المسلمون والعالم
عبد الله عمر سلطان
كان منظر الثلاثة وهم يقفون على منصة الاحتفال يبعث في النفس الشعور
بالتقزز وتتداعى معه مصطلحات راجت في الفترة الأخيرة في مقدمتها: العصر
الإسرائيلي، المعايير المزدوجة، النفاق الرخيص. أكثرهم تصنعاً وقلقاً، كان
أولهم في استلام جائزته من الراعي للحفل، فعندما تقدم عرفات لاستلام جائزة نوبل
للسلام ظهرت مواهبه المعروفة، كما ظهر بشكل قاطع أن سيل الأحداث وضغط
الواقع القائم قد خفف من قدرته على إخفاء إحباطه وفشله رغم الضحكة الصفراء
والسرور المصطنع الذي غطى معالم وجهه أما بيريز فعندما تقدم إلى استلام جائزته
وإلقاء كلمته كان يحاضر بعقلية الإستراتيجي الذي خطط أسلافه قبل أكثر من نصف
قرن بعض تفاصيل حاصل ما يجري اليوم من أحداث، وبعقلية المستشرف لمستقبل
المنطقة وتفاصيل المشروع الصهيوني القائم من خلال الدراسات العلمية، أما رابين
فكان أكثرهم استكباراً وتضايقاً من حشره في مقعد مجاور لعرفات، هذه الشخصية
التي طالما احتقرها بالأمس ومارس معها منذ اتفاق أوسلو عملية تحطيم شخصية
وسياسية بشكل مهين.
مر الاحتفال بارداً، برودة الاتفاق الذي أفضى إلى نيل الثلاثة هذه الجائزة،
كما عكس بشكل قاطع أن الاتفاق رغم المناورات والمحادثات السياسية الأسبوعية
بين حكومة رابين وسلطة عرفات يعيش في غرفة الإنعاش ويرفض مغادرتها.
قال صحفي نرويجي غطى الاحتفال قائلا: من كان يصدق أن يقف عرفات
في منصة التتويج لولا هذا الانقلاب الهائل الذي جعله يتحدث إلى ضيوف الحفل
كما يتحدث رئيس جمعية حماية حقوق حيوانات في بلد أوربي؟ ! ، ورغم كل هذه
العبارات المليئة بالحديث عن الإنسانية والسلام والبيئة والتحضر فإن عرفات كان
غير صادق وكان جمهوره يعرف ذلك لكنه اضطر إلى مجاملته إلى النهاية طالما أن
الزعيم الفلسطيني قد أدرك ولو في سن الشيخوخة أن عليه أن يتصرف وفق الفكر
الإنساني الديموقراطي وأن اللغة الوحيدة التي سمحت له أن يقف في هذا المحفل
هي لغة المتحضرين..! .
لغة المتحضرين ... ؟
ما لغة المتحضرين؟ هل هي اكتشاف نجهله أم همهمات بالغة الصعوبة أم
وصفة دوائية علينا أن نتناولها بانتظام؟ ربما كانت جواز سفر سحري يسمح
للكهول أن يدركوا سفههم ولأصحاب القضايا الخاسرة أن يعوضوا شيئاً مما فُقد. لغة
المتحضرين.. ما هي يا ترى هذه اللغة؟
والجواب أن جائزة نوبل هي في الحقيقة عبارة موحية وهامة في هذه اللغة
التي أحس الكاتب النرويجي في استخدامه لهذا المصطلح الذي يختصرحالة الحصار
الغربي للمنطقة، لإشكالية الهوية الإسلامية والتعامل معها بالتحديد، والإطار
الغربي للتعامل مع الآخرين ... وفي مقدمة الركب بالطبع المسلمون!
هذه الإشكالية عبر عنها بكل صراحة المستشرق الفرنسي فرانسوا بورجا
بقوله الحضارة الغربية المعاصرة وفي نشوة قوتها الحالية لا تسمح بوجود ثقافات أو
حضارات أو لغات أخرى وهذا السلوك المعاصر يتكئ على مخزون تاريخي يمتد
إلى وقت بداية: الاستعمار الأوربي للعالم حيث كان مبدأ الغربيين (الصليبيين) منذ
البداية إلغاء الثقافات والأجناس الأخرى حتى ولو كان ذلك بأسلوب التطهير العرقي
الذي يمارسه الصرب الأوربيون اليوم على مرأى ومسمع من العالم.
