من قضايا المنهج
الحلقة الثانية
[أساليب الحوار]
محمد محمد بدري
مدخل:
ذكر الأخ الكاتب في الحلقة الأولى أهمية وجود ضوابط للحوار، وذكر منها: السماع الكامل، وتجريد الأفكار، وترك المراء، والتغافر بين
المتحاورين، والصدق والوضوح في الفكرة والأسلوب، وضبط مسار الحوار
بالعلم والعدل، والمنطق العملي في الحوار، والوصول إلى هدف الحوار من
أقصر طريق وهو ما أطلق عليه: (الحجة الرأسية) .
وفي هذه الحلقة يتطرق الكاتب إلى أمر آخر في الموضوع، وهو (أساليب
الحوار) .
- البيان -
أساليب الحوار:
إذا كانت ضوابط الحوار تقرر الآداب والأخلاق التي يجب أن نلتزم بها في
كل حواراتنا، وتؤكد على هذه الآداب بإن.. فأساليب الحوار ترشدنا إلى كيف
نحقق ضوابط الحوار عبر مهارات نتدرب عليها وتكتيكات نمارسها في واقع
حواراتنا حتى لا تصل هذه الحوارات إلى طرق مسدودة أو تكون نتيجتها الوحيدة
هي زيادة الفرقة والتناحر..
ومن هذه الأساليب [1] :
(أ) الإعداد الجيد:
الإعداد الجيد للحوار: هو المقدمة العلمية لتمهيد الأرضيات الفكرية المشتركة
بين طرفي الحوار حتى تمر أفكارهم في اتجاهي الأخذ والعطاء دون اصطدامات
فكرية، أو كوارث عملية.
والإعداد الجيد يعني: إعداد المناخ العام للحوار، والإطار الواضح للتحاور،
من حيث: هدف الحوار، ونفسية المتحاورين، ونقاط التحاور.. ثم مراعاة ذلك
كله بدقة وحكمة قبل وأثناء وبعد الحوار:
1- هدف الحوار:
ربما لا يعرف بعضنا في أكثر حواراته إلا هدفاً واحداً هو سحق الآخر
وإفحامه بل وإذلاله وتلك كارثة حقيقة، فللحوار أهداف أخرى أهم وأنفع، منها:
- الحوار الاستكشافي: وهو يهدف إلى التعرف على أفكار الآخرين عن قرب، ومعرفة بواعث أعمالهم وحركاتهم، وهذا يتطلب إشعارهم بأن حوارنا معهم هو
تعبير عن حبنا لهم ورغبتنا في الانتفاع بخبراتهم والتفاعل معها والعمل من خلالها.
- الحوار التسكيني: وهو يهدف إلى تقليل هوة الخلاف مع الآخرين.. وهذا
يستوجب منا الصبر والتريث وتجاهل استفزازاتهم، بل والسماح باستفراغ كل
شحناتهم العاطفية دون ردود أفعال منا أثناء هذا التفريغ.. ثم إرساء بعض مبادئ
الحوار، وفي مقدمتها: أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
- الحوار التعاوني: وهو يهدف إلى الوصول لحلول لقضايا الخلاف بين
طرفي الخلاف، لتكون هذه الحلول مقدمة لتطوير علاقات التعاون بينهما، وتعميق
وتوسيع نطاق هذه العلاقات في مجالات جديدة.. وهذا يستلزم محاولة الوصول إلى
صيغة ترضي الآخرين عبر استقراء الخلفيات الفكرية والنفسية لهم.
- الحوار الحاسم: وهو يهدف إلى حسم الخلاف في الرأي بين طرفي الحوار
حول بعض القضايا، وتقريب خطوط الفكر بينهما إلى خط فكري واحد.. وهذا
يقتضي من المحاور عزةً في تواضع، وثباتاً على المبدأ في رفعه ولين، واستعلاء
بما يحمل من حق مع رحمة وشفقة بالآخرين.
2- نفسية المحاورين:
ترجع نسبة كبيرة من الحوارات الفاشلة إلى عدم معرفة المحاور للطرف
الآخر المقابل له معرفة دقيقة، لأن هذا الجهل يؤدي إلى سوء الفهم بكل تأثيراته
السلبية التي تصل إلى حد الانشقاق والفرقة! !
ومن هنا كانت المعرفة الدقيقة لنفسية الآخر وظروفه وبيئته واهتماماته
ومبرراته في التمسك بما يقول.. كل ذلك هو الطريق إلى تحديد الأسلوب المناسب
للتحاور معه، والمفتاح الصحيح لفتح قلبه والقرب منه وضبط أعصابه.
