المسلمون والعالم
بدعة جديدة
تفسير التاريخ أصولياً!
د. عبد الله عمر سلطان
العلاقة بين الغرب والإسلام تطرح نفسها هذه الأيام في صيغ تساؤلية متنوعة، وتكاد تكون هي أكثر المواضيع إلحاحاً وأبرز علامات الاستفهام انتشاراً، بل
وبحثاً عن الإجابة والشرح.
لم يعد الحديث عن الإسلام وعلاقته بالغرب اليوم موضوع بحث أكاديمي أو
دراسة استشراقية، لأن تتابع الأحداث وتشابكها يفرضان الدخول إلى الموضوع
عبر أكثر من بوابة وفوق جسور متعددة تصوغ واقع الحياة المعاصرة، وإن صح
ما قاله مراقب فرنسي اليوم من أن: أكثر من 80% من الأخبار التي تتعلق بالغرب
والعالم الثالث تصب في خانة الإسلام وعلاقته بالدول الصناعية، فإن الحديث عن
الإسلام كبؤرة اهتمام وملاحقة لا تحتاج إلى مزيد من البرهنة أو حشد الأدلة.
تهتم الدوائر الدولية والأمريكية خصوصاً بالحديث عن باكستان في هذه
المرحلة المهمة التي تتناول العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي، وهذا الاهتمام
قديم ومعروف، وقد بلغ ذروته إبان الحرب الأفغانية حينما ظهر واضحاً الشق
الإقليمي لهذه الدولة في الصراع الدولي، كما أن شعور الغرب القديم بأن باكستان
دولة إسلامية أصلاً؛ جعلها دوماً موضوعة تحت المجهر السياسي، لا سيما في
أوقات توجه الحكومة الباكستانية إلى إلغاء الفجوة بين شعار الإسلام وواقع الشارع
الباكستاني والقوانين والتشريعات المنظمة له.
وخلال السنتين الأخيرتين انكب بعض المراقبين والمحللين على دراسة
ظاهرة انتشار المد الإسلامي في باكستان، ومحاولة فهمه انطلاقاً من المقولة
الشهيرة: إن قوة الإسلام تكمن في بساطته وتعدد نشاطاته ومظاهره بين فئات
المجتمع، ويمكن أن يقال: إن أبرز نقاط قوة الظاهرة الإسلامية في باكستان ترجع
في نظر المراقبين الغربيين إلى عوامل مهمة، منها:
*تدين الشعب الباكستاني الفطري، وترسخ دور العلماء والمثقفين الإسلاميين
البارز في رسم التوجهات، وامتداد الشعور الإسلامي إلى المؤسسات المهمة من
خلال أفراد، لا سيما في الجيش الباكستاني، حيث ثبت لقادته أن باكستان تعامل
من كونها دولة مسلمة، وتحارب أو توظف من هذا المنطلق.
*التجربة التاريخية التي أثبتت أن باكستان مستهدفة لإسلامها؛ وذلك من
خلال: حروبها مع الهند، أو القضية الكشميرية التي ظُلِمت فيها باكستان بصورة
مجحفة، أو من خلال حرب أفغانستان ... وأخيراً: موضوع القنبلة النووية التي
حرمت البلاد من المساعدات الخارجية بسببها، بالرغم من مباركة الدول الغربية
لامتلاك الهند القنبلة النووية.
*التصريحات المتتالية لقادة الغرب المنادية بحرب الإسلام دون هوادة، ابتداءً
من طرح هنتجون الأكاديمي، ووصولاً إلى ترجمته السياسية الواقعية على لسان
ويلي كلاس أمين عام حلف الأطلسي، أو نيوت جنجرتش زعيم الكونجرس
الأمريكي.. عبارات من طراز: إن الأصولية الإسلامية لا يمكن وصفها إلا أنها
أخطر من الشيوعية كما ورد على لسان كلاس، أو: إن على أمريكا رسم سياسة
واستراتيجية شاملة لمواجهة الخطر الإسلامي كما صرح جنجرتش، هي التي تغذي
الكره للغرب وأدواته المحلية من رموز وأحزاب، وتشعر الباكستانيين أن ما يوحد
العالم ضدهم هو الإسلام.
