متابعات نقدية
في التحليل الشعري ...
دخان الصمت
أيمن علي
ما أجمل الشعر إن صدر عن نفسٍ شاعرةٍ، تتلمسُ مآسيَ واقعٍ مريرٍ يُزْجي
الحزن بنغمة تتسللُ لنفس قارئها، فيتحد القلبان وتتساقطُ دموعُ ألمٍ بين شاعرٍ عاش
لأمة سادَتً قروناً، وقارئ وجدَ بغيته في كلمات عرفها قلبه وعجز عنها لسانه.
وها هي قصيدة الأستاذ (عبد الوهاب الزميلي) دُخان الصمت تقفُ بالقارئ
على واقعٍ تُعُلّمَ فيه الصمتُ، وخِيفَ الكلامُ عنه، فبدَتً كلماتُهُ دخاناً تعبر عن
صمت خانق بشيء غير مرئي، خوفاً من فضيحة الكلمات في زمن صُودِرَتً الكلمةُ
فيه.
بدأ شاعرنا أبياتَهُ بثنائية النحات والمنحوت، فالنحات يمثل القوة المتصرفة
كيفما شاء ودونما مساءلة، والمنحوت يمثل العجز بتبعية مطلقة لا تعرفُ إرادةً غيرَ
إرادةِ صاحبها.
وإذا تأملنا الأفعال التالية في أبيات المجموعتين (أ، ب) (تحفر، ترقش،
تلون، تسرب، تسك، تسقى، تثقب، يخنق، نجد صفات هذا النحات الذي صب
جاهليته بكل معانيها في منحوتاته، حتى لا تَخْرِمَ منها شيئاً، فَنَقَشَ في الأحداق
حتى لا ترى إلا ما يريد، وأفسد الدم بالحبر فتغيرت المشاعر، فلم تَعُدً تمثل فكر
أمة، بل باتت تفكر في طعامها وشرابها فحسب، لأن النحات حفر في جماجمها فماً
حراّ! حراً يأكلُ ويشربُ ما يشتهي ويحب، يخلو من أي مبدأ أو عقيدة، وتفنن في
تزيين عظام الصدر ليخنق الإيمان إن استطاع ليجعله ليلاً يمحو به الفجر!
والنقش من أقوى وسائل النحات ثباتاً واستمرارية، وقرن معه الرقش
والتلوين ليزيده خداعاً وجمالاً.
وفي أحداقنا نقشوا وصبوا في الدم الحبرا
يدُ النحات تحفرُ في ... جماجمنا فماً حراً
ترقّشُ [1] في عظام الصدر ليلاً يقضم الفجرا
وبعدَ هذا الواقعِ الأليمِ والتغاير بين صفات النحات المبادر الدؤوب المغير
وبين صفات المنحوتات المستسلمة الضعيفة، ينقلنا الشاعر من تلك الثنائية
الصغيرة إلى دائرة التاريخ الواسعة بشقيها: شق الحق وشق الباطل، وبعبارة
أخرى ثنائية الصراع التاريخي بشقيه: شق يغوث ونسرا وشق معركة بدر التي
فرقت بين الحق والباطل، فشعور النحات بخطورة التاريخ الزاخر بموروثات الدين
والعلم والوعي، أملت عليه تزوير صفحات التاريخ حتى وإن اضطر لتغيير البحر
على ما فيه من صفاء واتساع ووضوح، بل حق وإن صوّر الألام أفراحاً،
والهزيمة نصراً والكفر إيماناً ...
تُلَوّنُ صفحةَ التاريخ ... والآلامَ والبحرا
ولم تَسْلَمِ الأطفالُ من يد النحاتِ التي غذتهم على مر السنين بأنه الشهم العفيف، ولم تَسْلَم الأزهار أيضاً على ما فيها من فطرة وجمال، فأبدلها بأشواك القبح
والهموم والشقاء، بل سقى الشوك خمراً إمعاناً في الضياع واستبدالاً لفطرة الله؛
يقول الشاعر:
تُسَرّبُ [2] في رؤَى الأطفال ... شهماً يخنق الطهرا!
تَسُكّ مسامعَ الأزهار ... تَسْقي شوكنا خمرا
ولما كانت الأمة ترى في معاركها ومنها معركة بدر النور والهداية والطريق
إلى الخلاص من الظلم، ثَقّبَ النحاتُ كل ذاكرة اتصلت بتاريخها ودينها ومبادئها،
لتبقى عارية عن الفكر كما أراد لها.