- النفسية اليائسة: وهي نفسية من تعرضوا لإحباطات مستمرة على طريق
العمل الإسلامي.. وأسلمتهم هذه الإحباطات إلى يأس مطلق من أي عمل، وهؤلاء
لا يتصورون عملاً يمكنه الوصول إلى التغيير للأفضل، بل ويكرهون من يحاول
القيام بأية محاولة إيجابية للتغيير، ويجدون متعتهم الحقيقية في رصد تجارب الفشل!!
ولا شك أن الحوار مع هؤلاء يتطلب الحذر الشديد لكي لا يضيع وقت الحوار
فيما لا ينفع، أو يدور التحاور دون الوصول إلى أعمال محددة تبنى على الحوار..
ومن هنا وجب على من يتحاور مع هذا الصنف من النفسيات أن يتحرى عدم
الخوض في أي أمر أو موقف من الأمور والمواقف التي سببت لهؤلاء إحباطاً في
يوم من الأيام، لأن هذه الأمور تستثير شهيتهم لترسيخ الإحباط واليأس.. وإنما
يكون التركيز في الحوار على ترسيخ اليقين بأن هناك دائماً ما يمكن عمله، وأن
كل عمل مفيد.
- النفسية المُصَنّفة: وهي النفسية التي تميل دائماً إلى تصنيف الآخر وتأطيره
بجهالة ودون تروٍ، بل وتعتبر الآخر عند أدنى مخالفة من معسكر الأعداء الذين
يجب التصارع معهم وسحقهم! ! ولا شك أن التحاور مع أصحاب هذه النفسية
يتطلب قدراً من الذكاء والحذر، ويقتضي إبراز أكبر قدر من مواطن الاتفاق بين
الطرفين في بداية التحاور، لأن ذلك يقلل فجوة الخلاف.. ثم استثمار الفرص
للتأكيد على خطأ تصنيفهم عبر إرسال رسالة فكرية تثبت حسن النية والحب للآخر، لأن ذلك يقلل الكراهية.. فإذا ضاقت فجوة الخلاف، وانحسرت حدة الكراهية من
الآخر، فلابد من الالتزام خلال الحوار بترك الفرصة الدائمة للمخالف ليرجع عن
أفكاره مع حفظ ماء الوجه.
إن من نحاوره ونخالفه في الرأي بطريقة صحيحة للحوار والخلاف لا يشعر
بالانهزام والإرغام، بل يشعر بفضيلة انكشاف الحق والرضوخ له دون إرغام من
أحد.
والحوار الناجح هو الحوار الذي لا يشعر فيه المتراجع عن الخطأ بالذل، كما
لا يشعر فيه الداعي إلى الحق بالغرور.
- النفسية المتصيدة: وهي التي يقوم صاحبها بتصيد الحروف والألفاظ دون
الاهتمام بمقاصدها أو إحسان الظن بقائلها.. وهذه النفسية وليس لنا مثل السوء
كنفسية الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمته.
وهكذا صاحب النفسية المتصيدة، يسمع منك ويرى المحاسن أضعاف أضعاف
المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد
بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله [2] .
ولا شك أن التحاور مع أصحاب هذه النفسية يحتاج إلى التذكير الدائم بأنه
ليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله
وتُجْتَنب [3] . مع التخلق بأدب الاعتراف بالخطأ إن وقع منا، وعدم الدفاع عن الأخطاء أو تبريرها، لأن ذلك هو السبيل إلى إقامة جسور التواصل مع أصحاب النفسية المتصيدة التي يجب أن يكون شعار الحوار معهم:
من الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
- النفسية الهروبية: وهي التي يسيطر على أصحابها فكرة أنهم لا يملكون
فعل شيء في مواجهة المتآمرين عليهم، فيدفعهم ذلك إلى الهروب من مواجهة
تجاربهم الفاشلة ومحاولة معرفة الأخطاء التي تسببت في الفشل، إلى تبرير هذه
التجارب بما يبرئ ساحتهم، ويضع المسؤولية على الآخرين الذين لا يكفون عن
التآمر ضدهم!
ولا شك أن التحاور مع هؤلاء يحتاج إلى دوام التذكير بأن العوامل الداخلية
في أي عمل هي التي تعطي العوامل الخارجية تأشيرة العمل والتأثير، وأن علينا
أن نتقن العمل بدلاً من أن نبرر الفشل، ونمارس عبودية الأخذ بالأسباب ضمن
ممارسة عبودية التوكل.. ونعلم علم اليقين أن أول خطوة في طريق ضرب تآمر
الآخرين هي التحرك بفاعلية وإيجابية في حدود الاستطاعة مع الحذر الواجب وعدم
اليأس.
