مجله البيان (صفحة 2013)

العلاقات والحصانة الدبلوماسية (3)

سياسة شرعية

العلاقات والحصانات الدبلوماسية

في الفقة الإسلامي والقانون الدولي

(?)

علي مقبول

تطرق الكاتب في الحلقتين الماضيتين إلى مفهوم التمثيل الدبلوماسي ومراحل

تطوره، ووضّح موقف القانون الدولي من الحصانات والامتيازات الدبلوماسية ذاكراً: الحصانات الشخصية والقضائية، والمالية، وعدم خضوع دار الوكالة للقضاء

الإقليمي.. وفي هذه الحلقة يذكر الكاتب موقف الشريعة الإسلامية من هذه

الحصانات.

- البيان -

موقف الشريعة الإسلامية من الحصانات والامتيازات

في القانون الدولي:

تمهيد:

الدعوة إلى السلام العالمي والتعايش السلمي من خلال العلاقات الدبلوماسية

تكاد تصم الآذان بضجيجها في هذا الزمان، بل لقد أصبحت لكثرة القائلين بها كأنها

الحق الصراح وما عداها هو الباطل بادي الرأي للذي لا يعرف الأحكام الشرعية.

أما من يفهم الكتاب والسنة ويتمسك بهما: فلا تزيده كثرة النداء بتلك

الشعارات إلا مقتاً لها ولأصحابها، لأنها دعوة مائلة عن نهج الحق.

وهذه الدعوة التي تنتشر اليوم إنما تنتشر وفقاً لمبادئ قانونية وضعية ما أنزل

الله بها من سلطان.

فالقانون الدولي العام الذي يتفرع عنه القانون الدبلوماسي، ويعتبر جزءاً منه، الذي أكدته اتفاقية (فيينا) 1960م، والذي وضعته لجنة القانون الدولي التابعة

للأمم المتحدة: يوجب أول ما يوجب على كل دولة: مراعاة أحكامه؛ كما أكدت

ذلك المادة الأولى منه.

وهذا غير جائز؛ فإن الواجب على الدولة المسلمة أن تراعي أحكام القرآن لا

أحكام القوانين الموضوعة من البشر [1] .

أولاً: الحصانة الشخصية:

اعترف العرب بأحقية السفير واحترامه وعدم إهانته؛ لأنه مبعوث من أمم

أخرى، ولما جاء الإسلام شملت الدولة الإسلامية السفراء الوافدين إليها بالأمان

والسلام مدة بقائهم في بلادها حتى يعودوا إلى أوطانهم، وعُرف عن الدولة

الإسلامية منذ نشأتها الحرص التام على تمتع السفراء بما يعرف في الاصطلاح

الحديث المعاصر للقانون الدولي العام بقاعدة الحصانة الشخصية.

ثم إنه من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية [2] قاعدة تأمين المبعوثين

على أنفسهم حتى يعودوا سالمين إلى من بعثهم من أمرائهم ودولهم.

واحترام حرية السفراء سبق الإسلام بها القانون الدولي الحديث [3] ؛ يقول

الله (تعالى) : [وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ

أَبْلِغْهُ مَاًمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ] [التوبة: 6] .

قال القرطبي: (وإن أحد من المشركين) أي: من الذين أمرتك بقتالهم،

(استجارك) أي: سأل جوارك، أي: أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن،

أي: يفهم أحكامه وأوامره، فإن قبل أمراً فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه، وهذا

مالا خلاف فيه [4] .

والممثلون الدبلوماسيون هم الذين يقومون بتمثيل دولهم، وقد يريدون أن

يتعرفوا على تعاليم الدين أو عقد معاهدة ونحوه، ولذلك ضمن الإسلام سلامتهم حتى

يعودوا إلى أوطانهم سالمين، ومعروف منذ القدم أن هؤلاء الرسل يعطون مزايا لا

تتوفر لغيرهم.

ثم إنه يثبت الأمان للرسول الموفد من قومه، أو دولته إلى الدولة الإسلامية

بمجرد أن يطأ أراضي الدولة الإسلامية.

قال السرخسي (رحمه الله تعالى) : وإذا وجد حربي في دار الإسلام، فقال:

أنا رسول، فإن أخرج كتاباً عرف أنه كتاب ملكهم: كان آمنا حتى يبلغ رسالته

ويرجع، لأن الرسل آمنة في الجاهلية والإسلام، وهذا لأن أمر القتال والصلح لا

يتم إلا بالرسل، فلابد من أمان الرسل ليتوصل إلى المقصود، ثم إن الرسول لا

يكلف بإقامة البينة على أنه رسول وإنما يكتفي بالعلامة، والعلامة أن يكون معه

كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم، فإذا أخرج ذلك فالظاهر أنه صادق، والبناء على

الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته ... وإن لم يخرج كتاباً أو أخرج

ولم يعلم أنه كتاب ملكهم فهو وما معه فيء، لأن الكتاب قد يفتعل وإذا لم يعلم أنه

كتاب ملكهم بختم وتوقيع معروف فالظاهر أنه افتعل ذلك [5] .

