دراسات أدبية
أدونيس ... علامات التراجع! !
إبراهيم بن منصور التركي
بعد أن أوْهَت الحداثة اللبنانية قرنها بالنطح في صخرٍ صلد، لم يجد كبيرها
الذي علمها الشعر بدّاً من أن يعيد النظر في أقوال البدايات. فأدونيس الشاعر
الشهير الذي نفخ في تلك الحداثة من روحه تنبه بعد طول زمان إلى خطورة آرائه
الأولى الجريئة، فعاد يوائم بين ماكان وما يجب أن يكون. لقد كان أدونيس يمثل
في السابق حالة الرفض المطلق للانخراط في ترس المنظومة الجماعية،
والاستنكاف عن مجاراة المشروع السائد، وفي مقابل ذلك كان ينتهج نهجاً هروبيّاً
ينسحب وفقاً له إلى عالم أسطوري لا يمكن أن يوجد إلا في ذهنه.
بين أدونيس اليوم وأدونيس الأمس تبادر إلى ذهني عقد مقارنة مصغرة
تكشف مدى التطور والتغير الذي آلت إليها آراؤه اليوم، وكيف انسلخت عن بعض
أثواب أدونيس الأمس. ما الطريق الجديد الذي اختاره للتغيير؟ . وكيف كان ذلك؟ هذا ما ستقوله المقالة وتوضحه في السطور التالية، عن طريق استعراض موقف
أدونيس من: الدين، والقرآن، والتراث.
أولاً: الدين:
يقول أدونيس في ديوانه الصادر عام 1961م:
(لا الله أختار ولا الشيطان..
كلاهما جدارْ
كلاهما يغلق لي عيني..
هل أبدل الجدار بالجدار؟ ! !) [1] .
اصطدم الشعر الحداثي بصلابة التدين الشعبي الذي هاله أن يرى الألفاظ ذات
القداسة تمتهنها أبيات الشاعر الحديث، ومن ثم: لازم الشعر الحديث نعت الكفر
والتزندق والإلحاد. ويحاول أدونيس في أحد كتبه الجديدة الصادرة في 1993م أن
يقف عند مثل هذه الظاهرة عبر قصاصة ينقلها عن المجلة العربية (العدد 91، أيار
مايو 1985م) فهذه المجلة تصدر حكماً بالكفر والإلحاد على الشاعر الصديق الدكتور
عبد العزيز المقالح [2] هكذا يقول أدونيس وهو يحاول أن يبين طبيعة اللغة
الشعرية وأنها مجازية، فحين يقول الشاعر مثلاً: (صار الله رماد) ، لا يقصد
المدلول الحرفي المباشر الظاهر، أي: لا يقصد أن الله نفسه الذي يؤمن به المسلم
هو في ذاته صار رماداً ... الشاعر هنا يرمز بقوله هذا إلى حالة عامة من تراجع
أو غياب فكرة الله الواحد، وما تنطوي عليه من قيم وما تفترضه من سلوك، إنه
على العكس ينتقد هذه الحالة التي تتمثل في كون الممارسة الدينية السائدة تبتذل فكرة
الله المتعالية وتشوهها بحيث يبدو الله عبر هذه الممارسة كأنه أصبح رماداً،
والشاعر هنا مؤمن بالله كأبهى ما يكون الإيمان [3] ، وكذلك يحاول أدونيس تبرير
عبارة مماثلة وردت في شعره هو، إذ صرخ الجمهور لما سمع أدونيس يلقيها في
إحدى الأمسيات: لقد كفر [4] .
ليس الشاعر الجديد كافراً -كما يقول أدونيس- بل هو مؤمن بالله كأبهى ما
يكون الإيمان! ! . إن الشاعر الجديد وفقاً لرأي أدونيس السابق يرسخ مبدأ الإيمان
وينميه، كل غرضه أن (ينظّف) الممارسة الدينية السائدة من كل شوائبها
وتشوهاتها،، ولن أقف لأخالف أدونيس في فهمه (الجديد) لشعر المقالح، فهو فهم محتمل على أية حال على ما فيه من امتهان لفظ الجلالة.
ولكن هل يمكن أن يفهم شعر أدونيس الذي تصدّر هذه الفقرة فهماً مماثلاً؟ ! .
وهل يمكن أن يتبادر الفهم نفسه في قوله الآخر:
أعبر فوق الله والشيطان
دربي أنا أبعد من دروب
الإله والشيطان [5] .