وهكذا تحتاج كل نفسية إلى طريقة في الحوار تختلف قليلاً أوكثيراً عن
الأخرى، ومن هنا يصبح من الأهمية بمكان معرفة نفسيات الآخرين الذين نتحاور
معهم.. فإذا جهلنا من نتحاور معهم لأي سبب، فإن أسلوب جس النبض عبر أسئلة
عن أمر عام ليس لها علاقة مباشرة بموضوع الحوار قد تكسبنا بعض الخبرة عن
الآخرين، وتعطينا فرصة التعرف على أفكارهم ونفسياتهم من خلال ميولهم
وطريقتهم في الإجابة، بل وحتى من خلال نبرات أصواتهم في الرد وإشارات
أيديهم المصاحبة لها.
3- نقاط التحاور:
في غياب التحديد الدقيق لنقاط التحاور تتحول أكثر حواراتنا جدلاً عقيماً
سائباً ليس له نقطة ينتهي إليها.. لذلك فإنه من أهم خطوات الإعداد الجيد للحوار
معرفة نقاط التحاور، والبدء بالأهم منها، وترك غير المهم من فضول العلم والكلام
وغيره من الأمور التي تفرق بنا سبلها عن أصل الموضوع وأساس القضايا،
فيتبعثر الجهد ويضيع الوقت..
ولكي نحفظ جهدنا ووقتنا فإننا قبل كل حوار نقوم بإعداد نقاط التحاور إعداداً
جيداً، ونعمل في الوقت ذاته على تقليل المفاجآت الفكرية غير المتوقعة.. تلك
المفاجآت التي يكون لها آثار سلبية عميقة في سير الحوار، بدفعه إلى التشعبات
والتفريعات التي تمزق معها الموضوع الأساس ويضيق وقت الحوار عن مناقشته.
ولا شك أن الإعداد الجيد لنقاط التحاور يستوجب أن تكون لدينا القدرة قبل
الحوار أن نجيب على أسئلة من أمثال: هل هذه النقطة مهمة؟ وما مدى أهميتها؟
وهل يمكن التحوار حولها أو وتهميشها؟ وما موقفنا إذا رفض الآخرون قبولها..
إلى غير ذلك من الأسئلة التي تمثل الإجابة عنها الطريق إلى الحوار المثمر، ولا
يصل الحوار في غيبتها إلا إلى الطريق المسدود.
(ب) الصمت الواعي:
إذا كان السماع الكامل للآخر من أهم ضوابط الحوار، فإن الصمت الواعي
هو وسيلة هذا السماع التي تحقق منه الفائدة القصوى..
إن الصمت الواعي يستلزم قدرات خاصة لاستيعاب ما يقوله الطرف الآخر
وتخزينه في الذاكرة بصورة منظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب للحوار.. وهذا
يعني أن نعرف أثناء صمتنا: حتى متى يجب أن نسمع؟ ومتى يجب أن نتكلم؟
وماذا نقول إذا تكلمنا؟ .. فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل
وقت، وليس كل ما يقال في كل وقت يقال لأي أحد.. بل كما يقول الشاطبي
(رحمه الله) : ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة،
ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم
الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لايطلب نشره بالنسبة إلى حال أو
وقت أو شخص [4] .
وإذن: ففي بعض الأمور يكون الصمت هو الواجب، وفي أمور أخرى يكون
الكلام هو الواجب.. والصمت الواعي هو فن التوفيق بين واجب الصمت وواجب
الكلام.. وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها،
فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة،
فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن
كانت مما تقبله العقول، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم
يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري وفق المصلحة الشرعية
والعقلية [4] .
إن للصمت وظائف حوارية ضخمة حين يحسن استخدامه، أما حين يُساء
استخدام الصمت فيلتزمه المحاور دائماً وفي كل الأحوال، فإنه يعطي الآخر إحساساً
بعدم جديته، بل قد يحسب الآخر أن هذا الصمت لون من ألوان عدم الترحيب
وعدم التجاوب معه! !
وإذن: فلابد من اكتساب القدرة على الصمت الواعي الذي يحقق الوسطية بين
رد الفعل السريع الذي لا يُنْتِج إلا الخسائر الحوارية، وبين رد الفعل المتأخر الذي
يبدد الوقت والجهد دون فائدة.
