مجله البيان (صفحة 1935)

المسلمون والعالم

الصهيونية واليهودية

د. محمد آمحزون

استقر تعريف الصهيونية في المصطلح السياسي على أنها: حركة يهودية

دينية سياسية تهدف إلى إعادة مجد إسرائيل بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وهي

تمزج بين السياسة والدين وتتخذ الدين ركيزة تقوم عليها الدعوة السياسية [1] .

كما جاء تعريفها بأنها: دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية تطالب بإعادة

توطين اليهود وتجميعهم، وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة

والغزو والعنف كحل للمسألة اليهودية [2] .

لقد تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي

سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل هيرش كاليشر (1795-1874م) في

كتابه البحث عن صهيون، وموشي هس (1812-1875م) في كتابه روما والقدس، وليوبينسكر (1821-1891م) في كتابه التحرير الذاتي.

ثم بدأت الصهيونية تتغلغل وتنتشر أكثر بين اليهود منذ عام 1881م عندما

اضطرت أعداد ضخمة منهم إلى النزوح عن روسيا على إثر المجازر التي تعرضوا

لها بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، وإلى قيام جمعيات أحباء صهيون

التي طرحت مسألة استيطان اليهود لفلسطين وغزوها عن طريق الهجرة كاحتمال

عملي، كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضاً عن

اليديشية، وقد تمكنت حركة البيلو من إيصال عشرين مستعمراً يهودياً عام 1882م

كانوا طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين؛ وأوجدوا عدة مستعمرات صهيونية شكلت

المراكز الأساسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة [3] .

إلا أن أحد أعضاء جمعيات أحباء صهيون البارزين وهو آحاد هاعام ذهب

إلى إعادة النظر في فكرة إقامة المستعمرات، وأخذ يركز على ضرورة الحفاظ على

القيم الروحية اليهودية، وأكد بأن طريق وقف الانحلال الروحي اليهودي في نظره

هو إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين يعيد لليهود حيويتهم ووحدتهم ويؤدي

في النتيجة إلى تحقيق الحلم القومي اليهودي، وسُميت صهيونيته بالصهيونية

الروحية [4] .

وبادر أنصار آحاد هاعام لأجل هذا الغرض إلى تشكيل جمعية بني موسى،

وتتلمذ على يده عدد من المثقفين اليهود [5] .

وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر: اعتنق صحفي يهودي من فيينا هو

تيودور هرتزل الفكرة الصهيونية على أثر موجة من العداء لليهود في أوروبا، وقام

بتأليف كتاب حول المسألة اليهودية شرح فيه تصوره ووجهة نظره لحل المسألة

اليهودية بعنوان الدولة اليهودية في عام 1895م [6] .

وبعد عامين من هذا التاريخ تمكن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول

بحضور (204) من المندوبين اليهود يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء

مختلفة من العالم، وتمخض هذا المؤتمر عن تحديد أهداف الحركة الصهيونية فيما

عرف ببرنامج (بال) ، وإنشاء الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج، وهي: المنظمة

الصهيونية العالمية، وقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية على أنه خلق وطن لليهود

في فلسطين بواسطة الهجرة وربط يهود العالم بهذا البرنامج [7] .

وتعتبر صهيونية هرتزل صهيونية سياسية لأنها حولت المشكلة اليهودية إلى

مشكلة سياسية وأوجدت حركة منظمة محددة الأهداف والوسائل [8] .

أما الصهيونية الدينية فقد اتخذت شكلاً تنظيمياً عام 1902م بقيام حركة

مزراحي تحت شعار أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة توراة إسرائيل،

وتحت شعار آخر التوراة والعمل، ويرى هؤلاء أن اليهود أمة متميزة عن غيرها،

لأن الله في زعمهم هو الذي أسسها بنفسه، وأن وحدة الوجود اليهودي تتمثل بالتحام

اليهود والتوراة وفلسطين، ذلك الالتحام الذي يفجر عبقرية اليهود، ولحركة

مزراحي هذه فروع في كل العالم، ويتبعها الحزب الديني القومي والعديد من مزارع

الكيبوتز والموشاف والكثير من المدارس التلمودية [9] .

