مجله البيان (صفحة 1903)

التنمية بين المشروع الغربي والمشروع الإسلامي (1)

هموم ثقافية

التنمية بين المشروع الحضاري الغربي

والمشروع الحضاري الإسلامي

(?)

أ. د. نبيل السمالوطي [*]

المفاهيم:

يمكن النظر إلى نظريات التنمية ومداخلها سواء أكان ذلك في الفكر الوضعي

أو الفكر الإسلامي على أنها اجتهادات يمكن الاتفاق أو الاختلاف حولها، وهذه

الاجتهادات تدور أساساً حول آليات وعمليات وأساليب ومضامين تغيير مخطط

يستهدف تحسين مستويات الحياة ورفع مستويات معيشة الناس وتحقيق أهداف عليا

وصورة معينة للمجتمع والعلاقات والتنظيمات والنظم الاجتماعية التي هي موضع

اختلاف بين نماذج التنمية المختلفة، وهي أشد اختلافاً بين المشروع الغربي

باتجاهاته المختلفة من جهة، وبين المشروع الإسلامي باجتهاداته المتباينة من جهة

أخرى.

ويقصد هنا بالاجتهادات الوضعية: تلك التوجيهات والنظريات والمداخل

والمناهج التي يطرحها بعض المنظرين لتحقيق التنمية الشاملة للمجتمعات اقتصادياً

واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً ... دون الاستناد إلى ثوابت عقدية أو أخلاقية أو قِيَميّة

أو تشريعية ترجع لوحي من السماء، وهي تحاول تحليل وتفسير ظواهر الفقر

والغنى، والتخلف والتقدم، والضعف والقوة، وتحديد منطلقات التنمية وآلياتها

وضوابطها وأهدافها استناداً إلى متغيرات واجتهادات حسية أو عقلية أو اجتماعية أو

تاريخية في حدود الخبرة البشرية وإمكانات العقل البشري، وفي ضوء فلسفات

التاريخ أو في ضوء نماذج وأهداف أيديولوجية بعيدة عن أي ثوابت أو مطلقات أو

حقائق لا تتغير.

وفي المقابل: يقصد بالاجتهادات الدينية: تلك الآراء والنظريات والمداخل

والمناهج التي تحاول فهم وتشخيص وتحليل متغيرات التخلف والتقدم والغنى والفقر

والقوة والضعف في إطار المنطلقات والثوابت والأهداف والضوابط الدينية، مع

الأخذ بكل جوانب التحليل العلمي والمنهجي المادي والاجتماعي والتاريخي

والاقتصادي والسياسي في إطار متغيرات التاريخ ومتغيرات العصر، وفي ضوء

المنطلقات الثابتة المتصلة بجوهر الإنسان والمجتمع، ورسالة كل منهما، والموقف

من التاريخ والثقافة، والموقف من عالمي الغيب والشهادة، وفي إطار نظرة تكاملية

للمعرفة من حيث مصادرها وطبيعتها وأنواعها، ودور كل منها في مسيرة الإنسان

والمجتمع، وفي ظل رؤية شمولية للعوامل والأسباب والآليات المؤدية إلى التقدم

والتنمية بكل أبعادها المادية والروحية والاجتماعية والسياسية، البشرية والكونية،

وفي إطار فهم وتفسير محدد للإنسان والمجتمع والتاريخ والعلاقات الاجتماعية سواء

أكان ذلك بين الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات أو الدول [1] .