تُثقّبُ كُلّ ذاكرةٍ ... رأتً في بدرِنا البدْرا
وأما صفات المنحوتات فتوضحها الأفعال التالية في المجموعة الثالثة (ج) :
نجري، نعرى، تطقطق، تقرض، تنشج، نغمس ... من: سلب للإرادة
واستسلام، وخوف، بل جريان خلف الزور بجميع أشكاله ومعانيه من: نفاق
اجتماعي، واقتصادي، وتاريخي، وثقافي، وسياسي.
وَنَجْرِي في خِضَمّ الزور ... وفي أحضانه نعرى
فيوحي الفعل نجري بكثرة النفوس المريضة، والزور هو تزويق الكلام
وتحسينه في الصدر، فكم من غافل تسابق لقول الزور والعمل به من أجل حياة
تافهة دنيئة، كما توحي به كلمة نعرى، فالشقاء يسببه الناس لأنفسهم لطواعيتهم
المطلقة للنحات ومساعدتهم له.
ولقد تنوعت أماكن التغيير التي أحدثها النحات، ففي الأحداق، الدم، الجماجم، الصدر ... مما أدى إلى قطع الجسر؛ جسر العبور إلى التاريخ والتراث، الجسر
الذي يربط الأمة بدينها وحضارتها، وما تملك إلا النشيج كالصبيّ الذي يبقى بكاؤه
في صدره عجزاً وخوفاً.
وما كانت يدُ النحاتِ لتنجحَ لولا انغماسٌ في شهواتٍ زائلة زائفة، فاستنشق
الناسُ الذهبَ والفضة بدلاً من استنشاق الحرية التي نَعِمَ بها أجدادُهُمً قروناً.
تطقطقُ في مفاصلنا ... نِمالٌ [3] تقرضُ الجسرا
وتنشجُ في حناجرنا ... حروفٌ تلعقُ القهرا
ونغمسُ في مناجمنا ... معاطسُ [4] تنشق التبرا [5]
لقد أظهرتً الأبياتُ الغلبةَ للنحات، ورغم ذلك ما يزال الأملُ يحدو الشاعرُ
من بداية القصيدة، فيد النحات:
ترقشَ في عظامِ الصدر ... ليلاً يقضِمُ الفجرا
فالقضم: الأكل بأطراف الأسنان، عكسه الخضم: الأكل بالفم كله، فبين
الشاعر حرص النحات على إطفاء الفجر، ولكنه عاجزٌ لا يتخذُ وسيلةً سوى القضم، فالفجر ما زال مركوزاً في النفوس حتى وإن قُضِمَ أجزاؤُهُ، وكذا قوله:
تَسُك مسامعَ الأزهار ... تسقي شوكنا خمرا
فالسّكُ: التضييق والانسداد، فهو وإن ضيّق النور، وحاول منع الهداية فإنه
لم يستطع القضاء عليها.
وحتى مع استسلام المنحوتات جرياً وراءَ الزور، ومع سيطرة النحات على
الجوارح، نجد الأمل بين كلمات الشاعر حيث يقول:
تطقطقُ في مفاصلنا ... نِمالٌ تقرضُ الجسرا
والقرض: القطع، فقرضُ النملة مع كونه بطيئاً لا يكون هدماً شاملاً،
فالباطل وإن أثرّ في بناء الأمة عجز عن هدم كيانها.
وتأتي اللوحةُ الأخيرة من أبيات المجموعة (د) متمازجةً مع خيوطٍ ضعيفةٍ
سَبَقَتْ، لتتجمعَ في بوتقةِ أملٍ واحدةٍ تتضادّ مع سابقتها تجربة النحات بالإمكانات
والنتائج.
ويطوي في ثنايا الرمل ... نبضٌ ينبتُ الجمرا
يفض التل ينفذ في ... عروقِ الموتة الكبرى
يُدهدهُ ما تحنطه ... وتلقمه فم المجرى
حروفُ يغوث وارتجفتْ ... لتعبدَ ربها النسرا
فإمكاناتُ النحاتِ كبيرةٌ ومواهبه متعددة، ولكن سرعان ما تهدمت أصنامه
وسارت مع النهر لتصبح سراباً، لأنها لم تتبلورً من أفكارِ أمةٍ أو من تضحيات
أثرت في واقعها، وإنما هي زخرفات تعلمها النحات (يغوث) من ربه النسرا الذي
لا يضر ولا ينفع.
وأما إمكانات الأمة المادية فهي قليلة، ولكن رصيدها المعنوي متصل بأنبيائها، فمهما توارى الحق بالتراب فمن ثنايا الرمل مكان الرسالة الأولى تنبت حياة
الوعي، لتهدم ما تحنطه يد النحات فينتصر تاريخ أمّه قهرت أعداءها قروناً.