(ج) التسلسل المنطقي:
في كل حوار ناجح يمثل التسلسل المنطقي المقدمة الأولى لهذا النجاح، ومن
هنا فإن من فقه المحاور الذكي أن يتسلسل فيما يقدمه للآخر تسلسلاً منطقياً يقدم فيه
الأسباب والحيثيات التي تؤدي إلى نتائجها في غاية اليسر والهدوء.. ولا يعني ذلك
أن يتسلحف المحاور بأفكاره أو يُبقي عليها في بيات شتوي متوقفة عن الحركة،
وإنما يعني أن يتلطف في تقديمها للآخر، فإن كان ثمة أفكار غريبة على نفس
الآخر وعقله فلا يفاجئه بها، بل يقدم بين يديها مقدمات تؤنس بها وتدل عليها حتى
لا تكون فتنة له؛ كما قال عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه
عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عروة بن الزبير: ما حدثت أحداً بشيء من
العلم قط لا يبلغه عقله، إلا كان ضلالة عليه.
فليس الناس طرازاً واحداً، والعقول تتفاوت، والأفهام تتباين، ولابد من
مراعاة هذا التباين وذلك التفاوت.
وتأمل ذكره (عز وجل) قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر
التشبيه وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته بين يدي قصة
المسيح وولادته من غير أب، فإن النفوس لما آنست بولد بين شيخين كبيرين لا
يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب [5] .
وقد راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحوال الناس وأفهامهم، فترك بعض
الأمور التي لا يدركها فهم الناس أو فهم بعضهم، فقال لعائشة (رضي الله عنها) : يا
عائشة لولا أن قومك حديثٌ عهدهم قال ابن الزبير: بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها
بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون [6] .
وإذن: فإنه لابد للمحاور من الاقتصار فيما يقول على قدر فهم الآخر، فقد
قيل بحق: كِلْ لكل عبد بمعيار عقله، وزنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه وينتفع
بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار [7] .
ولا شك أن مما يفيد في ذلك، ويسهل الطريق أمام المحاور لإقناع محاوره،
أن يضع المحاور نفسه مكان محاوره، ويحاول التفكير في القضية المعروضة
للحوار بمثل عقلية محاوره، والنظر فيها من نفس الزاوية التي ينظر منها.
فإذا فعل ذلك تحقق له بإذن الله الدخول إلى قلب محاوره بما يريد من أفكار،
وأدى حق العلم عليه، كما قال كثير بن عروة: إن عليك في علمك حقاً، كما عليك
في مالك حقاً، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا
تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك.
(د) التساؤل الهادف:
الأسئلة هي وسيلتنا لأهداف متعددة، فهي وسيلتنا للتعرف على الآخر ومنزلته
وعلمه، كما في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس: من القوم؟، وهي وسيلتنا للوصول إلى معلومة نافعة لترتيب أفكارنا أثناء الحوار، كما وقع
من ضمام بن ثعلبة حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من خلق السماء؟
ومن خلق الأرض؟ .. ثم استحلف بخالق هؤلاء على ما يريد التثبت منه.
والأسئلة هي وسيلتنا لتحويل موضوع الحوار إذا أردنا، وهي وسيلتنا لتنشيط
عملية التحاور، أو اختبار صحة بعض المعلومات، وإثارة تفكير الآخر.. إلى
غيرها من الأهداف.
ولأن الأسئلة بهذا القدر من الأهمية في عملية التحاور، فإنه من الضروري
جداً أن نعرف كيف نصوغ الأسئلة؟ ومتى نثيرها؟ وما هي أولوياتها؟ وما هو
النوع المناسب منها لما نريده من الحوار؟ ..
- أساليب التساؤل: للتساؤل أساليب متنوعة، فمنها أسلوب الأسئلة المغلقة،
ومنها أسلوب الأسئلة المفتوحة، ومنها أسلوب تتابع الأسئلة الذي يبدأ بالأسئلة
المفتوحة ليصل إلى الأسئلة المغلقة تماماً.
- فأما الأسئلة المفتوحة: فهي الأسئلة التي تسمح للآخر بالإجابة عن السؤال
من أي زاوية يريدها، وبكم المعلومات التي يحب ذكرها، مثل أن نقول: ما رأيك
في كذا؟ أو ما هي الوسائل التي تقترحها للإفادة من كذا؟ .
ومزايا هذا النوع من الأسئلة أنه يجعل الآخر يتكلم ونحن ننصت فقط،
فنحصل منه على أكبر قدر من المعلومات ونتعرف على الطريقة التي يفكر بها..
