مجله البيان (صفحة 2045)

دراسات شرعية

أصول الفقه.. والمنطق الأرسطي

(?)

بقلم: عثمان محمد إدريس

في الحلقة الماضية: أوضح الكاتب مفهوم الأقيسة المنطقية المتعلقة بكيفية ...

تخريج الأحكام في أصول الفقه، وذكر أنها نوعان: قياس اقتراني حملي، وقياس

استثنائي متصل، ثم ذكر اختلاف العلماء في جواز استعمال هذه الأقيسة،

مستحضراً أدلة كل فريق، وبدأ في مناقشة أدلة كلّ منهم، فناقش أدلة الفريق

الأول.. وفي هذه الحلقة يواصل الكاتب مناقشته لجوانب أخرى..

- البيان -

ب- مناقشة أدلة القول الثاني:

1- مناقشة الدليل الأول:

يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنّ ترك الصحابة (رضي الله عنهم)

بالاشتغال بالمنطق، وعدم مراعاتهم إياه في القضايا الشرعية: لا لكونه محرماً،

وإنما لاستغنائهم عنه بما حباهم الله (تعالى) به من صفاء الذهن، وسلامة اللغة،

وكثرة العلم، وجودة القريحة، ومعايشتهم النبي.

الجواب عن هذه المناقشة:

يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بالقول: ما قولكم في فتاوى التابعين والأئمة

المجتهدين الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يعرفوا المنطق، ولم يشتغلوا به..؟

أصحيحة فتاواهم أم باطلة؟ .

وإذا أقروا بصحتها مع عدم اشتغال أصحابها بالمنطق، وهو الذي يسعهم دون

غيره، فإنهم يكونون قد سلّموا بصحة الأحكام المستنبطة من غير استعمال للمنطق

وأقيسته، فتبطل دعواهم.

2- مناقشة الدليل الثاني:

يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: إنّ الاستغناء بالأساليب العربية في ترتيب

مقدمات الحكم عن الأقيسة المنطقية، إنما يكون ممن يجيد اللغة العربية ويحسنها،

وأمثال هؤلاء قليلون في هذه العصور المتأخرة، وحتى لا يقع الكثير في الخطأ

والاضطراب: فإن عليهم الالتزام بهذه الأقيسة.

الجواب عن هذه المناقشة:

يمكن الإجابة عن هذه المناقشة بالقول: لقد سبق الرّدّ على هذه الشبهة، وهو

أنه يُشترط فيمن يقوم بعملية الاستنباط أن يكون ملمّاً بقدر كافٍ من علوم اللغة

العربية، بحيث يتمكن من النظر في الأدلة لاستنباط الأحكام منها تخريجاً على

القواعد الأصولية، ولا شك أن من توفر لديه هذا القدر من علوم اللغة العربية،

فإنه قادر على استعمال الأساليب العربية الصحيحة في ترتيب مقدمات الحكم

الشرعي.

3- مناقشة الدليل الثالث:

يمكن مناقشة هذا الدليل بالقول: لو سُلّم بفساد المنطق عامة، فإنه لا يُسلّم

بكون القسمان المذكوران منه وهما: القياس الاقتراني الحملي، والقياس الاستثنائي

المتصل فاسدين؛ وذلك لسببين:

السبب الأول:

أن من العلماء الذين نهوا عن الاشتغال بالمنطق عامة من أقرّ بصحة القسمين

المذكورين من القياس المنطقي، وبالتالي: صحة ما يترتب عليهما من نتائج

وأحكام، ومن ذلك:

1- قول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (.. فإن كون القياس المُؤلّف

من مقدّمتين مفيد النتيجة هو أمر صحيح في نفسه..) [1] .

2- قوله أيضاً: (.. كنتُ أحسبُ أن قضاياه صادقة لما رأيتُ من صدق

كثير منها! ثم تبيّن لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه، وكتبتُ في ذلك شيئاً) [2] .

3- قول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : (.. لأن المراد تقريب الطريق

الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في الشريعة،

وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير: ما كان بديهيّاً في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني

أو استثنائي) [3] .

السبب الثاني:

أن هذين القياسين إنما يرجعان في حقيقتهما إلى مبدأ (اللزوم) [4] في عملية

الاستدلال.

وقد أقر المانعون من استعمال هذه الأقيسة بأن مبدأ (اللزوم) من أهم المبادئ

التي ينبغي الأخذ بها في العملية الاستدلالية.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (الحقيقة المعتبرة في كل

برهان ودليل في العالم هي (اللزوم) ؛ فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدلّ

بالملزوم [5] على اللازم [6] .. كما يُعرف أن كل ما في الوجود فهو آية لله، فإنه

مفتقر إليه، محتاج إليه، لابد له منه، فيلزم من وجوده وجود الصانع) [7] .

