في إشراقة آية
بقلم: د. عبد الكريم بكار
يقول الله (جل وعلا) : [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [البقرة: 269] .
وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز، وذهب المفسرون
إلى تفسير معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه، فتارة تُفسر
بالسنة، وتارة بالموعظة، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة، منها: النبوة، والفقه في القرآن، والمعرفة بدين الله، والفقه فيه، والاتباع له،
والخشية، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين، والفقه
في التأويل، والفهم الذي هو سجية، ونور من الله (تعالى) [2] .
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب. والذي يبدو لي: أن
الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين
معارف الحكيم والمواقف العملية له؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني: وضع الشيء
في موضعه؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة، وليس جزءاً منها، لكنهم
لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء.
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في
المفردات التالية:
1- إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي
خارجها؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في
هذا الكون، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة
المناسبة.
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل
نسبيّاً، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً؛ حيث إن مبادئ
الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء؛ ومن ثم: فإن موقفاً ما قد
يكون في نظر واحد منا حكيماً، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش
وخائب؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا
على نوع من توحيد الرؤية والفهم.
2- إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى
العناصر المكوّنة لها، وهي على ما يبدو لي ثلاثة: الذكاء، والمعرفة، والإرادة؛
فالذكاء اللماح، والمعرفة الواسعة، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً: (الحكمة) ، وعلى
مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها.
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة
من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل
استفادة صاحبها منها محدودة، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل، دون التمكن
من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها. والأهم من هذا وذاك: أن المعرفة دون ذكاء
تؤخر ولادة الموقف الحكيم، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف
البداهة.
ولا يكفي الذكاء اللمّاح، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم
يمتلك قوة الإرادة؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة،
وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق.
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي،
والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف
المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة، وعلى مستوى القدرة، وهو لا
يمنح القدرة، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية، ومن
خلال المراتبية الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره.
3- إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ،
ومن ثم: فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم، فقد يكون المرء قمة في تخصص من
التخصصات، لكنه لا يُعدّ حكيماً، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي
علم من العلوم.
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات
كثيرة، أما الحكيم: فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء
وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات
الماضي والحاضر والمستقبل.
العلم يمكننا من صنع الدواء، وصنع السلاح، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى
نداوي، ومتى نحارب.
العلماء كثر، والحكماء نادرون؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها،
والعمل الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى
الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة، ويخلصون منها إلى
محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من
المناهج، إنها معرفة تتأبى على التنظيم، فهي دائماً مرفرفة، على حين أن العلم
معرفة منظّمة، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة، وتنتهي إلى أن تكون فنّاً،
أي: إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب جاهزة، وتصبح
بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد، أي: أن تطعّم بالحكمة. ومن ثم: فإن
الحكمة تتأبى على الاستنفاذ، ولذا: فإنها الخير الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه
الله (تعالى) لمن شاء من عباده.
4- جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين
أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة،
فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية، بل مصادمة لها.
وفي العصر الحديث: لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية، وإنما اتباع لفلاسفة الغرب،
ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس: هدم عقيدة الألوهية وتدعيم
الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين ذوي النظر الكلي والرؤية العامة.
إن الناظر في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما
اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت تالية له، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما
هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته
الكبرى؛ إنه القيّم والمهيمن عليها، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها، ولكنه إمساك بها كي لا تفقد اتجاهها ومحورها؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته
لا يستطيع أن يعمل بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت
وصلابة اليقين.
وقد آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد
منها جميعاً: في تنسيق الواقع في ضوء المثال، وفي إدراك العلاقات الخطية
والجدلية التي تربط بين الأشياء، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات
العلوم، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً، والسعي إلى تكوين جيل جديد
من الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية، الذين يستخدمون
المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية الشاملة.
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد؛ إذ إن المعرفة البشرية
على وشك إكمال دورتها، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون
أقصر العصور الحضارية، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى: أسئلة الهوية، وعلل
الوجود، والمصير، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها، وحقوقها.. أي: إن
الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة، وبلغة شديدة
التعقيد، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر
القادم، ويحسنون الجواب عليها.
5- الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات (الحكمة) كما ذكرنا وهي
(الإكسير) الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس، إن
الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة، ويدمجها في نظم أشمل، فتبدو
منسجمة متناسقة، لكن الحكيم لا يبدو كذلك، فهو طراز فريد، ونموذج خاص،
يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق
الكامل، ومن ثم: فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على فضل الله
(تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم. وتلك المواقف تفوق الحصر والعد، لكن نذكر
بعضها من أجل التقريب:
أ- الحكمة نمو دائم، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل
مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة، مفهوم يكبر، وآخر يضمر، ونقط
تزداد تفصيلاً، وأخرى تزداد تركيزاً، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة،
وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم، وهذا التألق قد يفسّر
لدى الكثيرين على أنه تناقض واضطراب، على حين أنه نوع من الاستجابة
الناجحة للمرونة الذهنية العالية، والروافد الثقافية الثرية، والإرادة الحرة الصُلبة،
لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل.
ب- إيثار الآجل على العاجل، والدائم على الآني، وما يمليه ذلك من مواقف
والتزامات: أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه
الناس نحو هذه الفضيلة، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت جلّ الناس
عن الاستجابة [كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ] [القيامة: 20، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس، سببه: ضعف في الخبرة، أو
ضعف في الإرادة، أو فيهما معاً، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما.
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما
يتقاتلون عليه، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور، وهو في الوقت نفسه
يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب! ! .
ج- داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط، فهو لا يكفّ أبداً عن
عمليات المقارنة، والموازنة، والتحليل، والتركيب، والاستنتاج، والتشذيب،
والإضافة، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط، أما السطح فإنه هادئ تعلوه
السكينة والوقار.
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة، وإطلاق الأحكام، وسرعة تشكيل
المواقف، لكن الحكيم طراز آخر من الناس، فهو بطيء في تكوين معتقداته،
وصياغة مقولاته، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة
في بعضها بعضاً، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً، لكنها منها جميعاً!
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي
بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة، لكنها غير منظورة! .
د - من أهم تجليات الحكمة: إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح؛
فالحكيم يرى الأشياء الكبيرة كبيرة، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي،
وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على
مدار التاريخ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس
تافهة، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه! .
الحكيم: رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة، ويستشرف ما بعدها، وهو لا
يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى،
وتتقاطع، وتتصادم، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها، فيحذر قومه وينذرهم. كلنا
نرى القضايا بحجمها الحقيقي، لكن بعد فوات الأوان! ، وبعد أن نكتوي بنارها،
وتفوتنا فرصها الذهبية، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب، كما قال سفيان
الثوري: «إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم» ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه، أما أهل الاختصاص، الذين أذهبوا العمر في
تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم
العلمي، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية! .
هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة؛ والنزق والبَرَم
الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع
الأشياء ومنطق سيرورتها. أما الحكيم: فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث
وفواجعها، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم، ونبهتهم
إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب
الذي سيواجهونه. إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون مكافئة
في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا غارقة في
عالم الملذات والأوهام! .
ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض، ولا يشف عن
محاسنها قول كقول الله (تبارك وتعالى) : [وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] .