى ثلاثة أقسام: قسم للعميل مقابل إدارته وتشغيله للأصل، وقسم للبنك كعائد
لاستثماره، وقسم يتم خصمه من قيمة الأصل بحيث يتم تناقص قيمة تمويل الأصل
إلى أن تنتهي قيمة الأصل وتعود ملكيته إلى العميل.
طبيعة العلاقة ما بين البنك والعميل قائمة على أن البنك يتولى التمويل وينال
نسبة من العائد لقاء تمويله، ويقوم العميل بالسداد من الدخل الناتج عن هذه
المشاركة إلى أن يتم سداد كامل ما قام البنك بدفعه لتمويل هذه المشاركة مع ربح
يضاف إلى قيمة البيع، فمثلاً: لو أن البنك قام بشراء سيارة بقيمة عشرة آلاف
ريال، يقوم ببيعها في نهاية مدة ثلاث سنوات باثني عشر ألف ريال، يتم سدادها
من صافي الدخل بعد خصم نسبة من هذا الدخل للبنك، ونسبة لسائق السيارة
(المالك لها مستقبلاً) ، والباقي يمثل القسط السنوي، فلو فرض أن صافي دخل
السيارة ستة آلاف ريال واتفق أن للبنك 10% من صافي الدخل (أي: ستمئة ريال)
كعائد لاستثماره، والباقى (أي: خمسة آلاف وأربعمئة) يأخذ السائق (العميل) منها
ثلاثة آلاف لقاء قيامه على إدارتها وتشغيلها والباقي (مقداره: ألفان وأربعمئة) تمثل
القسط السنوي، وبعد اكتمال مبلغ عشرة آلاف ريال الممثل لقيمة السيارة تنتقل
ملكية السيارة إلى السائق (العميل) .
والصيغ الثلاث يمكن تطبيقها على الحالة المشار إليها، إما على أساس عقدين
منفصلين (عقد مشاركة بين البنك والعميل (السائق) وعقد بيع للسيارة بسعر اثني
عشر ألف ريال) على أن يتم سداد هذه القيمة من الإيراد، وإما يكون ضمن صيغة
عقد واحد يوجب عند الانتهاء من سداد التمويل انتقال الملكية في نهاية المدة المحددة
للمشاركة إلى العميل (السائق «، وإما أن يتم تحديد المشاركة بصيغة أسهم قيمتها
عشرة آلاف ريال يقوم العميل (السائق) بشراء عدد منها على أن يحق له شراء
أسهم البنك أو جزءٍ منها في نهاية كل سنة مالية بحيث تنتهي المشاركة بتمليك
العميل جميع نصيب البنك من الأسهم.
الشبهات التي تثار ضد هذا النوع من التمويل تأخذ جانبين:
الجانب الأول: أن المشاركة ليست الهدف من عملية التمويل؛ فالمشاركة ما
بين العميل والبنك ليست الغاية من عملية التمويل، وإنما الهدف هو توفير المال
للعميل، وهذا النوع من المشاركات يمارس من قبل بعض البنوك الإسلامية بقصد
توفير المال اللازم للمشروعات العقارية، حيث يحتاج صاحب العقار إلى تمويل
لإكمال مشروعه العقاري، فالقصد من عملية التمويل ليست المشاركة والحصول
على العائد من هذه المشاركة، وإنما القصد الحصول على عائد للمال الذي قام البنك
بتوفيره للعميل.
الجانب الثاني: أن هذا الأسلوب اشتمل على شبهة قرض جر نفعاً على
أساس شرط عقد في عقد؛ فهناك عقد مشاركة وعقد بيع، فهو في حقيقته قرض
يأخذ شكل المشاركة، فالمشاركة مربوطة بنسبة من الربح للبنك لقاء التمويل وحجز
جزء من نصيب العميل من هذا العائد لقاء سداد التمويل.
إن هذا النوع من التمويل يثير شبهتين: شبهة قرض جر نفعاً، وشبهة شرط
عقد في عقد، فهو عقد مشاركة وعقد بيع في آن واحد، وقد ذكر ابن قدامة في
(المغني) منع هذا النوع من التعامل، فقال ما نصه:» وإن شرط في القرض أن
يؤجر داره، أو يبيعه شيئاً، أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى.. لم يجز؛ لأن
النبي نهى عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقد في عقد، فلم يجز؛ كما لو باعه داره
بشرط أن يبيعه الآخر داره، وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على
أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو أن يهدي له هدية ويعمل له عملاً..