كما أن لهذا النوع من الأسئلة ميزة كبيرة، وهي أن الآخر لا يشعر معها بأي رهبة
أو صراع [8] ، ومن ثم: فإن هذا النوع من الأسئلة هو المناسب لبدء الحوار
وتحقيق الانسجام المبدئي بين طرفي الحوار.. والمحاور الجيد هو من يبدأ حواره
مع الآخر بمجموعة من الأسئلة المفتوحة والمحايدة والتي توحي للآخر أن درجة
قناعته بطرفيها متساوية، وبذلك يحقق هدفي التعرف على الآخر دون استنفاره،
وبالتالي: تحقيق الانسجام معه بصورة طيبة وتلقائية..
- وأما الأسئلة المغلقة: وهي الأسئلة التي تقيد الآخر بوضع الإجابة في إطار
محدد.. مثل أن نسأل: هل توافق هذا الأمر أو تخالفه؟ .. ما دليلك على
قولك؟ .. من قال بذلك؟ .. إلى غيرها من الأسئلة التي تميز بسيطرة السائل على الأسئلة
والأجوبة معاً، وبطريقة تمكنه من الوصول إلى هدفه من أقرب طريق.
وأما الأسئلة المتتابعة من الانفتاح إلى الانغلاق التام: فهي أسئلة متدرجة
يحاول بها السائل الوصول إلى أهداف تتفق مع ما يتبنى من الأفكار عبر الانغلاق
المتدرج الذي لا يسمح للآخر بالتفصيل في المواضع التي لا يريد فيها السائل إلا
الفكرة المجملة! !
ولا شك أننا لابد أن نتدرب على عدم الخضوع لهذا الأسلوب في الأسئلة،
ونتعلم كيف نتدخل أحياناً لصياغة السؤال أو التعليق عليه بصورة أو بأخرى حتى
يفهم الآخرين ما نقصد من الإجمال الذي نجيب به على الأسئلة المغلقة تماماً.
إنه من الضروري لنا في كل حواراتنا أن نسأل ونستوضح قبل أن نصدر
حكماً أو نرفض رأياً، ولا بأس بتنوع الأسئلة حسب الحاجة حتى يتضح لنا الأمر
جلياً.. ذلك أن العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل: حسن السؤال نصف العلم [9] . (هـ) فن الممكن:
في بعض حواراتنا قد تختلط لدينا الأمنيات بالإمكانيات، فندور في أحلام
أمانينا بدلاً من التقدم إلى معطيات واقعنا، وتضيع جهودنا الحوارية دون تحقيق
الممكن.. ولكي نتخلص من هذا المرض الحواري الخطير، لابد لنا أن نتعرف قبل
كل حوار على عدة بدائل للحوار، لنختار الممكن منها إذا فشلنا في تحقيقها جميعاً،
فإذا بدأ الحوار فليكن شعارنا: فن الممكن في حوار مستحيل.. لا نترك فرصة
تحقيق هدف صغير ممكن جرياً وراء محاولة تحقيق حلم كبير مستحيل! !
فإذا كنا نهدف من حوارنا إلى إقامة علاقات تعاون مع الآخرين، ولم نقدر
على تحقيق هذا الهدف لعلامات ظهرت في الآخرين من الانتصار للنفس، وحب
الغلبة والميل للمنازعة والمخاصمة.. فلنستثمر حوارنا في محاولة إيجاد علاقة طيبة
أو التعرف على مدى استعدادهم لإقامة علاقات التعاون في المستقبل.
فإذا فشلنا في ذلك أيضاً، ولم نقدر على اجتثاث جذور الخلاف بيننا وبينهم،
فلنحاول أن يكون هذا الخلاف في أضيق الحدود، ولنضع بيننا وبينهم قاعدة: إن
الخلاف في الآراء لا يصنع لقاء القلوب.
وهكذا نبقى حريصين على الإفادة من الحوار بقدر الممكن، ولا نطمع فيما
يستحيل.. فمن مشى من محاورينا معنا إلى نهاية الشوط فهو أخ لنا نسعد به، ومن
مشى قدراً يسيراً نقبل منه ذلك وندعو له بالجزاء الأوفى من الله.. بل كل من
أعطانا أي قدر من التعاون فنحن لا نستغني عنه.. ومن استطعنا تعديل مساره إلى
الأفضل فنحن لا نزهد فيه.
إن الناس تتفاوت أقدارهم وقدراتهم، ولا يستطيع إنسان تحقيق الفائدة من
جميعهم إلا أن يكون عمله في إطار فن الممكن.