وليم فان الكاتب في الـ لوس أنجلوس تايم يقيم الوضع من زاوية أخرى
بقوله: إن العالم الغربي يجب أن يعترف بوجود مشكلة له مع العالم الإسلامي وهي
أن هذه الشعوب ترفض أن تتخلى عن الفكرة القائلة بأن الدين ينظم كافة مناحي
الحياة، ويرفض بشكل قاطع أن ما لقيصر لقيصر وأن ما لله لله، وهذا ما أدركته
الشعوب المسيحية (المتحضرة) حتى في أوج حماسها الديني، ويكفي أن نذكّر بأن
شارلمان الذي قُلد منصب الإمبراطور المقدس لأوربا عام 800م من قبل بابا روما
قد سلك هذا المسلك، لقد توج شارلمان من قبل البابا لكنه لم يكن تحت سلطته،
وهذا ما أتاح أن يكون شارلمان رأس الدولة ومُصّرف أمور الدولة، بينما كان البابا
راعي الآخرة وزعيم الكنيسة. هذا الانفصام لم يحصل في تاريخ الإسلام، وظل
المفكرون المسلمون عبر العصور يرون الدين والدولة وحدة واحدة مما أسقط فكرة
الدولة المدنية (العلمانية) من تاريخ المسلمين حتى بداية هذا القرن.
إنها مشكلة حاول الصليبي المستعمر منذ قرون أن يجد لها حلاً ومرت تجربته
خلال هذا القرن بمراحل ومشاهد وتجارب متعددة.
خبرة قرن:
في بداية هذا القرن، وفي ظل الاستعمار الغربي المباشر وتخلف المسلمين
على كافة الأصعدة، كانت الدعوة العلمانية الصريحة واضحة وقوية ومنتشرة
مستفيدة من وجود الاستعمار الذي هو تفوق الآخر الأوربي على المسلم المتخلف
حينما قيل: أن ليس أمام المسلم من طريق للوقوف سوى الاستناد إلى التجربة
الأوربية العلمانية التي فصلت بين الدين والدولة بشكل قاطع، ويمكن القول: إن
دعاة التغريب والعلمنة كانوا هم المتمتعين بوضع هجومي وبخاصة أن الغرب
المستعمر قد رأى في هذه النخب بروز أول ظاهرة علمانية في تاريخ المسلمين
وظهور أول جيل يطالب بتنحية الشريعة عن مظاهر الحياة.
لكن فشل الظاهرة الليبرالية في إيصال رسالتها وتعميقها شعبياً مع ظهور بداية
حركات إسلامية مناهضة إضافة إلى تفاقم الغضب الشعبي من الاستعمار وممارساته
قد أدى إلى انحسار الفكر الليبرالي لاسيما المتطرف منه وانحصار هذه الظاهرة
بالأحزاب التي تبنت جزئياً مناهضة المستعمر واستقلال بلدان العالم الإسلامي من
نير احتلاله.
وأما المرحلة التالية فقد تزامنت مع انهيار القوى الاستعمارية الأوربية
التقليدية وظهور القوتين المنتصرتين أمريكا والاتحاد السوفياتي واشتعال الحرب
الباردة في مناطق النفوذ لاسيما رقعة العالم الإسلامي، وقد شهدت هذه الفترة تراجعاً
جديداً للأحزاب والشخصيات والرموز المرتبطة بالليبرالية الغربية يقابله صعود المد
اليساري الذي رأى من خلال تبني الماركسية والاشتراكية والقومية سبيلاً للخلاص
من الامتداد الاستعماري الأوروبي المتمثل في الولايات المتحدة، لاسيما مع بروز
دولة الكيان الصهيوني ووقوف الغرب بانحياز تام نحو مشروع إضعاف واستنزاف
العالم العربي من خلال قاعدة استعمارية تمثل أسلوباً جديداً من أشكال الاحتلال
المرتكز على أسس دينية وعقدية تكرس الهيمنة الاقتصادية والسياسية التي كانت
ولا تزال سائدة.