ويقول أيضاً: (كلّ ما كان مستلزماً لغيره، بحيث يكون ملزوماً له، فإنه

يكون دليلا عليه، برهاناً له.. فأبداً الدليل ملزوم للمدلول عليه، والمدلول لازم

للدليل) [8] .

وعند تعريفه ل (القياس الاقتراني) قياس الشمول قال: (انتقال الذهن من

المُعيّن إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم

المشترك الكلي؛ بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول، وهو

المُعيّن) [9] .

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله) : (.. وإنما يعتريه ...

الخللُ [10] من جهة الناظر فيه، فيغلط، فيظن هذا الأمر لازماً لهذا مثلاً، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة) [11] .

الجواب عن هذه المناقشة:

يمكن الجواب عن هذه المناقشة بالقول: إن هذين السببين لا يصلحان دليلاً

على جواز استعمال هذه الأقيسة في المباحث الشرعية؛ لأنه لا يلزم من إقرار

هؤلاء العلماء بصحة إنتاج هذين القياسين، وبصحة مبدأ (اللزوم) الذي يرجعان

إليه، جواز استعمالهما في المباحث الشرعية، بل إن إقرارهم بذلك مع عدم

تجويزهم استعمالهما فيها يؤكد القول بالمنع؛ إذ كأنهم يقولون: مع علمنا بصحة

إنتاج هذين القسمين من القياس المنطقي، إلا إننا لا نجوز استعمالهما في المباحث

الشرعية..

ذلك أن القول بالمنع ليس مبنيّاً على كونهما صحيحي الإنتاج أو لا، وإنما

لاعتبارات أخرى نصوا عليها في أدلتهم المذكورة آنفاً؛ بيّنها شيخ الإسلام ابن تيمية

(رحمه الله) في جملة من أقواله، منها:

1- قوله: (فإن كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد النتيجة، هو أمر

صحيح في نفسه، لكن الذي بيّنه نُظّار المسلمين في كلامهم على هذا (المنطق

اليوناني) المنسوب إلى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس

ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كلّ ما يمكن علمه ب

(قياسهم المنطقي) يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي، وما لا يمكن علمه بدون

قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم، فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي

لا يُعلم بدونه، ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه، فصار عديم التأثير في

العلم وجوداً وعدماً، ولكن فيه تطويل كثير متعب. فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه

إتعاب الأذهان وتضييع الزمان وكثرة الهذيان) [12] .

2- وقوله: (صورة القياس المذكورة فطرية لا تحتاج إلى تعلم؛ بل هي عند

الناس بمنزلة الحساب، ولكن هؤلاء يُطولون العبارات ويغربونها.. والأمور

الفطرية متى جُعل لها طرق غير فطرية كانت تعذيباً للنفوس بلا منفعة لها) [13] .

3- وقوله: (كما لو قيل لرجل: اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية،

فإن هذا ممكن بلا كلفة، فلو قال له قائل: اصبر؛ فإنه لا يمكنك القسمة حتى

تعرف حدّها، وتميز بينها وبين الضرب، فإن القسمة عكس الضرب؛ فإن

الضرب هو تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع آحاد أحد

العددين على آحاد العدد الآخر.. فهذا، وإن كان كلاماً صحيحاً، لكن من المعلوم

أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه

حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيباً له بلا فائدة، وقد يفهم هذا الكلام، وقد

يعرض له فيه إشكالات) [14] .

4- وقوله أيضاً (رحمه الله) : (المطلوب هو العلم، والطريق إليه هو الدليل؛ فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه، سواء نظّمه بقياسهم أم لا، ومن لم

يعرف دليله لم ينفعه قياسهم! ولا يقال: إن قياسهم يُعرّف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم..) [15] .

5- وقوله كذلك: (إن احتياج المُستَدِل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال

الناس؛ فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة؛ لعلمه بما سوى ذلك..

ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين.. وأكثر) [16] .

ثم يمثل (رحمه الله) إلى من يحتاج إلى مقدمتين بقوله: (كمن لم يعلم أن

(النبيذ المُسْكِر المتنازع فيه محرم) ، ولم يعلم أن (هذا المعيّن مُسْكِر) ، فهو لا يعلم

أنه محرم حتى يعلم (أنه مُسْكِر) ويعلم أن (كل مُسْكِر حرام [] 17 [.