والقول بوجود مشروعات أو نماذج من التنمية تستند إلى اجتهادات وضعية،

وأخرى تستند إلى اجتهادات دينية، يعني: أن كلا النوعين من النماذج يتضمن

إعمال العقل والتحليل العلمي والاستعانة بمصادر متعددة للمعرفة، ويعني: إمكانية

التعدد والاختلاف في مجال الاجتهاد القائم على منهجية التفسير والتحليل وبناء

الخطط استناداً إلى قواعد معلوماتية وفكرية ومنطقية، وإذا كانت الاجتهادات

الوضعية تستند إلى قدرات البشر وتستبعد الثوابت الدينية، فإن الاجتهادات الدينية

تستند إلى الثوابت الدينية سواء أكانت منطلقات أو آليات أو أهدافاً، ولكنها تؤكد

على أهمية الجهد الإنساني في الاستنباط والفهم والتحليل والوصول إلى النتائج

والأحكام، وينطبق هذا الأمر على علوم الدين والدنيا معاً التي ينظر إليها الإسلام

بوصفها علوماً إسلامية، فالعلوم التجريبية التي وجدت قبل الإسلام اختفت من حياة

الإنسان تحت وطأة عدة قوى، من بينها سياسات حكام الإمبراطورية الرومانية التي

ركزت على الحياة العسكرية والتنظيمات القانونية ولم تهتم بالعلم التجريبي، ومن

بينها السياسات الكنسية في أوروبا التي أكدت على استبعاد أي اجتهاد إلى جوار

كتابهم المقدس.

فضل المسلمين على الحضارة:

وكما يذكر ابن نباتة فقد تم وضع الكتب في الدهاليز ليأكلها الزمان، وعندما

أتى الإسلام، أنشأ المسلمون أول جامعة وهي بيت الحكمة، وتم إخراج الكتب من

الدهاليز، وقام المسلمون بترجمتها إلى العربية واستكمال ما نقص أو ضاع منها،

والتعليق عليها وشرحها، وتدريس الصالح منها، وتأليف العديد من الكتب،

والوصول إلى العديد من الاختراعات العلمية، وتقنين خطوات المنهج التجريبي

بشكل واضح [2] .

هذا بالطبع إلى جانب الوصول إلى علوم جديدة سواء أكان ذلك في مجالات

السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو التربية تستند إلى مبادئ الكتاب والسنة، أو في

مجال التجريب في بعض فروع العلم كالكيمياء والطب والرياضيات.. إلخ، وقد

نظر المسلمون إلى كل هذه العلوم على أنها علوم إسلامية، وقد أدى المسلمون خدمة

مهمة للعلم، وذلك بنقله من المحلية إلى العالمية، وقاموا بتطوير العلوم وتحديد

معالم المناهج، كذلك قاموا بمحاولة تقديم العلم المفصل للمتخصصين وتبسيط العلوم

للجمهور، وهذا العلم الذي نشأ وتطور وتقدم في ظل الحضارة الإسلامية وصل إلى

الغرب من خلال مراكز إشعاع ثقافي، مثل الأندلس وصقلية والشام وغيرها.

وترتبط حضارة الإسلام بالعلم ارتباطاً وثيقاً؛ لأن طلب العلم جزء لا يتجزأ

من العبادة، وطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وكانت أول كلمة في القرآن

الكريم هي اقرأ، وهنا يحق لنا القول: إن العلم النافع بكل فروعه يحتل موقعاً

رئيساً في الحضارة الإسلامية، وإذا كان الغرب ومشروعه الحضاري يركز الآن

على العلوم التجريبية التي أقامها على مرتكزات من العلم الإسلامي فالفارق كبير

بين موقع العلم في المشروع الحضاري الإسلامي وموقعة في المشروع الحضاري

الغربي؛ فرق في المنطلقات والغايات، وفرق في الضوابط والآليات، وفرق في

التوجيه والتطبيق؛ فالمنطلقات عند المسلمين عبادية؛ أي: تنفيذ إرادة الله وأوامره

في النظر في الكون والآفاق، وفي الأنفس، وفي التاريخ والمجتمع وهي كلها

مخلوقات لله من أجل الوصول إلى السنن أو القوانين التي تحكم هذه المخلوقات،

وهذا يفيد من جهتين: الأولى: تعميق الطاقة الإيمانية عند الإنسان، فالتعمق في

العلم يؤدي إلى مزيد من الخشية لله [إنما يخشى الله من عباده العلماء]

(فاطر: 28) . الثانية: الانتفاع بهذه المعرفة في التطبيقات العلمية (التقنية أو الصناعية) الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون المجتمع المسلم هو الأقوى اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً وسياسياً وعسكرياً ... وهو شرط رئيس للقيام برسالة الإنسان والمجتمع المسلم في إعلاء كلمة الله والدعوة إليه وتأمين سبل الدعوة الإسلامية ومحاربة طواغيت الأرض وإقامة العدل والقضاء على الظلم، والنصوص كثيرة من الكتاب والسنة في هذا المعنى؛ منها قوله (تعالى) : [قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون] [الزمر: 9] وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- فضل العالم على العابد، وأوضح أن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يفعل.

