في دائرة الضوء
أدبيات القضية ومحاولات التفسير
بقلم: د.نبيل السمالوطي
واجه العالم تطوراً علميّاً هائلاً منذ سنة 1971م يتمثل في توظيف الأقمار
الصناعية في خدمة الإرسال التلفزيوني المباشر [1] ، دون حاجة إلى محطات
أرضية.
وأصبح الإرسال يصل إلى المنازل مباشرة دون إمكان تدخل الأجهزة الرقابية
في الدول، وأصبح هذا التطور يمثل إيجابيات وسلبيات تعاني منها الدول دون
إمكان وقف البث أو السيطرة عليه، وقد استخدمت هذه القنوات من جانب دول
الغرب، سواء من خلال قنواتها المباشرة، أو من خلال إنتاجها الذي يمثل
حوالي 50% من الإنتاج الذي تبثه قنوات العالم الثالث في خدمة تسويق قيمهم وأساليب حياتهم وطرق التفكير والعلاقات السائدة في المجتمعات الغربية، هذا إلي جانب تسويق منتجاتهم الاقتصادية [2] ، والسيطرة على عقول أبناء المجتمعات النامية، وتحقيق ما يطلق عليه: الاختراق الإعلامي للدول، الذي هو مدخل لكل الاختراقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.
أدبيات القضية:
ويشير استعراض التراث أو أدبيات الاتصال إلى تعدد الآراء والمنظومات
والاستنتاجات والتحليلات، ونستطيع إيجاز أهمها فيما يلي:
أولاً: يرتبط البث المباشر وتزايد القنوات الفضائية بالتقدم الضخم الذي تم
إنجازه في مجال تقنية الاتصالات الفضائية، وبخاصة فيما يتصل بتنامي قوة
الأقمار الصناعية وصغر حجم الهوائيات ورخص ثمنها [3] .
ثانياً: يصعب جدّاً إن لم يكن مستحيلاً السيطرة على هذا البث من خلال
التشويش أو الإلغاء، فضلاً عن تكاليف ذلك التي لا تستطيع الدول النامية تحملها.
ثالثاً: هناك من يرى أن الدول الغربية تحاول توظيف البث المباشر لتحقيق
الهيمنة الاتصالية Media Imperialism? وهي أحد أبعاد الهيمنة الثقافية التي
هي بدورها أحد مظاهر أو مداخل الهيمنة الشاملة على الدول النامية، ويشار بشكل
خاص إلى الإنتاج الإعلامي الأمريكي بوصفه هو الإنتاج الأكثر انتشاراً على
مستوى العالم.
رابعاً: بذلت عدة محاولات خلال عقود الستينات والثمانينات لإيجاد حلول
جادة لمشكلات اختلال نظام الاتصال الدولي، ومنها لجنة شون ماكبرايد [4] ، وقد
باءت هذه المحاولات بالفشل، فبقي القوي قويّاً وازداد الضعيف ضعفاً.
خامساً: هناك مواثيق واتفاقيات ومبادئ دولية صادرة في إطار الأمم المتحدة
واليونسكو واتحادات الإذاعات الإقليمية تنظم استخدام الاتصالات الفضائية والتداول
الحر للأخبار والمعلومات والبرامج، لها قوة ملزمة لجميع الدول، وهي في بعض
جوانبها في غير صالح الدول النامية.
سادساً: ساهم موقع الدول العربية الجغرافي في استقبال المشاهدين العديد من
قنوات البث المباشر من آسيا وأوروبا وأمريكا والدول العربية الأخرى دون حاجة
إلى هوائيات إضافية.
سابعاً: يذهب بعض الباحثين إلى رفض التفسير التآمري للبث المباشر،
ويقولون: إن البث نتيجة منطقية وطبيعية للتقدم العلمي والتقني، ولابد من مواجهة
إشكالياته من خلال التخطيط العلمي [5] ، وتخيل التآمر على الإسلام والمسلمين
ليس في تطوير التقنيات ولكن في توظيف البرامج وما يتم بثه خلال القنوات.