وتمثل المرحلة الثالثة والتي بدأت بانهيار جدار برلين واندحار الشيوعية
الحالة الراهنة لإطار المواجهة مع العالم الإسلامي وإن كانت هذه الحقبة قد تميزت
بارتفاع موجة الليبرالية العلمانية من جديد. وهذه الموجة قد ظهرت في ظل بروز
معطيات جديدة منها:
* تصاعد موجة الصحوة الدينية في العالم بشكل عام وفي العالمين الإسلامي
والغربي بشكل خاص ومع بروز هذه الظاهرة استطاع الغرب أن يستوعب هذا
التيار ضمن بوتقة القوى الفاعلة فيه بينما حوربت هذه الظاهرة بلا هوادة من قبل
النخب السياسية والثقافية في العالم الإسلامي.
* انهيار الخطر الشيوعي وتقديم الخطر الإسلامي عدواً أوحداً للحضارة
الغربية وإبراز النظريات الداعمة لتضخيم الإسلام عدواً ومصارعاً للحضارات.
* بروز قوى اقتصادية جديدة في العالم تشكل نواة حضارية مرتبطة بالغرب
في إطارها العام لا سيما في اليابان وجنوب شرق آسيا مع محدودية التجربة الفكرية
التي تقدمها تلك الشعوب للعالم عموماً وللغرب خصوصاً.
*اتساع شبكة الاتصالات ووسائلها بصورة مذهلة مما نقل المعركة الحضارية
إلى أرجاء المعمورة بصورة فاعلة وفورية وإمساك الغرب بوسائل وأدوات الثورة
الاتصالية والإعلامية الحالية وإدارة المعركة من خلالها بثقة وذكاء.
*بروز العامل الاقتصادي الاستعماري في صورة الشركات المتعددة الجنسية
وتطويع الموارد الرخيصة في العالم لخدمة الاستعمار الجديد ورموزه الحالية وهيئته
الجديدة.
*كل هذه العوامل تجعل الغرب وحضارته الصليبية المعاصرة في وضع
يسمح له بأن يضرب بالمبادئ والمثل بل وبالمنطق والعقل عرض الحائط في سبيل
تكريس لغته الحضارية التي يتحدث بها باستعلاء تجاه الآخر لا سيما إذا كان الآخر
هو العالم الإسلامي ويتحدث بلا حياء عنها وكأنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه رغم أنه أي الغرب يعرف حقاً كذب وبهتان هذه اللغة.
أحداث متفرقة.. وخيط رفيع:
دعونا نلقي نظرة إلى بعض أحداث الأسابيع الماضية، ثم ننظر إلى المحصلة
النهائية لهذه الأحداث ... ففي البوسنة مارس الصرب ولازالوا أبشع أنواع الجرائم
الإنسانية، ووقف الغرب المتمدن ينظر إلى جنود بطرس غالي وهم يؤخذون أسرى، ومدرعات الأمم المتحدة تؤخذ عنوة دون أن يكون هناك رد فعل ولو نفاقاً لإسكات
أفواه المدافع الأرثوذكسية ... والسبب أن الصرب في امتدادهم الديني والحضاري
يتكلمون (اللغة المتحضرة) ... لغة عبادة القوة التي يمارسها الغرب في حق
الضعفاء من أمثال البوسنيين..
أما في الشيشان فهناك دولة تنتهك حدودها يرمي شعبها الأعزل أجساده النحيلة
وعظامه الهشة لتشكّل في وجه الدبابات الروسية الصليبية المتغطرسة سداً. بينما
يقف وزراء خارجية الدول الغربية موقف غير المبالي من الحدث وكأنه يشهد جولة
من جولات المصارعة الحرة بين أسد وقط.