وهذا هو ما أدى إلى ازدهار الحضارة الإسلامية وإلى إبداعات العقل المسلم

في كل مجالات العلوم الشرعية والكونية والاجتماعية والأدبية والإنسانية، وهذا هو

ماحدا بملوك أوروبا في عصر النهضة إلى إرسال مجموعات للحصول على الكتب

الإسلامية لترجمتها إلى اللغات الأوروبية، ليس فقط في مجالات العلم الطبيعي

والاجتماعي ولكن أيضاً في مجالات العلوم الشرعية كذلك، وكانت هذه هي نقطة

انطلاق الحضارة الغربية في مجال العلم التجريبي بشقيه النظري والتطبيقي، وهو

العامل الرئيس في التقدم العلمي والاقتصادي والتقني الحالي في الغرب.

وإذا كانت النماذج الدينية والوضعية في التنمية تنطلق من مشروعات

حضارية متباينة أو متصادمة من حيث المنطلقات والغايات، فإنه يتعين علينا أن

نتفق على مفهوم الحضارة، فالحضارة بوصفها خلاصة الخبرة والتراكم المعرفي

والتربوي والإبداع البشري والضوابط الإصلاحية لها جانبان:

أولاً: الجانب المعنوي: يتمثل في المعتقدات والقيم والأخلاقيات والضوابط

الدينية والمبادئ والأطر الفكرية والرؤية العامة للكون والحياة والإنسان والتاريخ

والعلاقات بين البشر، أفراداً وجماعات ودولاً.

ثانياً: الجانب المادي: المتمثل في المستوى العلمي التجريبي ومستوى التقنية

والمستويات الاقتصادية المادية لأبناء المجتمع.

والحضارة هي محصلة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة، وهي محصلة

التفاعل بين الدوافع والرغبات والتطلعات والأعمال والشهوات الإنسانية من جهة،

وبين الضوابط والمعايير التي تحكم حركة الإنسان في إشباع هذه الشهوات،

وتوجيه الدوافع، وأساليب توظيف نتاج هذه الدوافع والشهوات والأعمال الإنسانية

من جهة أخرى، وهي محصلة التفاعل بين الغايات النهائية والإمكانات والإبداعات

والجهود الإنسانية للوصول إليها، فالحضارة إذن هي تفاعل بين عاملين: الأول

يتصل بالقيم والمبادئ والموجهات العقدية المنهج والنماذج السلوكية والفكرية التي

تحدد ما هو مرغوب فيه وما هو متسامح فيه وما هو مرغوب عنه، وبين الواقع

المادي بمغرياته المادية وما فيه من أدوات وأجهزة هي وسائل إشباع الحاجات

الإنسانية المتزايدة والمتغيرة [3] .

إشكاليات النموذج الغربي في الحضارة:

والحضارة في المشروع الغربي هي حضارة ترتكز في منطلقاتها وآلياتها

وأهدافها على الجانب المادي في الحياة، وحتى بالنسبة للمبادئ العليا والقيم في

الغرب فهي موظفة لخدمة الأهداف المادية، فإذا كان المشروع الحضاري الغربي

يعلي من قيم وممارسات: الديموقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وإعلاء قيمة

العقل والتفكير العقلي، والاحتكام للمنطق والسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لخدمة