ثامناً: ينظر بعض الدارسين إلى البث المباشر بشكل إيجابي على أنه يسهم
في إثراء المعرفة ونشر الثقافات، وتعزيز التفاهم والتقارب والتفاعل بين الشعوب
والثقافات، وتوسيع نطاق التعليم والوعي، واحترام حقوق الإنسان في نشر
المعلومات والأخبار والحصول عليها [3] ، في حين ينظر بعض الدارسين إلى هذا
البث على أنه هيمنة ثقافية وتسلط على عقول العالم الثالث [6] ، أو على أنه إيدز
العصر [7] ، وأنه أخطر تحدي للأمة المسلمة لا يقتصر على الاختراق السياسي بل
يمتد إلى اختراق عقول الأمة [8] ، فالغرب يحاولون تفريغ شباب المسلمين من
إمكاناتهم وقدراتهم وطاقاتهم من خلال المخدرات والجنس، وإهدار القيم والسلوكيات
من خلال البث المباشر، وبعض الباحثين الغربيين (وبستر) يرى أن البث المباشر
يؤدي إلى إشكالية قيمية تتمثل في سيطرة الدول ذات الأنظمة الاتصالية القوية
والمتمرسة على الدول الجديدة الغضة [9] .
تاسعاً: يذهب بعض الباحثين إلى أن الخطورة والإسفاف تتمثل في بعض
القنوات التجارية التي تتجه للتركيز على العنف والإثارة الجنسية والإباحية، مما
يتصادم مع ثقافة الإسلام وثقافة العديد من دول العالم [3] .
عاشراً: إذا كانت غالبية الدارسين الموضوعيين يرفضون التفسير التآمري
للبث المباشر، فإنهم يؤكدون توظيفه من قبل الدول غير الإسلامية وبخاصة الغربية
لهدم القيم الإسلامية لدى المشاهدين المسلمين، وتشارك في هذا قوى صهيونية
ونصرانية واقتصادية.
حادي عشر: على الرغم من اتجاه دول أوروبا إلى التقارب السياسي
والاقتصادي والإعلامي.. إلا أن كل دولة تبذل جهوداً كبيرة للحفاظ على هويتها
الثقافية المتميزة، وتحاول الوقوف في مواجهة الغزو الثقافي القادم مع البث المباشر
من دول أخرى في القارة نفسها أو من خارجها، هذا ما فعلته اليابان حفاظاً على
ثقافتها وفكر وسلوكيات أبنائها [10] ، وهذا ما فعلته فرنسا وكندا اللتان ضاقتا
بالغزو الثقافي الأمريكي في وسائل الاتصال [11] ، وإذا كان ذلك التخوف وتلك
الإجراءات تتخذ من جانب دول ذات قوة اقتصادية وإعلامية، فالحاجة أشد في دولنا
الإسلامية، وبخاصة وأن التأثير في هذه الحالة الأخيرة أحادي الاتجاه في غيبة
التخطيط العلمي لتحديث الاتصالات الإسلامية.
ثاني عشر: تتمثل المشكلة في تعاظم تأثير التلفزيون في حياة البشر في كل
مكان، لدرجة أطلق عليها بعض الدارسين مصطلح الإدمان التلفزيوني، ويقاس هذا
الأثر بعدد ساعات المشاهدة اليومية بالنسبة للأطفال والشباب والنساء والرجال..
إلخ، ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة واليابان والنمسا وكندا: أكدت أن
الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 9-10 سنوات، يشاهدون التلفزيون بمتوسط 3
ساعات يوميّاً [12] ، ويشاهد الأكبر سنّاً عدداً أكبر من الساعات اليومية، وكما
يشير بعض الدارسين: يقضي الطفل أمام التلفزيون وقتاً يماثل أو يزيد عن الوقت
الذي يقضيه في الفصل الدراسي [15] ، وكشفت دراسة ريبيل ومونتويا 1981
التي أجريت على الطلاب بين 12-16 سنة لمعرفة أثر التلفزيون عليهم مقارناً بأثر
المناهج الدراسية عن: أن هؤلاء الطلبة يقضون 6. 3 ساعة يوميّاً في المتوسط
أمام التلفزيون غير ساعات البرامج التعليمية، وأنهم يفضلون محتويات التلفزيون
التجاري على المناهج والبرامج التعليمية، وأنهم يحسون بالملل أمام البرامج
التعليمية، ولا يحدث ذلك بالنسبة للبرامج التجارية [16] .