وظهرت تيارات صهيونية أخرى مثل الصهيونية التنقيحية، ومن روادها:

جابو تنسكي الذي عرف هو وأتباعه بالتشديد على أهمية بناء قوة عسكرية صهيونية

كبيرة لغزو فلسطين وبناء الدولة اليهودية بالقوة، ويمثل حزب (حيروت) اليميني

بقيادة بيغن وشارون التيار التنقيحي داخل إسرائيل [10] .

ومن هذه التيارات: الصهيونية العملية التي كانت تطالب بالاعتماد على

الجهود الذاتية اليهودية والمباشَرة ببناء الوطن القومي لليهود. وكان وايزمان وابن

غوريون أهم دعاة هذا الأسلوب [11] .

ومنها: الصهيونية العمومية التي تستند إلى المطالبة بالمصلحة القومية

بصرف النظر عن الانتماء الطبقي، وقد نشط أصحاب هذا الاتجاه في تجميع المال

لتثبيت جهود الاستيطان اليهودي في فلسطين [12] .

ومنها كذلك: صهيونية الدياسبورا (الشتات) التي تتبنى الصهيونية الثقافية

فيما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل على أساس أنها مركز اليهودية الثقافي أو

الروحي [13] .

ومن هذه المدارس أيضاً: الصهيونية العمالية، أو الاشتراكية، ولعل أهم

تيارات هذه المدرسة هي مدرسة جوردون التي ركزت على فكرة اقتحام فلسطين،

وركزت أيضاً على العمل باعتباره وسيلة من وسائل التخلص من عقد المنفى

وصهر القومية اليهودية الجديدة [14] .

وجدير بالإشارة إلى أن العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية والتاريخية تشكل

الخلفية النظرية وقاعدة الارتكاز اليهودي في إسرائيل، بدءاً من الناحية التشريعية؛

كقانون العودة (1950م) الذي يقضي بحق كل يهودي في الجنسية الإسرائيلية،

مروراً بالقول: إن فلسطين هي موطن يهود العالم باعتبار الأقدمية والاستمرارية

التاريخية لمدة ألفي سنة، وإن يهود اليوم يشكلون على هذا النحو قومية تمتد إلى

آلاف السنين من التاريخ.

يقول الزعيم الصهيوني ديفيد بن جوريون: إن إسرائيل قد تكون أحدث دول

العالم، ولكن الشعب اليهودي له وجود عمره أربعة آلاف عام متتالية [15] .

ومن هنا: فإن توسع الكيان الإسرائيلي يجد تبريره الجاهز في مفهوم إسرائيل

الكبرى أو إسرائيل التاريخية في شعار من الفرات إلى النيل.

ومما لا شك فيه أن التيارات والمدارس الصهيونية المختلفة وإن تنوعت

أساليبها واختلفت وسائلها فهي تتفق في الجوهر، وتتبنى كلها نسقاً أيديولوجياً واحداً، وتتحد حول الهدف المرسوم، ألا وهو: حل مشكلة اليهود عن طريق استيطان

فلسطين بطريقة جماعية وإقامة دولة يهودية صهيونية.

فهذه المدارس كلها تبرر نقل اليهود إلى فلسطين بمعاذير مختلفة، لكنها تصبّ

في اتجاه واحد هو: تهجير الفلسطينيين بالقوة وإبعادهم عن طريق طردهم

ومصادرة أراضيهم، فنقل اليهود من المفهوم الماركسي يتم لأسباب أممية اشتراكية، وأما من المنظور الليبرالي فيتمّ لأسباب ديمقراطية وتاريخية، ولكن يظل الإجماع

قائماً رغم اختلاف القناعات الفكرية حول الفكرة الصهيونية ذاتها.

إن علاقة الصهيونية باليهودية علاقة عضوية حيث لا تنفك إحداهما عن

الأخرى، وبالتالي يمكن القول: إن الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة؛ وما

الماركسية والليبرالية إلا قناعان يستعملهما اليهود لتمرير مخططاتهم وخدمة أهداف

الصهيونية القريبة والبعيدة.

والدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعباً له صفاته وخصائصه المميزة يجده

شعباً شريراً، خائناً، ملتوياً، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصرياً، مغروراً،

جشعاً، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب

الأخرى [16] .

وهكذا: فالناظر في عقلية ونفسية القوم لا يجد على الإطلاق اختلافاً في

الصفات والخصائص بين اليهودية والصهيونية بوصفهما توأمين يتفقان في الأسس

والمبادئ والأهداف، وهي:

-المحافظة على تميز العنصر اليهودي.