الإنسان.. إلخ، فإن هذه المبادئ المتفق على أهميتها وضرورتها ليست مسخرة

لحماية الإنسان بذاته، وإنما لحماية المصالح والصفوات الغربية مقابل الجماهير،

وحماية المجتمعات الغربية مقابل المجتمعات الأخرى، وهذه القيم التي يرفع

المشروع الغربي شعارها ويجعل منها سيفاً مسلطاً على العالم الثالث، يؤكد أغلب

الباحثين في العلوم الاجتماعية في الغرب وبعض مفكري العالم الثالث أن هذا

المشروع الغربي يمثل بها قمة صور وحالات التنمية التي يجب على كل دول العالم

الثالث السعي لتحقيقها، هذه القيم والمبادئ هي مثاليات غير متحققة حتى في الغرب

نفسه؛ فالحكم في الولايات المتحدة ليس ديموقراطياً وإنما هو حكم صفوة القوة على

حد تعبير س. ر. ملز C. R. MILLS في كتابه بعنوان صفوة القوة The

Power صلى الله عليه وسلمlite [4] ، وحقوق الإنسان غير مطبقة فعلياً في أمريكا بدليل استمرار

التمييز العنصري والصراعات العرقية في أوروبا وأمريكا، وزعماء الغرب

يؤكدون أن إعلان حقوق الإنسان لم يوضع لسكان إفريقيا السوداء، وهذا ما أعلنه

أحد رؤساء الحكومة الفرنسية وهو جون فيري [5] ، وموقف الغرب من مسلمي

البوسنة والهرسك يعكس حقيقة فهم حقوق الإنسان في الغرب، ونفس الأمر تعكسه

ثورات وتمرد العرقيات المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ومن بينها ما

حدث منذ سنتين تقريباً في لوس انجلوس، ونفس الأمر أيضاً يعكسه موقف

ومؤامرات الغرب ضد حركات التحرر في العالم الثالث، سواء أكانت اقتصادية أو

سياسية، ويتضح من موقف الغرب من الإسلام والمسلمين ويتضح هذا في العديد

من المشروعات الفكرية العلمية مثل مشروع كاميلوت، كما يتضح من موقف

الغرب من تجارب الديموقراطية في دول العالم الثالث مثل تجربة الجزائر، كما

يتضح من موقف الأوروبيين حالياً من المستوطنين العرب والمسلمين في دول

أوروبا مثل فرنسا وألمانيا.. إلخ، وهو موقف يعكس العداء وعدم الإنسانية.

هذه الإشكاليات في المشروع الحضاري الغربي، هي إشكاليات موضوعية

يثيرها كتاب ومفكرو الغرب أنفسهم الذين يرون أن المشروع الحضاري يعلي من

قيمة الاستمتاع المادي والرفاهية في مقابل القيم الأخلاقية، وهذه الحقيقة أدت في

التطبيق إلى العديد من الإشكاليات التي تبرزها بشكل موضوعي الإحصاءات

الغربية التي أوردها فهمي هويدي في مقال له بالأهرام بتاريخ الرابع من أكتوبر

سنة 1994م من واقع المصادر الرسمية في الغرب التي توضح أن 40% من

الأطفال غير شرعيين (في الولايات المتحدة) و60% من الأزواج لا يعيشون مع

زوجاتهم، وأن عشرة آلاف أنثى دون الثامنة عشر تم اغتصابهن سنة 1992م في

مدينة واشنطن وحدها، منهم 3800 دون الثانية عشر، وأن 20% من هؤلاء

الأخيرات تم اغتصابهن عن طريق آبائهن، و26% عن طريق الأقارب، وأنه قد

تم رصد 30 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة الجريمة، ويجند

لهذا العمل 000ر100 رجل شرطة [6] .

أهم جوانب الاختلاف بين المشروع الحضاري الإسلامي

والمشروع الغربي:

أما عن المشروع الحضاري الإسلامي فهو مشروع متوازن يعكس فطرة

وحاجات الإنسان، ويحقق أقصى درجات التوازن المادي والروحي، وأقصى

درجات التقدم في كل المجالات الروحية الدينية والاقتصادية والعلمية والسياسية

والاجتماعية، وهذا المشروع يحقق صالح الإنسان الحقيقي في الدنيا والآخرة،

وبهذا تتكامل المادية والروحية، وتتكامل الجوانب المعرفية الحسية والعقلية مع

حقائق الوحي، ويتكامل الإنسان مع الكون الذي يعيش فيه والذي سُخر من قِبَل

الخالق لخدمته، ويتكامل الإنسان مع مجتمعه وأمته، ويتكامل عالم الغيب مع عالم

الشهادة، وتتكامل الدوافع مع الضوابط، وتتكامل الدنيا مع الآخرة.