محاولات التفسير:
تعددت الآراء والرؤى حول قضية البث المباشر وانتشار البرامج والأفلام
والمسلسلات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص داخل الدول النامية والدول
الإسلامية، سواء من خلال القنوات الفضائية الأجنبية، أو من خلال القنوات
الوطنية، ولا يقتصر الأمر على انتشار هذه البرامج والمسلسلات والأفلام، وإنما
هناك مصادر صناعة الأخبار وصياغة الأنباء وعرض المعلومات وصناعة
الإعلانات.. إلخ، كل هذه المكونات الاتصالية المؤثرة في صياغة فكر الناس
وقيمهم وتفضيلاتهم وأحكامهم وطموحاتهم وسلوكياتهم ومواقفهم.. كل هذه المكونات
يتم صناعتها وصياغتها في بيوت الخبرة الغربية ومن خلال أحدث التقنيات العالمية
التي تمتلك ناصيتها دول الغرب بعامة، والولايات المتحدة بشكل خاص [9] .
وقد انصبت الآراء والنظريات والأفكار المطروحة حول تأثير هذه البرامج
الغربية واسعة الانتشار على الهوية الثقافية للدول المستقبلة لهذه البرامج، وعلى
مستقبلها الاقتصادي والثقافي والسياسي، وعلى نوعية الاتجاهات والقيم والسلوكيات
والأفكار التي يمكن أن يتبناها الأطفال والشباب في تلك الدول نتيجة لتعرضهم
ساعات طويلة يوميّاً لمشاهدة هذه المواد الاتصالية المصاغة في الغرب، التي
تستهدف ليس فقط ترويج البضاعة والسلع الغربية ومنها السلع الثقافية بما فيها
البرامج والأفلام والمسلسلات والتقنية الاتصالية، وإنما أيضاً تسويق القيم
والاتجاهات والسلوكيات والأخلاقيات الغربية، خاصة الأمريكية. ولم يقتصر
الحوار والجدل والاهتمام بهذه القضايا التي تمس الهوية الاقتصادية والثقافية
والسياسية والفكرية والدينية والوطنية على مثقفي الدول النامية ومنها الدول
الإسلامية والعربية، وإنما دار هذا الحوار والاهتمام أيضاً بين مثقفي الدول
الصناعية الكبرى سواء في الغرب مثل فرنسا وكندا أو خارج الغرب مثل
اليابان [11] .
وكما يشير وبستر فإن البرامج والمادة التلفزيونية تعكس بالضرورة قيم البلاد
التي تنتجها، وحتى عندما لا تكون لهذه البرامج سمات سياسية، فإنها لا تخلو من
قيم اقتصادية أو ثقافية أو دينية أو أخلاقية، ولكل أمة هويتها الثقافية والقيمية، وقد
تتصادم هذه القيم المحملة في برامج الإعلام والاتصال الوافدة مع القيم والهوية
الثقافية للدول المستوردة أو المستقبلة [9] .
وقد طرح على ساحة أدبيات الاتصال العديد من التفسيرات والنظريات لتفسير
ظاهرة سيطرة الغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص على المادة التلفزيونية،
سواء في شكل أخبار أو معلومات أو إعلانات أو مسلسلات أو أفلام أو برامج
متنوعة..
- اتجاهان لتفسير الظاهرة:
الاتجاه الأول وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية التبعية عز وجلependency Theory
الاتجاه الثاني وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية الانتشار عز وجلiffusion Theory
أ -الاتجاه الأول لتفسير الظاهرة:
والاتجاه الأول يعود إلى عدة رواد مثل فرانك [13] ، ومن أنصاره المحدثين: ولرشتاين في دراسته عن (النسق العالمي الجديد) [14] .