كان أبلغ في التحريم « [3] . فالبنك يشترط أخذ نسبة من الدخل كما أنه يقتطع
جزءاً من الدخل، حتى يستوفي ما قام بتمويله، فالغرض هو تمويل العقار أو شراء
السيارة أو أي أصل من الأصول التي تُدر دخلاً، فليس الغرض من عملية
المشاركة الحصول على عائد المشاركة بشكل مستمر، وعند الرغبة في إنهاء
المشاركة يتم البيع للعميل عند الرغبة، بحيث لا يقتصر البيع عليه فقط، وإنما
يكون البيع متاحاً للغير، ويتحمل البنك ما ينتج عن ذلك من خسارة أو ربح، أي:
إن البنك يدخل في الغنم والغرم.
وهذا هو ما يشار إليه في العقود، ولكن ما يتم في الواقع هو أن العميل هو
الذي يقوم بعملية الشراء.. وعليه: فإن العبرة في العقود بالمقاصد وليس بشكلياتها
أو صيغها، ولولا ضمان العميل بأن البيع سيتم له لما قبل هذه المشاركة، وعليه:
فهذا الأسلوب من التعامل يخفي خلفه الربا المبطن.
إن اشتراط أن يتم بيع نصيب البنك من المشاركة كجزء من عملية التعامل
سواء أتم البيع بعقدين منفصلين أو بعقد واحد أو بوعد بالبيع من قبل البنك ووعد
بالشراء من قبل العميل (طالب التمويل) ، فهذا الشرط باطل والبيع فاسد؛ والعلة
في فساد البيع: ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) :» نهى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عن بيعتين في بيعة « [4] ومارواه عبد الله بن عمرو عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال:» لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما
ليس عندك « [5] وقد حدد ابن قدامة مفهوم بيعتين في بيعة بقوله:» مثل أن يقول
بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو
على أن أُؤجرك، أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على
أن أزوجك ابنتي.. ونحو هذا، فهذا كله لايصح؛ قال ابن مسعود: «الصفقتان
في صفقة ربا» وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه
مالك « [6] وقد علل فساد هذا العقد بقوله:» إن النهي يقتضي الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط، فيفسد العقد؛ لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضا به، ولأنه شرط عقداً في عقد لم يصح، كنكاح الشغار « [7] .
ووجه المقارنة بين عقود المشاركة المنتهية بالتمليك بهذا النوع من البيوع
الفاسدة هو أن عقد الشراكة مرتبط بعقد البيع؛ فطالب التمويل لا يقبل بمشاركة
البنك إلا إذا التزم بأن يقوم البنك ببيع نصيبه من المشاركة خلال فترة زمنية محددة، ويقتطع هذا السداد من نصيب العميل من الدخل، كما أن البنك لا يقبل بالقيام
بالتمويل إلا إذا حصل على نسبة من الإيراد مقابل التمويل، وقد ضمن بيع
مشاركته للعميل في نهاية فترة سداد التمويل.
ومن أجل توضيح ما أوردوه أطرح المثال التالي لتقريب الصورة للقارئ:
فلو أن شخصاً يمتلك أرضاً ويرغب في بنائها من أجل الحصول على عائد من
تأجيرها، وتقدم للبنك بطلب التمويل على أن يتم سداد قيمة التمويل من الإيراد
المتوقع من تأجير العقار بعد البناء، على أن يكون للبنك لقاء التمويل 15% من
الإيراد، والباقي لصاحب الأرض، على أن يتم سداد التمويل من الإيراد، المتحقق
من هذا العقار، ويأخذ شكل التعامل صيغة المشاركة المنتهية بالتمليك، بحيث يتم
في نهاية فترة زمنية استرداد التمويل كاملاً وتؤول ملكية العقار إلى صاحب الأرض
(العميل) ، وهذا التمويل وإن أطلق عليه مشاركة أشبه بالقرض الذي جر نفعاً،
حيث يتحصل البنك على نسبة من الإيراد لقاء مشاركته في التمويل خلال فترة سداد
التمويل، بجانب ذلك: فإن اشتراط البنك استرداد تمويله من خلال اقتطاع ذلك من
الإيراد أدى إلى انتفاء مفهوم المشاركة حسب المفهوم الشرعى لعقود المشاركات.
والخروج من هذه الشبهة يتمثل في اتباع مفهوم الشراكة السليم: بأن تكون
عملية المشاركة بين البنك وطالب التمويل شراكة فِعْليّة، يتحقق فيها مفهوم
المشاركة في الغنم والغرم، ولا يكون البيع لأحد طرفي العقد شرطاً أو وعداً ملزماً
أوغير ملزم ضمن شروط توفير التمويل، بل إن الشراكة تقوم على نية العمل على
تحقيق العائد على ما تم استثماره من مال من قِبَل البنك، ومال وجهد من قبل طالب
التمويل.