*ضعف المؤسسات والشخصيات العلمانية، وارتباطها بطبقة من السياسيين
الفاسدين، واستجداء هذه الفئة من المعادين للمشروع الإسلامي لرجل الشارع من
خلال تقديم صورة (إسلامية) مقبولة، كما في نموذج بنازير بوتو التي اضطرت
إلى وضع (نصف حجاب) بدلاً من السفور التي كانت معروفة به، أو توقفها عن
مصافحة الرجال علناً! ، أو مشاركتها في مناسبات دينية، أو إصدارها تصريحات
قوية لمساندة قضايا إسلامية في البوسنة وكشمير، أو إخفائها لانتمائها الرافضي أمام
الجمهور السني العريض.
وإذا كان هذا وضع بنازير بوتو التي تعتبر ألمع الرموز العلمانية في باكستان، والمستندة على رصيد عائلي ودعم شعبي عريض نسبياً، فإن واقع الرموز
العلمانية الأخرى أضعف كثيراً، بل تعرض إلى مزيد من التراجع خلال العقد
الأخير.
*انكشاف واقع السياسيين الباكستانيين المغرق في الفساد والمحسوبية
واستغلال النفوذ سواءً أكان ذلك متمثلاً في حزب الشعب الحاكم برئاسة بوتو، أو
المعارضة برئاسة نواز شريف، وتلاحظ (الإيكونومست) أن الباكستانيين مجمعون
على أن طبقة السياسيين هم من محترفي الفساد ورعاية المصالح الخاصة، وأن
الأحزاب الكبيرة هي عبارة عن عوائل إقطاعية تملك المال وتستثمره في الحياة
السياسية لجلب مزيد من المكاسب، ولذا: فهم مستعدون لانتهاك مصالح البلاد في
سبيل مصالحهم الشخصية! ، وفي هذا السياق تتخذ الديموقراطية وسيلة لحفظ
نفوذهم، من هنا: يبرز الإسلام ورموزه كخلاص للملايين من الشباب والمثقفين
ورجال الأعمال، حيث تبرز من خلاله أخلاقيات ومُثُل يفتقدها أولئك الذين
يتاجرون به فقط، ولا يتبنونه ديناً شاملاً..
*تخلي الغرب وأمريكا خصوصاً عن باكستان بعد انتهاء الحرب الباردة
واندحار السوفييت في أفغانستان، وهناك شعور بين جميع الباكستانيين على مختلف
مشاربهم يدين هذا السلوك الانتهازي، الذي يوصف بالنفاق وحب الذات ويحرق
أوراق كل من يعتقد أن خلاص باكستان يكمن في علاقات متميزة مع (واشنطن) ،
وهو الشعار الذي ترفعه بوتو هذه الأيام بالتحديد.
أحداث كراتشي.. والقطيعة مع الذات:
على الرغم من أن أحداث (كراتشي) لم تنقطع منذ عام 1992م، إلا أن
الصحافة الغربية أبدت اهتماماً متزايداً منذ أن قتل دبلوماسيين أمريكيين يعملان في
القنصلية الأمريكية في (كراتشي) ، وعلى الرغم من أن حصيلة العنف جاوزت
(1200) شخص خلال عام 1992م، إلا أن تعامل حكومة بنازير بوتو معها كان
يمثل قطيعة كاملة مع المعنيين بالقضية، والتوجه مباشرة إلى واشنطن لتعزيز
مواقعها في الداخل عبر الدعم الخارجي.
فأحداث كراتشي تصلح نموذجاً لعرض الكيفية التي قررت بعض الحكومات
أن تتخذه لتضخيم المخاوف من الخطر الأصولي (حتى لو لم يكن هناك علاقة) الذي
يستهدف الغرب وفريقه المرتبط به محلياً.
المشكلة كما يقول دايفيد أولبرين أن (حزب المهاجرين) الذي يمثل 80% من
سكان المدينة لا يشعر إلا بالملاحقة والمطاردة ومحاولة فرض سيطرة حزب بوتو
على أكبر مدينة باكستانية، و (حزب المهاجرين) لا يمكن وصفه بأنه حزب
أصولي ألبتة، فهو يمثل المهاجرين إلى باكستان من الهند وقت التقسيم، وبحكم
كون (كراتشي) عاصمة ولاية السند التي كانت دوماً معقل عائلة بوتو، فإن بنازير
ظلت غير مكترثة بكراتشي وسكانها خصوصاً أن حزبها لم يكن يحظى بثقل
انتخابي في المدينة.. إنها مشكلة سياسية محلية ... بل مغرقة في محليتها
وأطرافها ... فماذا فعلت بوتو لحلها؟ .. تقول مراسلة مجلة (الإيكونومست) : إن بوتو ظلت تنظر إلى (كراتشي) نظرة الانتقام، وحينما كان يسقط عشرة قتلى في الأسبوع كانت تردد: إن سقوط عدة قتلى في اليوم أمر طبيعي، بل يجب أن ينظر إليه ببرود في مدينة بحجم (كراتشي) ..! !