وقد ذكر أبو يوسف (رحمه الله) في كتاب الخراج: إن الحربي إذا قال: أنا

رسول الملك بعثني إلى ملك العرب، وهذا كتاب معي، وما معي من الدواب

والمتاع والرقيق فهدية إليه، فإنه يصدق ويقبل قوله إذا كان معروفاً، فإن مثل ما

معه لا يكون إلا على مثل ما ذكر من قوله إنها هدية من الملك إلى ملك العرب،

ولا سبيل عليه ولا يتعرض له ولا لما معه من المتاع والسلاح والرقيق والمال، إلا

أن يكون معه شيء له خاصة حَمَله للتجارة، فإنه إذا مر به فعليه العشور [6] .

وهناك كثير من الأدلة الواضحة على عصمة المبعوث أو الرسول واحترام

شخصه، وقد نص الفقهاء (رحمهم الله) في كتبهم على أن الرسل لا تقتل.

قال الأوزاعي: ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن لأن النبي-صلى الله

عليه وسلم-كان يؤمن رسل المشركين، ولما جاءه رسولا مسيلمة قال: لولا أن

الرسل لا تقتل لقتلتكما [7] ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا

رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة [8] .

وخلاصة القول: أن السفراء منذ القدم لا يتعرض لشخصهم بالإهانة أو

التضييق، وقد يحصل أن يمد السفير دولته ببعض المعلومات، وكذلك أيضاً يفعل

سفراء الدولة الإسلامية، إلا أن الفقهاء قرروا ألا يكون محض عمل السفير هو

التجسس أو الإفساد، فإن كان كذلك فإنه يُنبَذ إليه، أي: يبعد من البلاد ولولي

الأمر بما له من حق الرقابة على المستأمنين والرسل أن يلاحظ تحركاتهم ويراقب

نشاطهم وليس من الحكمة أن يركن إليهم، فإذا أحس منهم خطراً أبعدهم [9] .

ثانياً: الحصانة القضائية:

أما الحصانة القضائية التي تقضي بعدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي

للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل الجنائية أو المدنية أو

الإدارية، أما هذه الحصانة فإن التشريع الإسلامي يختلف فيها عن القانون الدولي،

فالمستأمن والسفير يسأل كل منهما مدنيّاً وجنائيّاً عما يرتكبانه من أعمال في بلاد

الإسلام [10] ، على أساس أن السفير أو الرسول يعتبر مستأمناً لدى الدولة

الإسلامية بأمان منحه الإمام، وهذا المستأمن بدخوله أرض الإسلام بعد إعطائه

الأمان يعتبر ملتزماً بأحكام الشريعة الإسلامية، ويسري عليه ما يسري على الذمي

من أحكام، فيعاقب الجميع في دار الإسلام دفعاً للفساد، ودفع الفساد واجب ملزم

لكل من يقيم بين المسلمين ولو مؤقتاً، والمجرم خاصة إذا كان إجراماً متعدّياً لا

يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته.

والحاصل: أن الأحكام الإسلامية تطبق على المستأمن فيما يتعلق بالمعاملات

المالية بالاتفاق، فإنه يمنع من التعامل بالربا، لأن ذلك محرم في الشريعة الإسلامية، وكل بيوعه ومعاملاته يطبق عليها النظام الإسلامي لأنه يتعامل مع المسلمين، فلا

يطبق عليه إلا شرع المسلمين، وذلك أمر بدهي، ولو كان التعامل بينه وبين ذمي

أو مستأمن فإنه خاضع للأحكام الإسلامية لا يحكم بغيرها، لأن السيادة للدولة

الإسلامية مفروضة على كل رعاياها.

وبالنسبة للعقوبات: فقد قرر الفقهاء أنه إذا ارتكب أمراً فيه اعتداء على حق

مسلم نزل به العقاب المقرر في الشريعة الإسلامية وطبقه الحاكم، وهو خاضع له،

وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمي أو مستأمن مثله، لأنه يجب إقامة العدل وإنصاف

المظلوم من الظالم مادام مقيماً في دار الإسلام.

