من القومية إلي الوطنية
ناصر إبراهيم البريدي
احتل الاستعمار بلاد المسلمين سنوات طويلة، وقد بذل في هذه السنوات من
الجهود الجبارة لحرب الإسلام والمسلمين، ما يعجز القلم عن تسطيره في مثل هذه
العجالة، ولم يخرج منها إلا وقد اطمأن إلى أنه قد خلف جنودًا يحملون رسالته،
ورجالاً يذبون عن أهدافه، يحيون ويموتون في سبيله، وإن كانوا من أبناء جلدتنا
ويتكلمون بلغتنا، كثير منهم يركعون ويسجدون معنا ويصلون في مساجدنا.
ولمواجهة الخلافة الإسلامية - التي كانت قائمة في آخر عهد الدولة العثمانية-
تبنى الاستعمار لغة القوميات التي أتت على أمتنا بالشرور والويلات.
وبعد أن قضى على الخلافة العثمانية، جاءت اتفاقية (سايكس - بيكو) التي
قطعت فيها الأمة العربية إلى دويلات، وشتت شمل المسلمين من خلال تلك
المؤامرات. وبعد أن ارتفع صوت القومية طويلاً وأدى جزءاً من الأهداف
المرسومة له، ظهرت دعوة أخرى - لا تقل خطرًا عن مؤامرة القوميين - تلك هي
الدعوة إلى الوطنية، واتخاذ الوطن إلهًا يعبد من دون الله، وارتفع صوت الوطنيين
في كثير من الدول الإسلامية يدعون إلى مبادئ تخالف دعوة الإسلام، وتدعو إلى
الانصهار في بوتقة الوطن، واعتباره رابطًا قومياً يعلو فوق كل الروابط.
ولم يدر أولئك - ولربما علموا - ما يحمل هذا الفكر الخبيث من سموم، وما
سيجره على الأمة من مصائب ونكبات.
إننا في الوقت الذي تتداعى فيه أمم الكفر على أمتنا، وتجتمع علينا في إطار
عقيدة واحدة، نجد بيننا من يرفع شعارًا يمزقنا، ومبادىء تفرقنا.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث في قوم تحكمهم العصبيات،
وتسودهم الوثنيات، فكان السلاح الذي رفعه -صلى الله عليه وسلم- في وجه أولئك
هو الإسلام، الذي جمعهم بعد تفرق، وذابت فيه كل الفوارق والألوان والجنسيات
والطبقات.
وفي ظل الإسلام عقدت أعظم مؤاخاة في التاريخ، جمعت العربي مع الرومي، والفارسي مع الأوسي، والحبشي مع الخزرجي، ولم يكن هناك أي اعتبار
لميزان الجنس واللون والوطن.
وإن أخطر ما في مثل هذه الدعوة أن بعض المسلمين يتحمس لها ويدافع عنها
بحسن نية وسلامة مقصد، بل وتجدهم يرددون ما يزعمون أنه حديث نبوي (حب
الوطن من الإيمان) وهو حديث موضوع [1] لا يجوز الاحتجاج به ولا الركون إليه.
وأشير هنا إلى أن حب الوطن أمر غريزي جبلي لا يستطيع الإنسان أن ينكره
أو ينفيه، ولكن الخطر الداهم أن كثيرًا من دعاة الوطنية اتخذوه صنماً يعبد من دون
الله، وتخلوا على مبادئهم الإسلامية باسم الوطنية [ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] [البقرة: 165] .
ولنقرأ مقاطع من مقالة كتبها أحد أولئك حيث قال: (ليس أغلى على الإنسان
أو غيره من الوطن، من الأرض، من التراب الذي يخصه، وعلاقة الإنسان
وغير الإنسان بأرضه علاقة تختلف عن كل علاقة، فهي أصلب، وهي أشد) . ثم
يمضي الكاتب في غلوه، فيقول: (ليس ثمة ما هو أرقى من العلاقة بين المخلوق
وتربته وأرضه ووطنه) .
ولم يكتف بذلك، بل جاءت القاصمة -التي لا تقصم الظهر، ولكن تقصم
الدين-:
(إن كل شيء يذهب ويتلاشى، إلا حب الأرض، حب الوطن، هو الذي
يستمر مشتعلاً في الذات دائمًا أبدًا، كالوشم الذي لا يتغير) .
هذه النتيجة المتوقعة من أدعياء الوطنية، وهذا الكاتب لا يعبر عن نفسه،
ولكنه خريج مدرسة قائمة، علمته: كيف يحب، ومن يحب، ومتى يحب.
نسي هذا الكاتب -أو تناسى-أن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق
عرى الإيمان، وتجاهل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [2] .
ونتيجة لهذا الغلو والإفراط أصبحوا من أجل الأرض يحبون، وفي سبيل
التراب يبغضون، وفي ذات الوطن يوالون ويعادون.
نعم.. كل إنسان يحب وطنه، ولكن المسلم يجعل هذا الحب في إطاره
الصحيح، فهو حب طبيعي فطري ولكنه لا يقدمه - بحال من الأحوال - على حب
الله وحب رسوله، ولا يساويه بحب دينه، بل ولا يرقى حب الوطن إلى حب
الوالدين.
إذا هو حب يحكم بحب أسمى منه والعلاقة بالوطن تخضع لعلاقة أقوى منها.
أما أن يصل حب الوطن إلى أن يقول شاعرهم:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه بالخلد نفسي
فهذا حب لا يقره الإسلام ولا يرضاه بل يمقته ويأباه.
إن حقيقة الدعوة للوطنية تبرز عندما تتعارض مصلحة من مصالح الوطن -
الموهومة - مع مبادئ الإسلام وقيمه الحقيقية، نجد إن دعاة الوطنية يقدمون تلك
المصلحة الظنية على ما يقره الإسلام ويدعو إليه.
ولأولئك نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذم المنافقين الذين فضلوا البقاء في
الأوطان على الخروج منها للجهاد في سبيل الله فقال:
[ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ
قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 66] .
وأخبر سبحانه عن النهاية المخزية للذين رفضوا الهجرة وارتدوا عن دينهم
إيثارًا لحبهم لأوطانهم، وتفضيلها على حب الله ورسوله.
[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ
فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 97] .
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب مكة، ولكنه قدم الهجرة فرارًا
بدينه على حب وطنه، وكذلك فعل صحابته الكرام، وهكذا يكون حب الوطن
والولاء له ليس حبًا مطلقًا ولا ولاء محررًا من كل قيد، كما يريد أولئك الأدعياء.
وأقول بصدق: إن الذي يزعم حب الوطن حبًا مجردًا من مبادئ الإسلام
وضوابطه إنه كاذب في زعمه خائن لوطنه وأمته، هو أول من ينسحب في معركة
الذب عنه والدفاع عن حرماته، وما قصة المنافقين في (أحد) إلا برهان قوي للرد
على هؤلاء، وفي (الأحزاب) خير دليل على حقيقة مواقفهم:
[وإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إن يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً * ولَوْ
دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا ومَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلاَّ يَسِيراً *
ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]
[الأحزاب: 13-15] .
وأحداث أفغانستان شاهد حي على مواقف المجاهدين الصادقين، الذين أبلوا
بلاء حسنًا في الذب عن ديارهم وبلادهم، ومواقف الذين يجعجعون بالوطنية، فلما
جد الجد ونادى منادي الجهاد: [ولَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً] [الإسراء: 46] .
فبان الصادق من الكاذب [3] والوفي من الخائن، فاعتبروا يا أولى الأبصار.