افتتاحية العدد
تمر الأمة الإسلامية في هذه الفترة بمرحلة دقيقة قد تحدد وضعها لسنوات
طويلة قادمة، فهناك مظاهر انبعاث إسلامي في كل أنحاء المعمورة، وهناك
محاولات وأد لهذا الانبعاث، ولهذا فإنه مما لا يدعو للاستغراب كون المسلمين
طرفاً مستهدفاً في معظم بؤر التوتر في العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لأن
أعداء الله في سباق مع الزمن؛ ولهذا نجد معظم أعمالهم ضد المسلمين تبدو وكأنها
تستبق شيئاً، وعند استعراض كثير من الأعمال نجد فيها الاستعجال والتوتر،
وإليك بعض الأمثلة:
1- ما يسمى بالعملية السلمية في الشرق الأوسط: لقد حاول اليهود في فترة
احتلالهم تذويب الفلسطينيين وجعلهم جزءاً من مجتمع الكيان الصهيوني يمثلون
مصدر العمالة الرخيصة، عماله تعمل وتكدح لتعيش عيشة الكفاف، ليس لها هدف
ولا يحدوها أمل، تبني المجمعات السكنية ليقيم فيها يهود الشتات، تزرع الأرض
ليُصَدّرَ الإنتاج ويلصق عليه (أنتج في إسرائيل) ، جموع تذهب وتجيء هدفها فقط
هو الحياة، نعم ... مجرد الحياة! ، ولهذا: فقد حاول اليهود حرمانها حتى من
الزعامة المصنوعة المتمثلة في منظمة التحرير. ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان،
لقد أصبح للجماهير هدف وأصبح لها زعامة نابعة من ذاتها، لها مبادئ غير
مستوردة أو مفصلة في بلاد الأعداء، وكانت الانتفاضة ميدان التنافس بين
الزعامتين والتوجهين؛ وهنا حصل الانقلاب وأصبح الرخيص غالياً، وبدا أن
ياسر عرفات هو السلعة الوحيدة التي أنتجتها الدول العربية واستوردتها إسرائيل،
وهذه أولى خطوات التطبيع.
2- لقد كان الغرب أثناء تهاوي المنظومة الاشتراكية يبشر العالم بعصر جديد
شعاره: حرية الاقتصاد، وتعددية الأحزاب، ونهاية عهد حكومات الحزب الواحد
الذي كان شاملاً في دول ما يسمى بالعالم الثالث، وكانوا يضغطون على الدول
للسماح بالتعددية، ولكن اكتشفوا أن هذا التوجه سيؤدي حتماً إلى قيام دول إسلامية
التوجه، فسرعان ما تغيرت المواقف وتم استثناء العالم الإسلامي، وأصبح الموقف
الجديد هو دعم الأنظمة القائمة بشرط واحد وهو: المشاركة في التصدي للعدو رقم
واحد للغرب حسب نظرية (صدام الحضارات) ألا وهو الإسلام، وقد اتخذ هذا
أشكالاً متعددة: فهناك دعم لنظام علماني صريح حساس تجاه أي شعار أو مظهر
إسلامي كما في تركيا. وأيضاً احتواء أحزاب شيوعية كانت تحكم المسلمين في
الجمهوريات باسم الحزب الشيوعي الروسي والسماح لها بممارسة السلطة بشروط
منها: التصدي للصحوة، وفتح البلاد للنفوذ الغربي، حتى إن أمريكا تحدد
لأذربيجان الخط الذي يمكن أن يمر معه خط أنابيب البترول الخاص بها. أما في
كثير من البلاد العربية فإن المواجهة أشد قسوة بسبب: أن تنامي المد الإسلامي
يمثل خطورة مباشرة على كيان اليهود في فلسطين، وأصبحت مواجهة التطرف
والأصولية بزعمهم هي عربون الولاء للغرب والحرص على مصالحه، ويكفي أي
نظام أن يعلن أنه قتل عدداً ممن يشتبه أنهم من المتطرفين (لاحظ من المشتبه) حتى
ينكس الغرب رايات حقوق الإنسان، بل وتنهال عليه الهبات والقروض ويحصل
على إطراء البنك الدولي أيضاً، بل إنه عندما تشكو دولة اليهود أن الإسلاميين
يحصلون على أموال من تبرعات المسلمين في أمريكا وأوروبا وغيرها: يتصدى
كلينتون للقضية ويصدر قراراته السريعة ويمارس ضغوطه على الذين لديهم القابلية
للانضغاط.