أما إذا كنا قد بدأنا بجائزة نوبل فلنا أن ننتهي بجائزة كورت توخولسكي التي
أعطيت للمرتدة تسليمه نسرين من قِبل نادي القلم السويدي وقامت مارجريت أون
جلاس وزيرة الثقافة السويدية بتسليم الجائزة لهذه المرتدة عرفاناً من مثقفي الغرب
بإنجازات هذه الكاتبة المتحضرة التي وقفت ضد الإسلام والأصولية الهمجية! ثم ما
هي إلا أسابيع وتزور المذكورة باريس عاصمة الظلام الفكري والحقد الذي ليس له
حد في حراسة 1200 جندي لتعلن هناك وبصراحة أنها ملحدة ولا تؤمن بالإسلام
جملة وتفصيلا. فيصفق لها الغرب المتحضر ويكتب وليم فان في 13 ديسمبر
1994 قائلاً إن قضية تسليمه نسرين يجب أن تلقي بالضوء على التحدي الذي
يواجه المثقفين في العالم الإسلامي وهم يسعون إلى تكريس مبدأ حرية المعتقد
ونقاش الحريات بشكل واضح، وليست تسليمه وحدها تعاني من التعصب، فهناك
أمثلة أخرى: كسلمان رشدي والكتاب الجزائرين المرتبطين بالمدرسة الفرنسية،
كل هؤلاء ظواهر قوية تحظى باحترام غربي ومن المؤمنين بالحرية والديموقراطية
في العالم، وعلى الغرب أن يعمل ما في وسعه لبقاء مثل هذه الأصوات داخل العالم
الإسلامي بدلاً من هروب هؤلاء عن الساحة ولجوئهم إلى الغرب ... إن من السهل
أن يرفض المثقف الإسلامي ويرحل ... ! ! لكن الأهم أن يبقي هؤلاء داخل
المجتمعات الإسلامية حتى تصل هذه المجتمعات إلى مرحلة القبول بمصطلحات
العالم المتطور ... إنه دور ضخم ومطلوب، لكنه في هذه الأيام دور محفوف
بالمخاطر ...
هكذا يلخص الكاتب القضية بكل صراحة ووقاحة ... الجوائز تنتظر أولئك
الذين يفتحون الجبهات الساخنة في المجتمعات المسلمة، وجائزة ك نوبل سترتبط
في الذاكرة العربية المسلمة بكل ما من شأنه اغتصاب الحقوق وإهدار قيم ومبادئ
هذه المجتمعات الملاحقة، ترتبط باتفاق الشؤم في كامب ديفيد أو بتوقيع إتفاق بيع
الحقوق والمقدسات كماحدث في أوسلو، وهذا بالضبط ما جعل الجمهور المحاصر
من التلال الشيشانية إلى الأصقاع البوسنية يعي أن الحرب على الإسلام ثمنها
القبول في مجتمع التحضر الصليبي ولو كانت عضوية من الدرجة الثانية والمكافأة
على الدور المطلوب حتى ولو كان سمجاً وفجاً ومحمياً من قبل ألف ومائتي جندي! !
المرحلة الحاضرة مثقلة بتناقضات شتى، أبرزها: لغة الغرب المتباكي على
حقوق الحيوانات والرافض لبشر حملوا حضارة العالم قروناً وحقهم في أن يقرروا
ما يريدون، وأن يعيشوا ضمن مبادئهم التي تشع مع كل ضربة موجهة إليهم ومع
كل حصار يَحشده الغرب يحاول من ورائه أن يستأصل هذه الأمة كما استأصل
الهنود الحمر وكمحاصرته سكان الغابات الاسترالية. والشعوب المسلمة تؤكد مع
كل موجة صليبية جديدة أن فيها عروقاً تنتفض وتزيد حيوية كلما رأت خائناً يجرح
كرامتها بأقدامه التي تدوس على البسط الحمراء في طريقه إلى نيل أعطية يحاول
من خلالها أن يثبت أنه مهتم بقضية الحفاظ على حقوق الحيتان الزرقاء في العيش
بحرية في المحيط الهادي بينما الأحرار الأبرار يعيشون حصاراً أشبه ما يكون بـ
(حصار الشعب) المكي الشهير.