إن أدونيس يؤكد في هذين المقطعين على فكرة الانعتاق من كل تشكل
أيديولوجي سابق إلهيّاً كان أم شيطانيّاً. إنه يختلق لنفسه أيديولوجيا خاصة تؤكد
فكرة الخصوصية والتفرد التي دندن حولها كثيراً. إنه رفض للدين والأيديولوجيا
برمتهما، هكذا كان أدونيس 1961، أما أدونيس 1993 ففي تعليقه على شعر
المقالح يظهر كيف أنه يحاول جاهداً سحب النص الشعري الجديد من براثن الكفر
والإلحاد، وحلحلته ليكون لبنة جديدة في جدار الإيمان، إنهما موقفان متباينان،
موقفان يعكسان تحولاً في الرؤية، وتراجعاً عن النهج التصادمي إلى محاولة
التقريب والتوفيق.
ثانياً: القرآن:
يؤلف أدونيس كتاباً جديداً يحمل في عنوانه إشارة الحديث عن النص القرآني، يأتي هذا الحديث في دراستين مطولتين كتبهما في ذلك الكتاب عن النص القرآني، بالإضافة إلى مقالات أخر لا تمت للعنوان بصلة، وهو يؤكد فيه على أن هذا
النص مفتاح لفهم العالم الإسلامي، ولن يفهم أحد المسلمين وتاريخهم إذا كان يريد
هذا الفهم إلا بدءاً من استيعاب هذا النص، والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه
وبين المسلم [6] . وبعد ثناء مطول يتحدث فيه أدونيس عن روعة البيان القرآني
وجماله البلاغي، يتحدث بعد ذلك فيما يزيد على أربع صفحات عن ترتيب الآيات، وجمع القرآن، ومراجعة جبريل للرسول مرة في كل سنة ومرتين قبل وفاة
الرسول، ويتحدث كذلك عن كتابة القرآن في عهد النبوة من قِبَل كتاب الوحي،
وجمعه في عهد عثمان.. إلخ، ويشعر أدونيس بأنه يعيد البدهيات المعروفة فيقول
من ثم معلقاً على ذلك: ربما اندفع بعض القراء بعد قراءة هذا كله وسأل: تلك
بدهيات، فلماذا تكررها علينا؟ ، وجوابي هو: أن كونها بدهيات هو بالضبط ما
يدفعني إلى أن أكررها، وليسمح لي أن أتابع فأقول: إن من البداهة لاستغلاقاً [7] .
ولا أحد يملك منع أدونيس من أن يتابع، ولكن قبل ذلك ليسمح هو بالقول:
إنه يلطّف آراءه الأولى ويبغي قتل احتقانها السابق عبر تكريس البدهي المعروف.
بغيته: محو تلك الصورة الشائهة التي ارتسمت لموقف ذاته من تلك البدهيات.
ثالثاً: التراث:
يقول أدونيس عن تشاؤم ديوانه (أغاني مهيار) المنشور 1961م: هو تشاؤم
رجل ينشد حلاً جذريّاً للمعضلات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي التي تحجب
كل آفاق جديدة، فمهيار، يدعو إلى ما أسميته في مكان آخر الهدم الجميل، الهدم
الكامل لإعادة البناء [8] . تلك هي الرؤية الأولى التي حكمت تصوره للتراث، لقد
كان يرى حتمية الهدم من أجل إعادة البناء، كانت دعوته الأولى: حرق التراث
قبل محاولة البدء بإنشاء مشروعه المعاصر؛ لقد قالها شعراً:
أحرق ميراثي، أقول أرضي
بكرُ، ولا قبور في شبابي.. [9] .
أما أدونيس الجديد 1994 فيحاول أن يتملص من دعوى التخريب التي
تضمنتها آراؤه أيام الشباب، يحاول التبرير في سيرته الثقافية التي كتبها، إذ يقول
عن دعوته إلى رفض التراث أو تجاوزه وتخطيه: وحين كنا نقول بالرفض أو
التجاوز أو التخطي كنا نعني على الأخص: رفض القراءات التي فهمت الأصول
بطرق لم تؤدّ إلى الكشف عن حيويتها وغناها، بقدر ما أدت إلى قولبتها
وتجميدها ... نعرف جميعاً أن معظم الذين تصدوا لقراءة التراث بدءاً من عصر النهضة قرؤوا القراءات ولم يقرؤوا الأصول، ومن هنا فشلها في تقديم فكر جديد أو فتح أفق جديد للبحث ... كنا في مجلة (شعر) لا نحلم بمثل هذه القراءة، قراءة الأصول نفسها برؤية جديدة، وإنما كنا نعمل لها ونمارسها [10] .