-العمل من أجل العودة إلى أرض الميعاد.

-السيطرة على جميع شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الجنس اليهودي.

وعلى الرغم من الدعاية الواسعة التي نشرتها بعض الحركات الصهيونية في

أوساط الرأي العام العالمي حول اشتراكيتها وماركسيتها، فالحقيقة تبقى أن الشيوعية

بصفة عامة والمؤسسات الصهيونية العمالية أو الاشتراكية بصفة خاصة هي في

جوهرها العملي أدوات ومؤسسات لخدمة مصالح إسرائيل قبل قيام الدولة وبعدها.

ولعل ما يعكس بوضوح هذه الرؤية تيار اليهودي الصهيوني بورخوف الذي

حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكّد الأساس الطبقي

والاقتصادي للصهيونية، وخلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني وسيلةً

لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة الإنتاج أو الأرض المقدسة في

المصطلح التقليدي [17] .

وليس البناء الاقتصادي في إسرائيل إلا نتاجاً لنشاطات الصهيونية العمالية

الاشتراكية بالدرجة الأولى، فالهستدروت (اتحاد نقابات عمال إسرائيل) والكيبوتس

(المزارع الجماعية) والهاجاناه والبالماخ (منظمات عسكرية صهيونية) هي الأدوات

التي استخدمها الصهاينة الماركسيون في تحويل جزء من فلسطين إلى دولة

صهيونية، وهذه المؤسسات أوجدتها الصهيونية العمالية المرشحة منذ البداية لهذا

الدور، لأنها هي التي استقطبت يهود شرق أوروبا الذين تمّ تهجير بضعة آلاف

منهم وزرعهم في فلسطين، الأمر الذي عجز عنه تماماً الصهاينة السياسيون

والثقافيون والدينيون [18] .

ومن الواضح جداً أن اليهودي سواء أكان ماركسياً أم رأسمالياً إنما يؤمن بفكرة

رئيسة وهي العودة لأرض الميعاد لتأسيس دولة يهودية تعبّر عن الروح الخالدة

للشعب اليهودي، وهذه هي نقطة البداية والنهاية بالنسبة لجميع اليهود بغض النظر

عن انتماءاتهم الحزبية أو المذهبية التي ينبغي أن تكون في خدمة الأمة اليهودية أولاً

وأخيراً.

وقد تنبه كثير من اليهود لهذا الجانب في الأيديولوجية الصهيونية؛ فالحاخام

لانجلو يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة، وكل القيم الأخرى

إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق (الأمة) [19] .

ويقول موشي ليلينبلوم: إن الأمة كلها هي أعزّ علينا من كل التقسيمات

المتصلة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين، فعندما يتعلق الأمر

بالأمة يجب أن تختفي الطائفية.. فلا مؤمنون ولا كفار، بل الجميع أبناء إبراهيم

وإسحاق ويعقوب.. لأننا كلنا مقدسون، كل واحد منا، سواء أكنا غير مؤمنين أو

أرثوذكسيين [20] .

ولذلك فلا الماركسيون اليهود يصرون على ماركسيتهم؛ فحزب المابام

اليسارى مثلاً أيّد التدخل الأمريكي في فيتنام، ولم يعارض الاستثمارات الأجنبية

والخاصة في إسرائيل، ولا الليبراليون الرأسماليون يصرون على ليبراليتهم

ورأسماليتهم؛ فحزب الماباي يدخل في تحالف مع الأحزاب الدينية مطلقاً يدها في

كثير من جوانب الحياة في إسرائيل العلمانية! ! ، كما أن الأحزاب اليمينية لا

ترفض التحالف مع الأحزاب اليسارية، وتقبل بعض السمات الاشتراكية أو

الجماعية التي تتسم بها الحياة في إسرائيل، والجميع في حالة الحرب يقفون صفاً

واحداً إذا كان الأمر يتعلق بإبادة الفلسطينيين [21] أو شن حرب ضد الإسلام

والمسلمين.