(وإلى من يحتاج إلى مقدمات كثيرة، وهو يعلم أن (النبيذ مُسْكِر محرم) ،

ولم يعلم أن (هذا المعيّن مُسْكِر) ، ولا أن (هذا خمر) ، ولكنه كان يعلم أن (محمداً قد

حرّم الخمر) مع جهله بأنه رسول الله، وأيضاً أنه حرمه تحريماً عامّاً؛ فهو يقول:

(فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريماً عامّاً، إلا أن يعلم أنه

مسكر، وأنه خمر، وأن النبي حرّم الخمر.. وأنه رسول الله حقّاً، فما حرّمه فقد

حرّمه الله، وأنه حرّمه تحريماً عامّاً، لم يُبحه للتداوي ولا للتلذذ) ] 18 [.

وعلى هذا: (فإن إلزام من لا يحتاج في استدلاله إلا لمقدمة واحدة تنقصه،

بأن يأتي بمقدمتين، فيه تكرار غير مرغوب، وتطويل غير مطلوب!

كما أن إلزام من يحتاج في استدلاله إلى مقدمات كثيرة بأن يقتصر على

مقدمتين فقط، فيه اختصار مخل قد يُعَسّر الفهم ويُضيع الفكرة.. بل الأولى من هذا

الإلزام بالاقتصار على مقدمتين فقط أن يُشترط من المقدمات ما يوصل إلى

المطلوب بأخصر طريق وأقصره وأيسره؛ وذلك بأن يُذكر ما يحصل به البيان

والدلالة، سواء كان مقدمة أو مقدمتين أو أكثر، فهو الأقرب للمعقول والأنسب

للواقع) ] 19 [.

أما فيما يتعلق بمبدأ (اللزوم) : فليس الخلاف في كونه مبدءاً صحيحاً في

الاستدلال أو لا، وإنما الخلاف في كيفية التعبير عنه؛ فأنتم ترون التعبير عنه من

خلال هذه الأقيسة المنطقية، ونحن نرى التعبير عنه بأي أسلوب عربي صحيح.

والخلاصة التي يمكن ملاحظتها من مجموع كلام القائلين بمنع استعمال

الأقيسة المنطقية في المباحث الشرعية على التسليم بصحتها في نفسها ترجع إلى

الأمور التالية:

أولاً: أن هذه الأقيسة من جملة علم المنطق الذي حكم علماء الإسلام بأن

استعماله في المباحث الشرعية بدعة في الدين.

ثانياً: أن هذه الأقيسة، وإن كان إنتاجها صحيحاً في غير المباحث الشرعية،

فهي كثيراً ما تكون غير ذلك في المباحث الشرعية] 20 [.

ثالثاً: أن التمادي في استعمال هذه الأقيسة قد يؤدي بصاحبه إلى حسن الظن

بعلم المنطق لما يجد فيه من بعض القضايا الصادقة؛ حيث يجره ذلك إلى الاشتغال

به، فيقع بغير قصد غالباً في أغاليطه، وضلالاته الكفرية الكثيرة] 21 [.

رابعاً: أن في استعمال هذه الأقيسة تطويلاً للكلام من غير فائدة، وأنه

يحصل بغيرها ما يحصل بها.

* الترجيح:

من خلال عرض الأقوال في هذه المسألة، والأدلة والمناقشات.. تبين لي أن

سبب الخلاف بين الفريقين ليس في كون هذين القياسين صحيحي الإنتاج أو لا،

وإنما سببه النظر في اعتبارات أخرى.

والذي ترجح لدي بعد هذا كله الرأيُ القائل بالمنع؛ وذلك لقوة أدلتهم،

ووجاهة الاعتبارات التي أخذوا بها.

ومما يؤكد هذا الترجيح أيضاً، أن الناظر في كتب (الفقه) و (التخريج) يدرك

توافقه لما سار عليه المُخرّجون على مدى العصور الماضية؛ من استعمالهم

للأساليب العربية الموصلة إلى المطلوب بأسهل عبارة، وأخصر طريق، وعدم

استعمالهم لتلك الأقيسة المنطقية.

غير أنه يحسن التنبيه في هذا المقام إلى أن القول بعدم جواز استعمال تلك

الأقيسة المنطقية لا يلزم منه الحكم على أي حُكْم استُعملت فيه تلك الأقيسة بالفساد،

وإنما يلزم منه أن يلحق بمن يستعملها ما يترتب على تلك الاعتبارات التي ذكرها

المانعون من أحكام، والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015