وتقوم نظرية التبعية بأشكالها المختلفة على تقسيم العالم إلى مراكز وأطراف،
فالقوى والدول الصناعية الكبرى هي المراكز، تتخذ من الدول الفقيرة والنامية
(الأطراف) ميداناً لزيادة ثرائها، وهذا يعني استغلال المراكز للأطراف اقتصاديّاً
وسياسيّاً واجتماعيّاً، وتهيمن دول المركز على الأطراف لإلغاء هويتها، ومن
مظاهر هذه الهيمنة أو السيطرة: الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاتصالية أو
الإعلامية، وهنا تصبح الهيمنة الاتصالية أحد أشكال الهيمنة الشاملة، وهي أخطر
هذه الأشكال لأنها تمهد السبيل لكل الأشكال الأخرى من الهيمنة، ولأنها تستهدف
عقول الناس وقيمهم وشخصياتهم، تماماً كما تستهدف ثرواتهم وسياساتهم.
فدول المركز تستهدف في نظر أصحاب نظرية التبعية إلغاء الهوية الثقافية
للدول الطرفية، وتشكيل ثقافة عالمية متجانسة هي الثقافة الاستهلاكية التحررية،
وتوظيف إمكانات الدول الطرفية في خدمة الرأسمالية العالمية، وهذا يعني تحويل
هذه الدول إلى سوق يتم فيه تسويق:
1- المنتجات الثقافية الغربية (القيم والعادات، والسلوكيات، والتفضيلات،
وأساليب الفهم والفكر، والتحليل والتفسير، ورؤية العالم) .
2- المنتجات الاقتصادية الغربية.
3- الانتماء الفكري للغرب بكل نظمه وأيديولوجياته ومبادئه.
وقد أفاض كل من فيجيس وشيلر ونورد نسترونج وفارس وأرجيومندو في
عرض هذا الاتجاه [15] .
وهذا يعني أن الهيمنة الثقافية من خلال وسائل الاتصال تدعم حالة عدم
التوازن وعدم العدالة والانقسام الدولي الراهن إلى دول مركز مسيطرة، ودول تابعة
خاضعة مستنزفة ومستغلة لصالح دول المركز.
والواقع أن السيطرة على المعلومات وعلى التكنولوجيا وعلى البرامج في
مجال الاتصالات، تؤدي إلى تزايد القدرة على السيطرة على أذواق الناس وفكرهم
وسلوكهم الاستهلاكي، والتكنولوجيا المتقدمة تعني مزيداً من القدرة على الوصول
بالرسائل إلى دول أكثر وجمهور أكبر، وبشكل أكثر إغراءً وجاذبية، وبالتالي:
تعني فتح أسواق أوسع أمام القيم وأمام السلع الغربية في آنٍ واحد، وكل هذا يعني
مزيداً من السيطرة الاقتصادية والفكرية والثقافية [1] ، فالغرب هو الذي يسيطر
على الأجهزة والمعدات المتصلة بالاتصالات، وهو المسيطر على صناعة الرسائل
والمواد الاتصالية، وهو الذي يسيطر على صناعة الأخبار وصياغة الأنباء
وتوظيف الأخبار بما يخدم أهدافهم، فأهم وكالات الأنباء المسيطرة على توزيع
الأخبار على تلفزيونات وصحافة العالم هي الوكالات الغربية (الأسوشيتدبرس) ،
و (اليونيتيدبرس) ، و (رويتر) ، ووكالة الصحافة الفرنسية، وكذلك وكالات الأنباء
التلفزيونية المصورة في أنحاء العالم المختلفة [1] .
