مقال
سليمان بن عبد العزيز الربعي
ينتابُ المرء في أحايين كثيرة قلق غريب إزاء مستقبليات الدعوة إلى الله (جل
وعلا) ، مصحوباً بشعور متنامٍ بأنها لازالت بحاجة ماسة إلى ترشيد جانبها العميق
الملاصق لحال العاملين في حقلها.
وقد كان ثم جهود خيّرة أريد لها ملء هذا الفراغ والقيام بواجبه المهم، غير
أن القوالب الرئيسة في العمل الآني استحوذت على الاهتمام نظراً لبعدها الخطابي
من جهة، وروحها المتوثبة من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى سد المنافذ
لتطويرها وصرف نظر الدعاة عنها في وقت دعت الحاجة فيه إلى تربية شمولية.
وإن من جوانب التكامل في العمل الدعوي بخاصة إيضاح الرؤية وفق أطر
من الموضوعية والتجرد وإخلاص النية والقصد فيه لله (سبحانه وتعالى) ، مما
يساعد بإذن الله على تلافي الأخطاء وإيجاد البدائل المناسبة للوضع المراد إزالته،
سواء أكان في جانبها النظري غير المرتبط بتشريع أو في جانبها التطبيقي الذي
يمارس من خلال اجتهادات قابلة للصواب والخطأ، ولعل من قبيل تلك الأخطاء
الملاصقة لحال العاملين في نظري ما يحيطه الظرف المكاني والزماني، إضافة إلى
عامل المساندة الجماهيرية بتكويناتها المتعددة لأولئك الدعاة الأخيار من جوٍ مأهول
بكل ذرة من ذراته بالإشعار المكرور بمنزلتهم ومكانتهم وفضلهم.. إلخ، مجاوزاً
حدوده الشرعية إلى مرادات بعيدة عن هدي سلفنا الصالح، قريباً من نزغات
الغالين المجاوزين.. وبمجموع ذلك كله يخشى السابر لمجريات الأمور وجود
عينات ترفض محض النصح، وترد ملحوظات المعنيين، وصولاً إلى تأهيل
رموزهم إلى درجة من العصمة! لا تنبغي إلا لرسل الله (صلوات الله وسلامه
عليهم) قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، مبدين مفارقة عجيبة في واقعهم حين تبرز لديهم
روح الرفض لمبدأ العصمة في أولئك الدعاة في الوقت الذي يرفضون فيه إبداء النقد
المباين المتحرر! بل إنهم يتجاوزن ذلك بفرض تصنيف معين لذلك الناقد الملاحظ، من مثل: المثبط البعيد عن الساحة الراجم بالغيب المتصيد للأخطاء الناقد بلا
عمل الشانئ الحاسد وما شئت من هذه المنظومة، ويقيننا جميعاً: أن الدعاة إلى الله
(سبحانه) يرفضون هذا التوجه المؤسف، لكن بعضهم مقصر في البيان، والبعض
الآخر مقتصرعلى جانب واحد فقط في تربية الجمهور، على أن إبداء الخطأ للعالم
أو للداعية ومواجهته به بنية طيبة صافية ينال نصيباً من فرض العين!
إنّ الداعية المخلص يجب أن يكون ذا روح كريمة تعمل على تطبيق قناعتها
الراسخة: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا، ووجود مثل تلك العينات حول الداعية
ونحوها المطرد في الحقل بعموم: كفيل بإيجاد فجوة كبيرة تفصل الجمهور عن
الدعاة، بل إنه شعور موجود يبثه كثيرون عند الحديث عن مشكلات التواصل
الدعوي، وإذا كنا نسمع عن حرية التعبير التي يرددها خلق كبير من الدعاة
ويدعون إلى لون منها، فإنهم مطالبون أولاً بحمل القريبين منهم على هذا المفهوم،
من أجل تعامل أحسن في قابل الأيام والأعمال، وحتى يتيحوا الفرصة لكل حادب
ناصح مشفق ليقول ما تبرأ به الذمة.
اليوم يغيب هذا الوعي عن الكثيرين بدرجة متنامية، فلكل داعية جمهور من
المريدين يقابلون الملاحظ بعاصفة من السخريات الشامتة على موقعه الذي لا يحسد
عليه بين يدي ذلك العالم الداعية لمجرد تفوهه بملحوظة سيقت بقالب مهذب مؤدب،
بل يُلاحَق في حله وترحاله بوصمة المباينة عن المسار الرشيد الذي يتزكى به
الواصمون، وحين لا يكون النقد موجهاً لعَلَمهم تنثال عبارات المديح لقوة الملاحظة
وجودتها عند هذا الأخ الكريم والشيخ المبجل الحكيم! ! وبقدرة عزيز حكيم تندرس
تلك الوصمات، وتغيب هاتيك المعايب، بل وينسون ابن عساكر برمته وماذا قال!.
إن بين الموقف الأول والآخر المباين لحمة قوية من الجهل وضيق الأفق تكاد
تنسحب إلى توصيف عمومي.
وبين هذا وذاك ينشغل الحقل الدعوي كله إلا من رحم ربك منهم عن إيجاد
حل لهذا المزلق المتعاظم بحجة الرد على ملاحظ لبق، هم في نقاشهم المحتدم معه
ينفون عن ذاك الداعية قداسة العصمة، غير أنهم لا ينسون أبداً رد كيد هذا الشانئ
في نحره وإلغاء باطله بالوصمة! !