3- مطاردة العناصر الإسلامية البارزة المشردة في كل مكان تأوي إليه،
وتكثيف المتابعة لأي مشروع إسلامي ثقافي محض حتى لو كان مسجداً أو مدرسة،
ومحاولة إلصاق التهم الجاهزة التي لا يُقبل أن يعتذر عنها رغم ثبوت بطلانها، بل
وتنازلت أمريكا عن حقوق مواطنيها إذا كانت أصولهم إسلامية؛ فبينما يصل
اليهودي الذي لم يحصل على الجنسية إلا منذ سنتين على أعلى المناصب في البيت
الأبيض تبادر مخابرات بلد غربي إلى التقرب من أمريكا عن طريق اعتقال مسلم
يحمل الجنسية الأمريكية بدون أدلة تدينه إلا سحنته العربية و (سَمْتَه الإسلامي) .
4- مقاومة بروز أي كيان إسلامي جديد، وهذا واضح بيّن في حالة البوسنة
وكشمير والشيشان، ولن نسهب في مواقف الغرب ولكن لابد للمراقب أن يلاحظ
التناقض في المواقف؛ فمثلاً في حالة البوسنة كانت الأمم المتحدة والغرب يعلمون
بوجود معسكرات الاعتقال والتعذيب الصربية، وحرصوا على التكتم عليها حتى تم
كشفها عن طريق الصحافة، أما في الفترة الأخيرة: وبينما كان المسلمون يعدون
إمكاناتهم المتواضعة من أجل محاولة فك الحصار عن سراييفو، فقد بادر الغرب
بالإعلان عن الحشود المسلمة، بل وتبرعت أمريكا بإعلان عدد القوات المحتشدة،
أما الرئيس الفرنسي الجديد فإنه حذر المسلمين من الهجوم، هذا في الوقت الذي لم
نسمع فيه أي تحذير غربي من أي هجوم صربي، بل ولم تتفضل أمريكا بإعلان
حجم التعزيزات الضخمة القادمة من صربيا نجدة لصرب البوسنة في خرق صريح
للحظر الدولي الذي يبدو أنه مطبق بحزم فقط على جانب واحد: هو المسلمين.
كلمة أخيرة لابد منها، وهي: إن كل هذه الأعمال لن توقف المد الإسلامي
الذي هو قدر الله لهذا العالم، فكل أعمالهم وبذلهم سيكون عليهم حسرة في الدنيا
وندامة في الآخرة؛ قال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
لقد حاول الصرب القضاء على الإسلام في البوسنة، فتقدمت الصحوة
الإسلامية في البوسنة تقدماً هائلاً، وكانت أفعال الصرب عاملاً مهمّاً فيها. وأيضاً
لقد حاولت فرنسا وأذنابها وقف تقدم الإسلام في الجزائر؛ فحدث أن قامت الطغمة
الحاكمة بقتل آلاف الأشخاص وضاقت السجون على سعتها؛ فأقاموا المعسكرات في
الصحراء وملؤوها بالشباب المسلم، فماذا حصل؟ لقد دفع الشعب
الجزائري 000 ر40 قتيل حتى تقتنع الحكومة بالحوار مع جبهة الإنقاذ وتعود إلى نقطة الصفر! ! .
إلى كل المجاهدين إلى كل الدعاة المطاردين: اثبتوا فإن الله ناصر عباده
الصالحين، لا يفت في عضدكم قلة المعين وضعف الناصر، ولا يرهبنكم محاولات
التضييق والمحاصرة، فإن بعد كل عسر يسراً، وبعد كل ضيق فرجاً، ومن كان
الله معه كفاه، وسيرتد بإذن الله كيد الكائدين إلى نحورهم، وما أحرى بكل مسلم
وكل كيان إسلامي تكالبت عليه الأعداء وضاقت به السبل أن يستلهم العبرة من خبر
صحابي جليل لم يكن من قبله مشهوراً:
إنه خبر أبي بصير (رضي الله عنه) الذي عمل ما عمل من جهود لمضايقة
قريش، وأفلح في أن يؤدي دوره بكل جدارة كانت محل إعجاب الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، ما أحوجنا إلى تأمل قصص الأنبياء والصالحين كما وردت في
القرآن والسنة؛ ففيها عبر ودروس تهون معها ما يلاقيه الدعاة والعاملون للإسلام
من مضايقات وعوائق في الطريق، وصدق الله العظيم:
[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [المجادلة: 21] .