ولا يمكن الاكتفاء بالقول: إن المشروع الحضاري الغربي ينطلق من المادية

والعلمانية المسرفة، وإن المشروع الإسلامي ينطلق من الإيمان بالغيب ويحقق

التكامل بين المادة والروح، لأن المنطلقات والأهداف والآليات والنتائج متصارعة

ومتناقضة، وسوف يكتفى هنا بإبراز بعض الأمثلة لتوضيح هذا الأمر:

أولاً: الموقف من الكون أو ما يسمى بالطبيعة ومن الحياة والوجود: هو في

الغرب علاقة صراع دامٍ، يعكس هذا مصطلحات: غزو الصحراء، قهر الطبيعة،

إخضاع الظواهر لسيطرة الإنسان ... وهم يصورون العلاقة على أن الحياة الطبيعية

معاكسة للإنسان، مقلقة له، ولابد من صرعها والتغلب عليها. [7] يقابل هذه

النظرية في المشروع الحضاري الإسلامي نظرة مناقضة تماماً، فكل ما في الكون

مسخر للإنسان، بل إن الكون في جانبه المتصل بالبشر مخلوق لخدمة الإنسان،

ومناسب لقدراته على المعرفة والتعامل والتسخير، قال (تعالى) : [هو الذي خلق

لكم ما في الأرض جميعاْ] [البقرة: 29] وكما يقول صاحب الظلال [8] : فإن

كلمة لكم تدل دلالة قاطعة أن الله خلق الإنسان لأمر عظيم ... ليكون مستخلفاً في

الأرض، مالكاً لما فيها، فاعلاً مؤثراً فيها.

وإذا كان المشروع الحضاري الغربي يؤكد العداء بين الإنسان والبيئة المادية

(الجغرافية) المحيطة به، فإن الإسلام يؤكد أن هذه البيئة مسخرة بأمر خالقها

للإنسان، والآيات التي تتحدث عن هذا كثيرة وقاطعة؛ منها قوله (تعالى) : [الله

الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً

لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس

والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه ... الآية]

(إبراهيم: 32-34) وقد جاء هذا الكون موافقاً تماماً لقدرات الإنسان على الفهم

والتفسير والاستيعاب، وقدرات الإنسان على العمل والاستثمار والإنتاج، وقدرات

وحاجات الإنسان البيولوجية كالماء والهواء، والنسب المعجزة للأكسوجين، وما

تنبته الأرض من غذاء أو كساء ... إلخ، كل هذا يؤكد الوحدة والتناسق في

النواميس أو القوانين أو السنن التي تحكم الأرض والكون والإنسان حتى لا يقع

التصادم والصراع والعدوان، على العكس تماماً من مُسَلمات المشروع الحضاري

الغربي..