هكذا استبدل أدونيس بمنهجه النقضي (المثالي) منهجاً تلفيقيّاً (واقعيّاً) عماده
إعادة الترتيب، أدونيس 1961 الذي سعى إلى نسف الكل وتقويض التراثي القديم
ليقيم على أنقاضه الجديد، انتقل في 1993 إلى محاولة إبقاء القديم والدعوة إلى
عصرنته، عبر تطهير القديم من ترسباته العالقة وتكريره بصورة عصرانية جديدة
على حد قوله. لقد رأى ضرورة الاحتفاظ بشرعية الغطاء التراثي دون النفاذ إلى
عمائقه الباطنة، أي أن يستلّ من التراث نفسه ما يسوّغ مرئياته الجديدة، كل ما
يفعله هو القيام بصهر المعطيات التراثية في قوالب فكرية معدّة سلفاً، فيكون
التراث -من ثم- خَدَماً لتلك الأفكار الجديدة.
ولكن هل يعني هذا تراجعاً فعليّاً عن كل آرائه السابقة؟ .
يشير أدونيس إلى أنه انضم في مقتبل عمره إلى الحزب القومي
السوري [11] ، وأنه قرأ كتاب (الصراع الفكري في الأدب السوري) لأنطون سعادة (مؤسس الحزب) ، وأن هذا الكتاب كان صاحب الأثر الأول في أفكاره وتوجهاته [12] ، وهذا يعني أن أدونيس قد اعتنق أفكار هذا الحزب وآمن بها، فما الذي يدعو إليه الحزب القومي السوري؟ .. من أهم مبادئه:
القوميون السوريون يتميزون بالماضي السحيق الذي يمثله الفينيقيون،
بوثنيتهم وخمرهم وآلهتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولذاتهم ...
أزهى العصور في تاريخ سورية هو العصر الفينيقي.
عندما يتحدثون عن سورية فإنما يقصدون بذلك سورية الكبرى والتي تضم
سورية الحالية ولبنان والأردن وفلسطين.
فكرة الألوهية اخترعها الإنسان يوم كان رازحاً تحت سلطان الخوف والوهم
والخرافة.
نظرتهم.. مادية تنكر وجود الله والبعث والرسالات واليوم الآخر [13] .
إلا أن أدونيس لا يستمر على وئام تام مع الحزب، حيث اضطر في إحدى
مراحل حياته إلى أن يقول وبصراحة: (أنا أكبر من الحزب) ، وقد جرّت عليه هذه
المقولة لوماً عنيفاً ونقداً جارحاً جعلته لا ينساها [14] ، وكأن أدونيس في مقولته
هذه يتنصل من التطابق الفكري الكلي بينه وبين الحزب، متذرعاً بأن الحزب قد
توقف وجمد ولم يسع إلى تحقيق أهدافه.
ومثل هذا التحول في الانتماء قد يفسر سبب انحلاله من ربقة آرائه السابقة،
إذ يبدو أن انتماءه الحزبي السابق كان أحد الأسباب المؤثرة في آرائه الأولى، إلا
أنه بعد انسلاله من الحزب عاود النظر في تلك الآراء، وأحس بزيادة جرعتها
(التطويرية) عما يحتمله الواقع، ومن ثم: كان شروعه في التعذير والتبرير،
وهكذا إشارة تفيد أن أدونيس لا يتحول عن آرائه السابقة كنوع من التراجع
الانقلابي أو التوبة الفكرية، بقدر ما هو تغيّر في التكتيك والاستراتيجية التي تمكنه
من الإصابة الأمثل للهدف، إنه يبرم عقد مصالحة مع الواقع بعد أن تورط بآرائه
الثورية الأولى، يعقد تصالحاً مع الدين، تصالحاً مع التراث، تصالحاً مع الجمهور، تصالحاً مع النقاد، باختصار: الوصول إلى صياغة تصالحية بينه وبين النمطي
والسائد هو الهدف غير المعلن! ! . هكذا يضطر أدونيس أخيراً إلى الإذعان لضغط
الواقع واجداً أن ركوب ظهر السائد واستخدام آلياته هي الطريقة الأمثل لنقض
السائد وتغييره.
لقد تفاجأ أدونيس وبحركة ارتدادية عنيفة باستحالة اقتلاع الجذور المتعلقة
بالقرآن والدين والتراث، فهي ضاربة في عمق العقل العربي، وإزالتها تعني
ببساطة إزالة الخصوصية التي جعلت العرب عرباً والإسلام إسلاماً، لذا: كان
أدونيس على درجة من الوعي أفهمته ضرورة احتواء آرائه السابقة وتفريغها من
حمولتها الضدية، فهل إن أدونيس اختار التوقيت إذ بدا وهجه يخبو ويؤذن
بالانطفاء؟ . وهل إن هذا التحول سيكون وقوداً يذكي الوهج ثانية، ويعيد إليه
الوميض؟ . وإنْ، فإلى متى؟ ! ! .