وإن كان الاعتداء على حق من حقوق الله (تعالى) كالزنا، فإن جمهور الفقهاء

قرروا أخذه بالعقاب المقرر، إذ هو لم يجئ إلى ديار المسلمين ليسعى فيها بالفساد.

وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال: إن العقوبات التي تكون حقّاً لله وهي ما

تكون حماية خالصة للفضيلة أو يكون حق الله فيها غالباً كالسرقة لا يقام الحد فيها

على المستأمن، وإن كان يضمن السرقة؛ لأن الحاكم المسلم هنا ليس له عليه ولاية

كاملة، إذ إن إقامته مدة معلومة، كما أنه قد يكون رسولاً لدولة، والرسل لا

تقتل [11] .

إذن: الحصانة القضائية التي يخلعها القانون الدولي على الممثلين

الدبلوماسيين لا يعترف بها الإسلام، ولهذا فإنّ فقهاءنا (رحمهم الله) لا يعطون

السفراء امتيازاً زائداً يفضلون به المستأمنين الدبلوماسيين على المستأمنين العاديين،

والقاعدة العامة: أن المسلمين والمستأمنين عامة: سفراءهم، وتجارهم، وسياحهم، وجميع فئاتهم خاضعون للأحكام والأنظمة الجنائية والمدنية التي تفرضها الشريعة

في بلاد المسلمين، ولا يعفى غير المسلمين إلا من العقوبة المتعلقة بحق الله (تعالى)

في قول بعض الفقهاء كما سبق ذكره.

والرأي المختار في تطبيق الحدود على السفير أو الرسول الممثل الدبلوماسي

الذي يتفق مع أدلة الشريعة أن السفير أو المبعوث أو الدبلوماسيين عامة يجب أن

يلتزموا بأحكام الإسلام ماداموا مقيمين في الدولة الإسلامية؛ لأن الموافقة على

إعطائهم الأمان لم يتضمن قبول مخالفتهم لأحكام الشريعة.

ولا يُسوّغ مبدأ المعاملة بالمثل أو الحصانة التي تمنحها بعض الدول للسفراء

أو المبعوثين أن يخالفوا أحكام الشريعة الإسلامية في أرض الإسلام، وهذا ما لا

يجوز شرعاً، ولذا: يجب تطبيق الحدود والقصاص على كل مخالف لأحكام

الشريعة الإسلامية سواء أكان سفيراً أو غيره؛ نظراً للمفسدة التي قد تحدث من

تعطيل هذه الحدود.

ورب قائل يقول: كيف يتم هذا والدول قد اتفقت على إعطاء الحصانة

القضائية للدبلوماسيين؟

والجواب: أن اتفاق الدول لا يعطل أمراً شرعيّاً ولا حدّاً من حدود الله، لأن

المسلمين يجب أن يلتزموا بشرع الله ولا يعقدوا أي اتفاق فيه تعطيل لأحكام الإسلام، وقد نهى الرسول-صلى الله عليه وسلم-عن ذلك فقال: كل شرط ليس في كتاب

الله فهو باطل [12] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلح جائز بين المسلمين

إلا صلحاً حرم حلالا أو أحل حراماً [13] .

ولذا: فإن أي اتفاقية معاهدة لتبادل السفراء والمبعوثين أو للحصانة

الدبلوماسية تخالف شرع الله لا ينبغي أن يوافق عليها المسلمون، بل يجب أن

يعدلوها بما يتفق وشرع الله.

لذا: يمكن للدولة الإسلامية أن تعقد الاتفاقيات بشأن التبادل الدبلوماسي بينها

وبين الدول الأخرى، وتشترط في هذه الاتفاقيات أن تتم المعاملة بالمثل بحيث

تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، مقابل تطبيق قوانين الدول على السفراء المسلمين

بما لا يحل حراماً أو يحرم حلالا.

وفي هذا زجر ومنع للدبلوماسيين من ارتكاب الجريمة أو الإفساد في الأرض، ومدعاة لالتزامهم بأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية [14] .

ثالثاً: حصانة عدم خضوع دار الوكالة

ومحتوياتها للقضاء الإقليمي:

لم تكن في فجر الإسلام بعثات دبلوماسية دائمة، وإنما كانت بعثات دبلوماسية

مؤقتة للقيام بعمل معين يغادر بعده المبعوث أرض الإسلام إلى مأمنه بعد انقضاء

أجل الأمان.

ثم إن الإسلام لا يعرف حرماً آمناً إلا الحرمين الشريفين في مكة والمدينة،

فليس لدور الوكالات السياسية عنده هذه الحرمة الغالية التي تمس سيادة بلاده.