سقوط عشرة قتلى في الأسبوع معناه أكثر من (500) قتيل في العام هو أمر
طبيعي جداً! ! ، لكن سقوط قتيلين أمريكيين قلب المعادلة.
اهتمت بوتو بالأمر أيما اهتمام، وبدأت تتحدث عن الفوضى العارمة التي
تجتاح المدينة، ولأن (الدم أمريكاني) فلابد هنا من بهارات ونكهات أصولية حتى
تكتمل الطبخة.. لقد اكتشفت بوتو أن (الأصولية) هي السبب، وأن أصابعها هي
التي تقف وراء أعمال العنف والشغب القبلية والقديمة، لذا: ناشدت أمريكا قائلة:
إنني مستهدفة وإياكم من الأصوليين، علينا أن نضع أيدينا بأيدي بعضنا البعض
لمحاربة هذا الخطر.. أنا بحاجة إلى مساعدتكم.
لكن الرد أتى سريعاً من أحد النواب الأمريكيين الذي علق قائلاً: ما دخل
أمريكا في لعبة (حزب الشعب) و (المهاجرين) ؟ ! صحيح أننا نحارب الأصولية،
لكننا لسنا أغبياء إلى درجة الاستغلال الممقوت أو تجيير حوادث مروعة لمصالح
أشخاص بعينهم، إن هذا الموقف لا يساند مواقف بوتو كما يقول مراقب بريطاني:
إن بوتو خلال زيارتها إلى أمريكا سمعت كلاماً معناه: أن كلينتون وإدارته لا
يمكنهم الاعتماد على حكومة ضعيفة لا تستطيع حفظ الأمن في شوارع أكبر مدينة
فيها ...
وهكذا لم تؤت الزيارة التاسعة والعشرون لبوتو ثمارها..، لقد سأل مراسل
(النيوزويك) بوتو عن سبب تجاوزها للرقم القياسي في عدد الزيارات الخارجية،
حيث قامت بثمان وعشرين زيارة رسمية خلال أقل من (18) شهراً، فردت بوتو:
إنني أسوّق باكستان للعالمية..، نعم تسوّق، أي: تعرضها للبيع، وتعرض دورها
كسمسار أو دلال متكأة على الخطر الأصولي، وتزايد عليه وتخلطه بكل حادث أو
فاجعة، بحيث يصبح التفسير الأصولي للأحداث نظرية جديدة تنافس نظرية
التفسير المادي للتاريخ لماركس، أو الجنسي لفرويد، بالرغم من أن الفشل
والانهيار هو مصير كل تفسير متعسف وظالم ومحارب لأبسط أبجديات المنطق،
فضلاً عن مصادمته لشرع الله.
في اليوم نفسه الذي كانت تفسر بوتو لأباطرة البيت الأبيض نظريتها، كانت
هناك تصريحات مشابهة تتحدث على لسان دكتاتور صغير أو كبير عن أهمية
الحرية والاستقرار وبشاعة الأصولية والتطرف، وتسوّق واقع شعوبها التعس من
خلال الأسلوب نفسه والمخطط ذاته: نحن نحميكم من التطرف، إذن: نحن وإياكم
في الخندق معاً.
فَهِمْنا إذن لماذا تكثر هذه الأيام الزيارات التسويقية إلى ضفتي الأطلنطي،
وعرفنا مصطلحاً جديداً في السياسة الدولية اسمه: تسويق الخوف من الإسلام
ورهن الشعوب والبلاد في مزاد صاخب مجنون، يرتجف من سماع الإسلام
باعتباره ديناً ومنهج حياة.
بنازير ليست الوحيدة التي تتاجر بهذه البضاعة الفاسدة.. لحظة تأمل قصيرة
أو التفاتة هنا أو هناك، تكشف أن المنافسة في هذه السوق مشتعلة في هذه الأيام!