ثانياً: ما يبرز فيه الصراع والتناقض بين المشروعين الحضاريين الغربي

والإسلامي، يتمثل في النظر إلى الإنسان؛ فالإنسان في المشروع الغربي حيوان

ناطق، يسعى باستمرار نحو إشباع شهواته خاصة شهوات المال والجنس والأكل

والمركز والتفوق بأقصى قدر ممكن وبأقل خسارة ممكنة، فهو يحاول الوصول إلى

أقصى قدر من اللذة والرفاهية بأقل مجهود ممكن [9] ، وهذا هو التيار النفعي

(البراجماتي) والرأسمالي المسيطر على الفلسفة الغربية، فالإنسان في المشروع

الغربي: كائن يهدف إلى المنفعة والمتعة في إطار المشروع الفردي والحرية

والمسؤولية الفردية، وهو ليس إلا رقماً في معادلة حياتية يمكن فهمها وتحليلها

بالحاسب الآلي، أما الإنسان في المشروع الحضاري الإسلامي فهو مخلوق خلقه الله

واستخلفه في الأرض لأداء رسالة حضارية محددة هي العبادة بمفهومها الواسع الذي

يشمل كل ما قصد به تنفيذ أوامر الله وتجنب نواهيه، وهذه تشمل: العبادات،

والتعلم، والإنتاج العلمي، وفهم السنن الحاكمة للإنسان والكون والمجتمع

والتاريخ [10] ، وتشمل: تعمير الأرض والإنتاج العملي وبناء المجتمع الأقوى إيمانياً واقتصادياً وتقنياً واجتماعياً وسياسياً؛ المجتمع القادر على: إقامة العدل والحق، وعلى تحرير الإنسان، والقضاء على الظلم، والدعوة إلى الإسلام، وتأمين سبل الدعوة إلى الله، وبناء القوة المرهبة لأعداء الإسلام.

والإنسان في المشروع الإسلامي كائن مزدوج الهوية؛ فهو مكون من جانب

ترابي هو مصدر الشهوات، وجانب روحي هو مصدر السمو والقيم ومصدر ترشيد

إشباع هذه الشهوات بالشكل الذي يحقق الاعتدال وفق المنهج الإلهي، وهذا لا ينفي

حق الإنسان في الاستمتاع بالطيبات من الرزق، قال (تعالى) : [قل من حرم زينة

الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق] [الأعراف: 32] وقال (تعالى) :

[زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة

والخيل المسوَمة والأنعام والحرث.. الآية] [آل عمران: 14] .

ثالثاً: من جوانب الصراع بين المشروع الغربي والمشروع الحضاري

الإسلامي: مصادر المعرفة [11] ، ومصادر التوجيه والضبط بالنسبة لحركة ...

الإنسان في الفكر والعمل، وحركة المجتمعات في التنظيم والتخطيط وتحديد

الأهداف وتحديد الأولويات؛ فالمشروع الغربي بحكم ماديته وعلمانيته ينكر الوحي

وينكر كل ما يتصل بالغيب، ويثق ثقة مطلقة بالعقل الإنساني وقدراته الخارقة على

النفاذ إلى أدق أسرار الإنسان والكون والحياة، فهو قادر على تنظيم سلوكياته

وعلاقاته وتنظيماته ومجتمعه وعالمه دون حاجة إلى توجيهات سماوية أو غيبية،

واستناداً إلى هذا: انطلق يشرع ويصوغ القوانين في كل جوانب الحياة.

وفي المقابل: نجد المشروع الحضاري الإسلامي يؤكد على أهمية أحادية

الوحي مصدراً للمعلومات الصادقة، ومصدراً للتشريع الحكيم، ومصدراً للضبط

والتوجيه، في كل مجالات السلوك والعلاقات والنشاط البشري، مع فتح المجال

واسعاً للاجتهاد في مجال المتغيرات والمستجدات في إطار الثوابت الإيمانية

والمعيارية الحاكمة، والمشروع الإسلامي يؤكد على أهمية المصادر الحسية والعقلية

للمعرفة بوصفها مصادر بشرية ركز الوحي على أهميتها ووجه إلى ضرورة

استخدامها للوصول إلى السنن الحاكمة للكون والمجتمع والإنسان والتاريخ، للانتفاع

بها عملياً، إلى جانب زيادة الطاقة الإيمانية عند المؤمنين، والمشروع الإسلامي

يؤكد عدم قدرة الإنسان على التشريع لما يحقق له النفع الحقيقي لا النفع الوهمي،

النفع في الدنيا والآخرة لا النفع الدنيوي فقط، النفع لكل الناس لا النفع لجماعة أو

صفوة أو فئة أو مجتمع دون آخر.