بيد أن الدولة الإسلامية كانت تستقبل السفراء في منازل خاصة تستضيفهم

فيها، مثل منزل رملة بنت الحارث بن سعد في المدينة على عهد الرسول-صلى

الله عليه وسلم-، والمنزل الذي كان يعرف باسم دار الضيفان ودار صاعد في بغداد

حيث كانت بمثابة دار للضيافة، وفي أواخر أيام العباسيين كانوا يعطون داراً

يسكنون فيها، أو ينزلون في مدرسة من المدارس، أما في دمشق فكانوا ينزلون في

دار الضيافة، وكذلك في القاهرة.

وكانت الدولة الإسلامية مع ذلك تسمح للسفراء بممارسة حريتهم الكاملة في

إقامة شعائر دينهم، حتى إن الرسول-صلى الله عليه وسلم-سمح لوفد نجران

النصراني بأن يؤدي شعائره الدينية في المسجد؛ قال ابن القيم (رحمه الله) بعد أن

ذكر قصة وفد نجران: ومن فقه هذه القصة:

1- جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.

2- تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم [15] ...

وذلك إذا كان هذا عارضاً، فلا يمكنون من اعتياد ذلك بإقامة الكنائس والمعابد

الدائمة.

هل يجوز للمبعوث الدبلوماسي إلى دار الإسلام منح الملجأ لغيره؟

سبق معنا أن هناك خلافاً في القانون الدولي في جواز إعطاء حق اللجوء

السياسي للفارين، وأن هذا الخلاف غير موجودفي دول أمريكا اللاتينية [16] ، أما

بالنسبة إلى الدول الأخرى فهناك نزاع بينهم، ولكن على فرض صحته، هل يجوز

للمبعوث الدبلوماسي في دار الإسلام أن يعطي الأمان لغيره من المستأمنين؟

الواقع أن ما يعطى للمبعوث الدبلوماسي من مزايا هي لتسهيل مهامه

ومباشرتها بكل حرية ومن باب المعاملة بالمثل، ومنح الأمان من الممثل الدبلوماسي

ليس من الأمور التي تدخل في اختصاصه، ولذلك نجد ابن قدامة (رحمه الله) يقول: ولا يصح أمان كافر وإن كان ذميّاً؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: ذمة

المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم [17] ، فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم،

ولأنه متهم على الإسلام وأهله فأشبه الحربي [18] . وقال ابن حجر في الفتح:

وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر [19] ، ومعنى ذلك: أن الفقهاء

اتفقوا على أن الذمي لا يعطي الأمان لغيره من المستأمنين، إلا ما روي عن

الأوزاعي أنه قال: إن غزا الذمي مع المسلمين فَأمّن أحداً، فإن شاء الإمام أمضاه

وإلا فليرده إلى مأمنه [20] .

ولأن من شروط الأمان: أن يكون المؤمّن مسلماً كما تبين من الحديث السابق، فلا يصح أمان غير المسلم، فإذا كان الأمان من الذمي لا يصح: فمن باب أولى

ألا يصح أمان الرسول الذي يدخل دار الإسلام لمهمة خاصة ثم يعود إلى بلده،

ولأن الأمان إنما أعطي له من أجل تيسير مهمته، ولأن الأمان ولاية ولا ولاية

للكافر على المسلمين.

رابعاً: الحصانة المالية للممثل الدبلوماسي

وموقف الشريعة من ذلك:

الحصانة المالية أساسها في القانون الدولي المعاملة بالمثل، أما في الإسلام

فإن الفقهاء قرروا إعفاء المستأمن الرسول من العشور التي كانت معروفة عندهم؛

قال أبو يوسف (رحمه الله تعالى) : ولا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الروم

ولا من الذي أعطي أماناً العشر إلا ما كان معهما من متاع التجارة، فأما غير ذلك

فلا عشر عليهم فيه [21] .

فالمقصود بالإعفاء من العشور هو ما يشبه الإعفاء من الضرائب [22]

بالنسبة لهؤلاء الرسل، وهذا موجود في كلام فقهائنا (رحمهم الله تعالى) :

قال الشافعية: ولا يؤخذ شيء من حربي دخل دارنا رسولاً.

وقال الحنفية: إنه لا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الكفار عشر.

وقال كثير من الفقهاء: وإذا كانوا لم يأخذوا من تجار المسلمين ولا من رسلهم

شيئاً لم يأخذ المسلمين شيئاً منهم أيضاً.

وإذا اشتُرِطَ ذلك للرسل فينبغي للمسلمين أن يوفوا لهم بشرطهم [23] .