كما أن التنسيق بين يهود الشتات يسير في الاتجاه نفسه نحو التكامل للسهر

على مصالح الدولة العبرية، فنشاطهم يمارس من خلال المساعدات المالية الضخمة

والأعداد البشرية الموجهة لدعم الدولة الصهيونية في إسرائيل؛ فوفق خطة محكمة

يقدم يهود أوروبا الشرقية وروسيا الدعم البشري، ويقدم يهود أوروبا الغربية

والولايات المتحدة الأموال والضغط الدبلوماسي من أجل مصلحة إسرائيل.

إن الخلاف بين العلمانيين والمتدينين الصهاينة هو خلاف أسلوب لا مضمون، إذ لا يختلفون في الأسس والمبادئ، كما يتفقون حول الغايات والأهداف لخدمة

إسرائيل وأمنها ومستقبلها.

ويمكن أن يتساءل المرء: لمن ولاء اليهود؟ ، إن الإجابة على هذا السؤال

نجدها في ثنايا كتابات وتصريحات اليهود أنفسهم؛ يقول وايزمان: إن في أعماق

كل يهودي صهيونياً كامناً [22] ، ورسم ابن جوريون صورة للمحامي اليهودي ...

الخالص الذي يلعب دوراً تخريبياً خارج وطنه القومي، ويعارض الدولة ...

وقوانينها.. أما داخل الوطن القومي فإنه سيلزم نفسه بغرس غريزة توقير الدولة ... والقانون واحترامهما [23] . ...

ويعتقد فيلسوف الصهيونية موشي هس أن اليهودي لا يمكن أن يفرّ من تميزه

وانتمائه للشعب المختار والمضطهد بقوله: عبثاً يختبئ هؤلاء اليهود العصريون من

مسرح جريمتهم وراء مواقعهم الجغرافية أو وراء آرائهم الفلسفية ... قد تقنّع نفسك

تحت ألف قناع، وقد تغير اسمك ودينك وطباعك، وقد تسافر حول العالم متخفياً

كي لا يكتشف الناس أنك يهودي، لكن أي إهانة موجهة للاسم اليهودي ستؤلمك

بحدة يفوق إيلامها ذلك الرجل المخلص ليهوديته المدافع عن شرف الاسم

اليهودي! [24] ، وهذه الرؤية للبعد الديني أو اليهودي في الصهيونية تنعكس في موقف مفكرين صهاينة آخرين مثل الأديب الإسرائيلي آهارون ميجد عضو حركة العمل الذي يعلق على هذه الظاهرة بقوله: ... لقد ذهبت نظرية (دين العمل) إلى سبيلها، وجاء دين آبائنا ليملأ المكان الخالي، هل هذا سيء للغاية؟ هل هذا أسوأ من الفراغ المطلق؟ ففي ليلة عيد الغفران على الرغم من كل هذا ستكون الشوارع هادئة ونظيفة، والسيارات لن تصرخ، وتغلق المطاعم أبوابها، ولن يدوي التلفزيون من كل نافذة، وسيسود الإحساس بالعيد كل شيء، وبدلاً من أن تتجول العصابات في المدينة، فإنه سيكون من الأفضل لها أن تدخل إلى المعابد لتستمع إلى الصلاة [25] . ...

ومن الملاحظ أن الرؤية الصهيونية للتاريخ تأثرت بالرؤية اليهودية القديمة

تأثراً كبيراً، حتى إنهما يتشابهان في البنية، فبوبر يرى أن تاريخ اليهود هو تاريخ

يتدخل فيه الرب، ويفرق بوبر بين التاريخ: التجربة التي تعيشها الأمم، والوحي: وهو التجارب المهمة الخالصة التي يعيشها الأفراد، ويرى أنه حينما يتحول

الوحي إلى أفكار يفهمها جمهور الناس ويؤمنون بها، فإنها تصبح عقائد، هذا هو

الوضع بالنسبة لسائر الأمم، أما بالنسبة لإسرائيل فالأمر جد مختلف؛ إذ إن ثمة

تطابقاً كاملاً بين الوحي والعقيدة والتاريخ، إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية

الحاسمة كشعب؛ فليس النبي وحده هو الذي تشمله عملية الوحي، بل المجتمع كله

على حد زعمه وإن مجتمع إسرائيل يعيش التاريخ والوحي ظاهرة واحدة التاريخ

وحي والوحي تاريخ [26] .