وأغلب الدول النامية لديها قناتان تلفزيونيتان، تبث خلالهما ساعات إرسال
طويلة على مدى النهار والليل، بينما لا تملك برامج ومواد وطنية تغطي أكثر من
عشر ساعات على الأكثر، ولهذا تضطر للاعتماد على استيراد المواد الاتصالية
وغالبيتها من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجد أن أكثر من نصف البرامج
المستوردة التي تبثها الدول الآسيوية هي برامج أمريكية، و25% من البرامج
الإنجليزية، وأغلب دول أمريكا اللاتينية تستورد 50% من البرامج التي تبثها،
وتصل النسبة في بعض الدول أكثر من ذلك، فهي في (أورجواي) 62% وفي
(جواتيمالا) 48% وأغلب هذه البرامج تستورد من الولايات المتحدة الأمريكية،
ويقدر مجموع مبيعات المواد الاتصالية (برامج ومسلسلات وأفلام سينمائية) في
أمريكا سنة 1985 إلى ما يقرب من 290 مليون دولار [1] .
كل هذا يشير إلى الهيمنة الثقافية والاتصالية، وإلى تبعية دول العالم الثالث
أو النامي للدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ومع تقدم تقنية القنوات
الفضائية: يكون العالم الثالث قد سلّم آخر ما لديه من أسلحة لمقاومة الغزو الفكري، وهو سلاح التحكم أو السيطرة النسبية أو الرقابة، التي ما يزال يستخدمها بقدرٍ ما
من الفاعلية إزاء المطبوعات وإزاء المادة التلفزيونية المستوردة [15] .
كل هذا يثير قضية الهوية الدينية والثقافية والقيمية والوطنية، كما يثير قضية
السلوك الاستهلاكي والتنمية الاقتصادية، ويثير أيضاً قضية السيطرة السياسية
والتنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية، ويثير قضية اختراق العقل الوطني، أو
تغريب عقول أبناء الدول النامية.. إلخ داخل الدول التي يطلق عليها الأطراف،
الأمر الذي يتطلب حلولاً فعالة لمواجهة هذه الأزمة، على أن تتسم هذه الحلول
بالحكمة والتخطيط والتعقل، هذا عن الاتجاه الأول، وهو اتجاه نظرية التبعية التي
تتحدث عن الهيمنة الثقافية، التي يعرفها شيلر بأنها: جهود واعية ومنظمة تقوم بها
الاحتكارات الأمريكية في المجالين العسكري والاتصالي للحفاظ على تقدمها،
وبالتالي: على نفوذها في المجالات المختلفة [15] .
ويؤكد شيلر أن هذه الجهود تنبثق عن وزارة الدفاع الأمريكية التي تسهم في
وضع السياسة الأمريكية في مجال الاتصالات، وهذا هو الشكل المباشر للجهود،
كذلك تنبثق عن الشركات الأمريكية الخاصة (RCصلى الله عليه وسلم-Nرضي الله عنهصلى الله عليه وسلم) وهي من أكبر
الشركات المرتبطة بعقود مع الوزارة المذكورة [15] ، وإذا كانت وسائل الاتصال
الأمريكية مرتبطة بالسياسات الاقتصادية والخارجية والدفاعية الأمريكية، فإن هذا
يعني أنها أداة من أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الأمريكية
على العالم من جهة، وأداة من أدوات استمرار التخلف والتبعية الشاملة للدول
النامية استمراراً للمصالح الغربية والأمريكية من جهة أخرى [15] .
