الافتتاحية
إن سيطرة اليهود على فلسطين، وما أصاب أهلها وما حواليها من البلاد من
ذل وتشريد وقهر نتيجة ظلم اليهود وأنصار اليهود.. كل ذلك هو محنة وابتلاء
للمسلمين، يبتلي الله به عباده بسبب تقصيرهم في الدفاع عن حرماتهم. وفي
الابتلاء يسقط قوم، وينجح آخرون، أما الذين يسقطون فهم الذين يكونون عوناً
للعدو في نشر فكره ومشابهة أخلاقه، ويكونون عيناً له على أبناء جلدتهم يبيعونهم
لقاء عرض من الدنيا قليل، ويتاجرون بدماء شعوبهم من أجل التمكين لأنفسهم. أما
النكاية بالعدو فآخر ما يفكرون فيه. ومن هؤلاء الذين يؤمنون بسياسة الأمر الواقع، ويدركهم التعب من طول الطريق ومشقة السير، فيطرحون الحلول التي يرضى
عنها الأعداء كي يظهروا أناساً واقعيين غير متعصبين.
وأما الذين ينجحون فهم الذين يعتبرون المحنة فرصة لتمييز الخبيث من
الطيب من النفوس، ويصبرون على البلاء دون تذمر أو عجلة، ويرجعون إلى
عقيدتهم ودينهم الذي يتفق مع منطق التاريخ وقوانين الصراع، ويرون أن وجود
اليهود في فلسطين - ولو استظهروا بكل قوى الكفر، شرقية وغربية - مخالف
لمنطق التاريخ وسننه الجارية.
لقد أراد اليهود وأنصارهم أن يقطعوا صلة المسلمين في فلسطين بربهم،
ووضوا من الخطحط للقضاء على هذا الشعب وتشتيته الشيء الكثير.. لكن إرادة
هؤلاء ليست مطلقة، حتى ولو ملكواما شاءوا من المال والسلاح؛ لأن الله وإن أمد
للظالم، فهو - سبحانه وتعالى - لا يتركه يتمادى بظلمه وجبروته إلى الأبد، ولأن
الباطل مهما علا وعربد وانتفش فإن الحق غالبه لا محالة.
لقد كانت - وما زالت - محنة رهيبة أن يصول اليهود ويجولوا في الأرض
التي بارك الله فيها، محنة لا لمن يستوطن هذه البقاع فقط، بل لكل مسلم على وجه
الأرض.
وكان هناك بدهية مستقرة عند أغلب المسلمين، وهي أن سيطرة اليهود على
فلسطين بمساعدة الغرب الصليبي ليست إلا مرحلة من مراحل الصراع الطويل بين
الإسلام من جهة، وبين الصليبية الغربية من جهة أخرى. وهذه السيطرة تحقق
عدة مكاسب، فهي تساعد على بناء قاعدة متقدمة للمستعمرين الأوربيين، وتكون
عامل إضعاف مستمر للقوى العربية الإسلامية بأيد غير صليبية، وإن كانت أمينة
على تطبيق القيم والمفاهيم الغربية. ولا غرابة في ذلك؛ فاليهودية والصليبية
تشتركان في عمق فكري واحد.
وكان في تغييب الإسلام عن التأثير في مجرى الأحداث - منذ أن اكتسح
الغرب الصليبي البلاد الإسلامية، وخصوصاً منها التي كانت واقعة ضمن الدولة
العثمانية - جناية كبرى على هذه البلاد وعلى شعوبها التي أريد أن تزدهر بينها كل
الدعوات ما عدا الإسلام، ونتنفس في أجوائها كافة البدع، واستثني الإسلام بكل
صلف وخسة، وطوردت كل دعوة صادقة للحفاظ عليه عقيدة للأمة، ووسيلة عملية
وهدفاً، لا مجرد تراث للتغني والمزايدة.
في مثل هذا الجو أصبح أعداء الإسلام وتلامذتهم الجهلة يرددون مقولات
كثيرة ليست إلا خيانة وتواطؤاً تلبس لباس التعالم والاستهزاء بعقول الناس مثل:
التفريق بين اليهودية والصهيونية.
القومية العربية طريق تحرير فلسطين.
الدولة العلمانية هي مطلب الفلسطينيين.
بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد هو سبيل تحرير فلسطين.
نضال الطبقة العاملة هو سبيل التحرير.
إلى غير ذلك من الشعارات التي لا تكاد تحصى، والتي تتشعب في متاهات
لا تنتهي، ولا يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الكيد للإسلام وأهله في هذه البلاد.
وفي ظل هذه الدعوات والشعارات وصل العرب إلى مستوى لا يحسدون
عليه، فتبددت طاقاتهم، وتفرقت كلمتهم وزالت هيبتهم.
ففي الوقت الذي سودت فيه آلاف الصحائف في الدعوة إلى الوحدة على
مستوى العالم العربي؛ كان داء الإقليمية يستشري ويمد جذوره عبر هذا العالم الذي
تعصف به الأهواء، وتتوزعه القوى الكبرى بعيداً عن رغبات شعوبه.