وهكذا يتحول اليهود في منظور الصهاينة كما هو الحال تماماً مع الرؤى

الدينية الإسرائيلية القديمة إلى شعب من الأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي

مستمر، ولذا: فاليهود بحسب تصور بوبر: أمة تحمل وحياً إلهياً عبر تاريخها

المقدس [27] .

ويقول نحمان سيركين الزعيم الصهيوني العمالي: إن الفيلسوف المتصوف

والمفكر الاشتراكي يتفقان على خصوصية التاريخ اليهودي وقدسيته كما يتفقان على

تداخل التاريخ المقدس والتاريخ الإنساني [28] .

وكما كان اليهود القدامى يرون أن تاريخ الشعب اليهودي محطّ اهتمام الرب،

وأنه مركز الحركة التاريخية، خلع الصهاينة المركزية والإطلاق نفسيهما على

تاريخ الشعب اليهودي؛ فالتاريخ الإنساني كله يدورحول الأمة اليهودية التي تقف

في وسطه لتجسد فكرة وجود الله التي تمثل حجر الزاوية في حركة التاريخ نحو

الخلاص كما يقول بوبر [29] .

وكما أن وجود الماشيح المنتظر أساسي لإضفاء معنى على التاريخ اليهودي:

فوجود اليهود في التاريخ الإنساني أساسي لإضفاء معنى على هذا التاريخ في الرؤية

الصهيونية؛ إن تأمين نظام العالم الذي يترنح بين عواصف الحروب الدموية

يتطلب بناء الدولة اليهودية، وبناءُ كيان الشعب وإظهار روحه هما عملية واحدة لا

يمكن الاستغناء عنها لإعادة بناء العالم المهتز الذي ينتظر القوة العليا الموحدة

الموجودة في تجمع إسرائيل المقدس [30] .

وهس العلماني له رأي مماثل شرحه في كتابه روما والقدس: إن تاريخ

الإنسانية أصبح مقدساً من خلال اليهودية [31] .

وخلاصة القول: إن الصهيونية واليهودية إنما تعبران عن فلسفة واحدة

متكاملة، وهي تتخطى الخلافات السطحية بين اليهود لتصل إلى البنية الفكرية

الكامنة وإلى النسق الأيديولوجي الواحد بغض النظر عن التنوع والاختلافات، وإن

العلاقة بينهما مركبة إلى حد بعيد، إذ إن الأفكار الأساسية للأيديولوجية الصهيونية

مستقاة من العقيدة اليهودية، وليس أدل على البعد اليهودي لدولة الصهاينة من اسم

دولتهم، وشعار حكومتهم، وشكل علمهم ذي اللونين الأبيض والأزرق لون الطاليت

(شال الصلاة اليهودي) تتوسطه نجمة داود، ويتحدث نشيده القومي عن عودة إلى

وطنه تذكّر المرء بالعودة إلى العصر الماشيحاني، واسم الدولة (إسرائيل) ، واسم

البرلمان الذي يجتمع فيه ممثلو الشعب اليهودي (الكنيست) أي: المعبد، والدستور

غير المدون عندهم الذي يعتبر التوراة هي الدستور الأعلى في إسرائيل، إضافة

إلى عشرات الرموز والشعارات الدينية التي استقاها الإسرائيليون الصهاينة من

تراثهم الديني في ميادين الحرب والسلام ومراحلها وأدواتها وعملياتها وآلياتها.

فإسرائيل بالمعنى الديني هي نفسها إسرائيل الشعب بالمعنى العرقي، وهي

نفسها إسرائيل الدولة بالمعنى الصهيوني، وكلها تجليات للجوهر نفسه.

وهذه الفكرة جديرة بالإشارة إليها وبخاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يدركون

المقومات التي تربط بين هذه المفاهيم الثلاثة، فيظنون أن ليس ثمة علاقة عضوية

بين الصهيونية واليهودية [32] .

إن ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود وهي الأرض واللغة

والتاريخ والعادات هي القاسم المشترك بين اليهودية والصهيونية، بصرف النظر

عن انتماء اليهود الحزبي أو الطائفي أو الأيديولوجي؛ ولذلك: فإن محاولة

الماركسيين العرب تجريد اليهود الماركسيين من خلفيتهم الصهيونية إنما هي محاولة

لتزييف الحقيقة، والغرض منها إبعاد كل شبهة عن المذهب الماركسي الشيوعي! ! .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015