فالإنسان في المشروع الإسلامي مخلوق خلقه الله بقدرات محددة لايتعداها،

وهو يسعى بحكم تكوينه الترابي وبحكم وسوسة الشيطان له نحو إشباع شهواته إلى

غير حد، وكل إنسان مهما زادت ثقافته وقدراته لا يستطيع التخلص من تجربته

الزمانية والمكانية، ولا أن يتخلص من المؤثرات التربوية والاقتصادية التي أثرت

على تنشئته الاجتماعية، كذلك لا يستطيع التخلص من القوى التنظيمية والسياسية

والمجتمعية التي عاصرها، ولا يستطيع التخلي عن المشكلات الاجتماعية

والعاطفية والجسمية التي يعاني منها، ولا يستطيع تحقيق الحيدة والنزاهة الكاملة أو

الموضوعية عند مناقشة أمور تتصل بالحاجات الإنسانية أو السلوكيات أو العلاقات

الاجتماعية..، ولا يستطيع الإحاطة بكل جوانب الموضوع المدروس، لكل هذه

الأسباب وغيرها فإن الإنسان في حاجة مستمرة إلى الهدي الإلهي وإلى المنهج

الرباني، ينظم له حياته وعلاقاته [12] ويحدد له الأولويات والأهداف والآليات

التي تحقق صالحه الحقيقي.. هذا المنهج بضوابطه وأحكامه وتوجيهاته لا يصادر

المصادر البشرية للمعرفة وهي الحس والعقل، ولا يصادر الجهد والبحث الإنساني

عن الحقيقة ولا يمثل عائقاً أمام انطلاق الإنسان ورفاهيته، وعلى العكس من هذا؛

فإن هذا المنهج يؤكد الفعالية الإنسانية ويستثيرها في إطار السلامة والاعتدال،

وحماية الإنسان من الانحراف والطغيان والفساد، ومن العبودية لغير الله. [13]

وهذا المنهج يحقق أقصى درجات العزة والكرامة للإنسان.. دون هذا المنهج تسود

الأنانية والصراع والتناقضات الطبقية والعرقية والدولية، وتسود الشهوات وتقنن

الانحرافات، ويسود الانحراف والشذوذ باسم حرية التعاملات المالية، أو حرية

استخدام الجسد، أو حرية العلاقات بين الجنسين أو بين أبناء الجنس الواحد، أو

حرية الإجهاض، وبعيداً عن المنهج الإلهي تختفي العفة وتختفي رقابة الآباء على

الأبناء، ويندفع الناس تحركهم الشهوات المادية وحدها، وتعد الضوابط الأخلاقية

نوعاً من التخلف الفكري المرفوض.

إن الوحي وهو المصدر الرئيس في المشروع الإسلامي يؤكد على وجود

عالمين؛ عالم الشهادة وعالم الغيب، وأن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة يعبرها

الإنسان إلى الآخرة، وأن الحياة الدنيا هي فترة الاختبار والابتلاء، والنتيجة قد

تكون في الدنيا، ولكنها يقيناً يحصلها الإنسان في الآخرة، وفي ضوء هذا التصور

يصبح الإنسان مستعداً للتضحية بجهده وماله بل وحياته في سبيل حياة أخرى،

وبهذا الفهم يصبح الإنسان قادراً على ممارسة الكر والفر في حياته الدنيا وفق المنهج

الإلهي، وهذا ما يحقق المرونة والفعالية في الحياة الإنسانية، فهذا المشروع يحدد

للإنسان متى ولماذا يضحي، ومتى ولماذا يتوقف عن التضحية بالجهد والوقت

والمال والنفس.

والمشروع الحضاري الإسلامي يحقق نوعاً من أسمى أشكال التعادلية في حياة

وفعاليات الإنسان، فالعديد من آيات القرآن الكريم تحقر من شأن الدنيا وتزهد الناس

فيها؛ منها قوله (تعالى) : [إنما الحياة الدنيا لعب ولهو.. الآية] [محمد: 86]

وقوله (تعالى) : [وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] [آل عمران: 185] وهذا

حتى لا يركن الإنسان لشهواته ونزواته وينزلق نحو الانحراف والفساد، وهناك

العديد من الآيات الكريمات تؤكد على أهمية الاستخلاف والعمل والعلم والتعليم وبذل

الجهد والإنتاج وتعمير الأرض حتى قيام الساعة؛ منها قوله (تعالى) : [هو الذي

جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ... الآية] [تبارك: 15]

وقوله (تعالى) : [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها] (هود: 61) كل هذا

من أجل استمرار حركة الحياة وتحقيق مصالح الناس وإنفاذ مشيئة الله وإنفاذ

واجبات الاستخلاف في الأرض.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015