لكن على الرغم من كل هذا فإن هناك حقيقة تستعصي على التجاهل وهي أن
المحرك المركزي لهذه الشعوب هو الإسلام، وأنه العقيدة التي لا يورث القفز عنها
ومحاولة تجاوزها إلا الذل والضياع.
فقد غبر العرب زمناً يولون وجوههم قبل المشرق والمغرب، ولم يحصدوا
ممن استنصروا بهم إلا الخيبة والشماتة والبوار.
تشبثوا ببريطانيا فخذلتهم، وها هم يتمرغون على أعتاب وريثتها أمريكا،
والنتيجة ماثلة للعيان: ضياع للمقدرات، واستنزاف للطاقات، وصورة قاتمة عن
الإسلام وعن العرب ترسمها الصحافة اليهودية والصليبية المسيطرة في أوربا
وأمريكا.
ومنذ أواسط الخمسينيات اتجه العرب نحو روسيا الشيوعية، وحدثتهم أنفسهم
المضلَّلة بأن روسيا هذه ستنصفهم من الظلم الواقع عليهم من قِبل الغرب، بل إن
منهم من منَّى نفسه أن يهب الروس ليقاتلوا معه ذوداً عن حياض العرب بقنابلهم
النووية والهيدروجينية! مع أن هؤلاء الروس البلاشفة يعلمون حق العلم أن العرب
بوضعهم الحالي الضعيف - بعيداً عن عقيدة واضحة يتمسكون بها، وينافحون عنها
بصدق - لا يساوون أكثر من أجزاء لصفقة يحققون من ورائها نفوذاً على موائد
المساومات مع القوى الغربية.
لقد أدرك الناس ذلك بكل وضوح، وليس غريبًا أن يعبر أهل فلسطين عن
هذا الإدراك تعبيراً عملياً سمع به العالم كله. فقد وقع هذا الشعب ضحية القوى
الصليبية العالمية التي ظاهرت الصهيونية على سلبه حقوقه وتشريد أكثريته ... في الآفاق، ووقع مرة أخرى ضحية انخداعه بالوعود المعسولة، وكان يتغدى على الخطب، ويتعشى بالشعارات، وينام على حلم يداعب أجفانه بـ (صلاح
دين) آخر يأتي من الشرق، وبـ (قطز) جديد يأتي من الجنوب أو الغرب.
ولم يدر أن الذين وضع أمله فيهم لتحقيق هذا الحلم ليسوا من هذا الأمر في ... كثير ولا قليل.
فالأمر على زمان صلاح الدين وقطز كان أسهل! ولم تكن هناك حدود، وقانون
دولي، وهيئة أمم، ومجلس أمن ... ! عجباً! كيف ظن الفلسطينيون أن هناك من
يمكنه أن يتحدى ما يسمى (بالشرعية الدولية) ؟ ! .
لقد أدرك أهل فلسطين ذلك جيداً، فرأوا أن يبادروا الأمر بأنفسهم - وحسناً
فعلوا - فتركوا أمر الحسابات لأصحاب الحسابات، وحملوا عقيدتهم الإسلامية
يستلهمونها الثبات، وأعرضوا عمن سرقوا صبرهم داخل الحدود وخارجها من
شيوعيين وعلمانيين، وقرروا أن ينطلقوا من المسجد وأن يلجئوا إليه.
وهكذا تبدو لهذا الشعب عدة حقائق جديرة بالتوقف عندها:
فقد أدركوا أن المحرك الفعلي للجهاد والكفاح هو الإسلام، وأن الشيوعيين
الكذبة هم حلفاء اليهود، وقفوا معهم منذ البداية، ويرون في إسرائيل دولة وجدت
لتبقى.
وأن دعاة القومية العلمانيين هم صنائع للإنكليز، يكاد يقتلهم اللهاث وراء
الحلول الاستسلامية التي يعدهم بها أولياؤهم من الصليبيين.
وعلى الرغم مما يظهر من شعور بالهلع لدى من نصبوا أنفسهم متكلمين باسم
هذا الشعب؛ لأنهم وجدوا كل متاجرتهم السابقة لم تفد شيئاً، فتحركوا بنشاط
إعلامي واسع لاحتواء دوافع الانتفاضة، ومن ثم التأثير على توجيهها الوجهة التي
يريدون؛ فإن مما يبشر بالخير إدراك الشباب الفلسطيني المسلم إفلاس دعاة
العلمانية الذين فاجأتهم أحداث الضفة الغربية وغزة، فسارعوا وسط الحيرة يتدبرون
أمرهم ليطوقوا هذا الواقع الجديد.
ولكن.. هل يستمر حبل الأكاذيب إلى ما لا نهاية؟ !
يأبى الله ذلك ... ويأبى المؤمنون الذين يستمدون منه - وحده - العون والتسديد.