ب - الاتجاه الثاني لتفسير الظاهرة:
وهو تفسير أنصار نظريات الانتشار والتحديث الثقافي [16] ، ويرى أنصار
هذا الاتجاه وجوب عدم إطلاق أحكام فضفاضة مثل (الهيمنة الثقافية) أو (الاستعمار
الاتصالي) ، فهذه أحكام لا أساس لها من الصحة، فانتشار وسائل الإعلام الغربي
والمواد الاتصالية الغربية داخل الدول النامية، سواء من خلال محطات التلفزة
الوطنية أو الأقمار الصناعية: لا يشير إلى أي شكل من الهيمنة أو الاستعمار أو
السيطرة، ولكنها عملية احتكاك ثقافي ضروري من أجل التنمية والانتقال من حالة
التخلف إلى حالة التنمية، وهم يفسرون قضية انتشار الإنتاج الغربي في ضوء
مفاهيم تجارية اقتصادية وهي رغبة الدول الغربية في تحقيق أرباح، كما أنهم
يفسرونها في ضوء حاجات الدول النامية إلى الأخذ بالنظم السائدة في الدول المتقدمة
اقتصاديّاً للانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى تصل إلى المستوى نفسه للدول
الغربية المتقدمة اقتصاديّاً، وإلى جانب هذا: فإن أنصار نظرية الانتشار يميلون
إلى تفسير انتشار المواد والإنتاج الاتصالي الغربي في ضوء طبيعة المنتجات
الغربية (المعلومات، الأخبار، البرامج، الأفلام، الإعلانات، المسلسلات..) من
حيث الجاذبية والتقنية العالية وانخفاض السعر.. إلخ [16] .
ويؤكد أنصار نظرية الانتشار على خطأ إهمال أنصار نظرية التبعية للعوامل
التي تؤثر في حركة انسياب المواد الاتصالية بين الدول المتقدمة والدول النامية،
كما أنهم يخطئون عندما يتجاهلون علاقة التأثير والتأثر المتبادلة في هذا المجال
وذلك نتيجة لتركيزهم على آحادية اتجاه حركة المواد الاتصالية.
وهم يخطئون ثالثا عندما يتجاهلون الآثار الإيجابية للمواد الاتصالية الغربية
داخل الدول النامية.
جوانب الاختلاف بين الاتجاهين:
ويمكن إبراز أهم جوانب الاختلاف بين أنصار نظرية التبعية، وأنصار
نظرية الانتشار والتحديث في ظاهرة عدم التوازن في مجال الاتصال والإعلام
والغزو الثقافي فيما يلي:
أولاً: منطلقات الدراسة: فأنصار الانتشار ينطلقون من عملية التنمية الوطنية
لنظم الاتصال، ومن الدور الذي تلعبه القيم والمعايير الاجتماعية في تنمية هذه
النظم، أما أنصار نظرية التبعية فينطلقون في تحليل ظاهرة الهيمنة الاتصالية من
تحليل علاقات القوى الدولية وتصنيف الدول إلى تابعة أو هامشية، ودول مركز.
ثانياً: النظر إلى حالة التبعية: أنصار نظرية الانتشار ينظرون إليها على
أنها حالة مؤقتة، يمكن زوالها من خلال استيعاب التقنيات والعلوم الغربية
وتطويرها وتوظيفها في خدمة التنمية الوطنية الشاملة، ومن خلال تنمية القدرة على
استنبات آليات وتقنيات وطنية، أما أنصار نظرية التبعية فينظرون إلى الهيمنة
الاتصالية على أنها حالة دائمة ترتبط بسيادة الرأسمالية والنظم العالمية الحالية
(الليبرالية) .
ثالثاً: النظرة إلى الدور الذي يلعبه النظام الاتصالي: فأنصار نظرية التبعية
يرون أن هذا النظام يكرس قوة القوي، وضعف الضعيف وإبقاء (عدم التوازن)
على ما هو عليه، أما أنصار نظرية الانتشار فينظرون إلى النظم الاتصالية على
أنها وسائل تخدم عملية التنمية الوطنية وتنمي حوافز الإنجاز والإنتاج وتسهم في
التنمية البشرية بشكل عام، فالتعرض للمواد الاتصالية التي أفرزتها الدول المتقدمة
صناعيّاً تستثير الدافعية للإنجاز عند أبناء الدول النامية، وتزيد طموحاتهم،
وتطلعهم على أنماط ثقافية جديدة ومعلومات جديدة تفيدهم في النمو.