وقبل أن ننتهي من موضوع التمثيل الدبلوماسي يتبادر إلى الذهن سؤال مهم هو:

ما حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في وقتنا الحاضر؟

نستطيع أن نقول أنه بناءً على ما قرره الفقهاء من وجوب تأمين الرسل أو

السفراء القادمين إلى الدولة الإسلامية فإنه لا مانع من إقامة علاقة سياسية دائمة بين

الدولة الإسلامية وغيرها، فمثلاً نجد ابن قدامة (رحمه الله) قد بيّن أنه: يجوز

إعطاء الرسول أو السفير الأمان وحق الإقامة دون تحديد ذلك بمدة معينة، فقال:

ويجوز عقد الأمان لكل منهما (الرسول والمستأمن) مطلقاً ومقيداً بمدة سواء كانت

طويلة أو قصيرة [24] .

فابن قدامة يرى جواز إقامة السفير أو الرسول في الدولة الإسلامية بصفة

دائمة أو لمدة محدودة بزمن طويل أو قصير، وهو ما يشبه الآن ما يسمى بالتمثيل

الدبلوماسي الدائم.

إلا أنه من الخير أن يفطن المسلمون اليوم لكثير من التسهيلات والامتيازات

التي تمنح للأجانب، فإنه من المُسلّم به أن أمن الدولة هو مجموع مصالحها الحيوية

والواجب على ولي أمر المسلمين أن يهتم بهذه المصالح، سواء أكانت سياسية أو

اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو معنوية أو أدبية، كما يعمل على مقاومة كل من

يعمل أو يحاول الحصول على المعلومات من الدولة الإسلامية عن تلك الأشياء، أو

القيام بمحاولات تهدد الأمة الإسلامية في كيانها أو أهدافها الحيوية أو التأثير على

معنويات شعوبها أو التشكيك في مبادئها وقيمها، خاصة بعض الدبلوماسيين الذين

يستغلون حصانتهم الدبلوماسية في تحقيق بعض الأغراض التي تمس أمن وسلامة

الدولة الإسلامية.

هذا وإن كان بعض فقهائنا (رحمهم الله تعالى) أجازوا عقد الأمان للرسول أو

السفير بصفة مطلقة وبدون تحديد مدة معينة، إلا أن ذلك مربوط بشرط مهم وهو:

أن عقد مثل هذه العلاقات الدبلوماسية الدائمة تخضع لتقدير ولاة الأمر وأهل الحل

والعقد، وأن يكون محققاً لمصلحة الدولة الإسلامية.

ومعروف لدى القارئ الكريم القاعدة الفقهية المشهورة القائلة: إن تصرف

الإمام على الرعية منوط بالمصلحة وقد نص الشافعي (رحمه الله) على هذه القاعدة

بقوله: منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم [25] .

الخاتمة:

وبعد هذا التطواف بين الحصانات الدبلوماسية في الفقه الإسلامي والقانون

الدولي، نريد أن نوضح الأمور التالية:

أولاً: في العلاقات الخارجية (التمثيل الدبلوماسي) : يهتم النظام الإسلامي

بالغايات الشرعية لهذه العلاقات، بينما نجد النظام الوضعي يهتم بتحقيق مصالح

بشرية متقلبة، وكما قال أحدهم: ليست هناك صداقات دائمة وإنما هناك مصالح

دائمة ولذلك تتأثر هذه العلاقات في الأنظمة الوضعية بتحقيق مصالحها فقط.

ثانياً: إن صياغة أهداف العلاقات الخارجية، يجب أن تتم في ضوء المنهج

الإسلامي، الذي حددته الأحكام الشرعية؛ فلا ينبغي لأي دولة إسلامية أن تضع

برامجها وأهدافها في غياب هذه العلاقات، بحيث تصبح كالأهداف التي تضعها أي

دولة أخرى، فالله قد أكرمنا بالإسلام وجعله منهجاً لنا، فمهما ابتغينا العزة بغيره

أذلنا الله.

ثالثاً: يجب إظهار التميز الإسلامي في علاقتنا مع غيرنا؛ لأن تميزنا هو

الذي يميزنا عن بقية الدول الأخرى، وإذا لم نتميز بما لدينا من عقيدة إسلامية

أصبحنا والدول الأخرى سواء.

أخيراً: إن المصالح المشتركة لا تبرر التنازل عن حكم من أحكام الإسلام

الواضحة، إذ إن هذه المصالح يجب أن تخضع لحكم الإسلام، ولذلك لا يقول قائل: إن المصالح تجعل المسلمين يتنازلون عن مبادئهم، فالمبادئ أسمى وأعلى من كل

مصلحة، ومصلحة الدين فوق كل مصلحة [26] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015