رابعاً: يسعى أنصار نظرية الانتشار إلى الحفاظ على الوضع العالمي على ما
هو عليه، مع إجراء بعض التعديلات الوظيفية أو غير الجوهرية عليه، أما أنصار
نظرية التبعية فيذهبون إلى ضرورة تغيير النظام العالمي القائم على الرأسمالية
وانعدام التوازن والهيمنة الغربية الشاملة على مقدرات العالم، وهذا يعني إحداث
تغييرات بنائية في النظم الداخلية والدولية على كل المستويات.
خامساً: يرى أنصار نظرية الانتشار أن التغيير يبدأ من الداخل وبجهود
وطنية، وتتسع لتصبح جهوداً إقليمية، وتركز هذه الجهود على التنمية وإزالة
الحاجة إلى دول الغرب، وهم يرون أن مطالبة العالم الغربي بالتخلي عن مصالحه
وإلغاء النظم الرأسمالية، مطلب مستحيل وغير قابل للتحقق، وهذا ما توصلت إليه
لجنة ماكبرايد (رئيس اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال في العالم) [4] .
هذه هي أهم التوجهات النظرية بشأن تفسير ظاهرة السيطرة أو الهيمنة
الثقافية والإعلامية.
تقويم الاتجاهين إسلاميّاً:
وعند محاولة تقويم هذين الاتجاهين فإن النظرة الإسلامية الموضوعية
والمتوازنة ترفض الأساس أو المنطلقات الراديكالية التي تقف وراء نظرية التبعية،
كما ترفض المنطلقات الليبرالية والمصالح الغربية التي تقف وراء نظرية الانتشار
والتحديث الحضاري، فهناك النموذج والمشروع الحضاري الإسلامي بمنطلقاته
وأسسه وثوابته المستمدة من المنهج الإلهي المبني على وحي السماء، غير أن هذا
الرفض لا يعني الاتفاق مع هاتين النظريتين في بعض الأمور، وفيما يلي بعض
الملحوظات العامة بصدد الظاهرة المدروسة:
أولاً: يكشف الواقع عن ظاهرة التسلط الثقافي الغربي على أجهزة التلفاز
الوطنية والقنوات الفضائية التابعة للدول النامية والمتقدمة صناعيّاً في الوقت نفسه.
ثانياً: أن هذه السيطرة أمر مهدد للهوية الثقافية للدول النامية، ومن بينها
الدول الإسلامية والعربية.
ثالثاً: هناك العديد من المخاطر التي تهدد الدول المستقبلة للبرامج الغربية
للاتصالات، منها مخاطر اقتصادية وسياسية ودينية وثقافية، ومخاطر تتهدد برامج
التنمية داخلها، ولعل أكبر هذه المخاطر هي المخاطر الدينية والثقافية والتربوية
لأنها تؤدي إلى محاولة تغريب العقل العربي وعقول الناس في الدول الإسلامية،
الأمر الذي يفصلهم عن مصدر قوتهم وسموهم ورفعتهم وهو الإسلام وأسس
الشخصية الإسلامية.
رابعاً: توظف الدول الغربية المتقدمة صناعيّاً هذه البرامج بشكل مدروس
لضرب الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، حفاظاً على الاحتكارات والمصالح
الغربية.
خامساً: لا شك أن العوامل الداخلية التي تحدث عنها أنصار نظرية الانتشار
لها أهميتها الكبرى في تفسير هذه الظاهرة، ولا شك أيضاً أن البث المباشر له
بعض إيجابياته المتصلة بالتفاهم بين الشعوب والاحتكاك الثقافي ونشر المعلومات
ونشر العلوم والتقنية.. لكن سلبيات هذه الظاهرة (سيطرة الغرب على الاتصالات)
تفوق بكثير هذه الإيجابيات، ومن هنا يثار التساؤل حول مدى إمكان الإبقاء على
الإيجابيات والتخطيط لتجنب السلبيات الخطيرة التي تحدثها هذه الظاهرة، أو بقول
آخر: ما الحل أو الحلول المدروسة المخططة التي يجب أن تتبناها الدول الإسلامية
والعربية للقضاء على سلبيات هذه الظاهرة؟ هذا ما يحتاج لدراسات أخرى قادمة
إن شاء الله تعالى.