مجله البيان (صفحة 1861)

في إشراقة آية

[ونبلوكم بالشر والخير فتنة]

د. عبد الكريم بكار

خلق الله جل وعلا الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبتار، ومن ثم فإنه جعل

الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره، والرخاء والشدة، والخير والشر، ليرى

سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال،

[ونبلوكم بالشر والخير فتنة] [الأنبياء: من الآية35] .

ولعلنا نقبس من نور هذه الآية المباركة في الوقفات التالية:

1- الناظر في النُظُم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر (الابتلاء)

يقوم على (التشتيت بين المتقابلات) حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة الراهنة أو ما

سماه القدماء بأدب الوقت إلى الإخفاق في الامتحان الذي يعني تحول الخير إلى شر

أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور، ولعلنا نميط اللثام عن هذا المعنى من خلال

نموذجين اثنين:

(أ) يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية

المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي، وهذا التماثل من الخير ولا

ريب لأن البديل عنه هو الشقاق والاحتراب الداخلي لكن التجربة الاجتماعية أثبتت

أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى انقسامه على نفسه،

حيث يتشوف أعضاؤه ولاسيما الصفوة منهم إلى النفاذ إلى واقع المجتمع على نحوٍ

منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر الاجتماعي، ويجعل (التماهي) الظاهر

عبارة عن شكل فارغ من المضمون، فينتشر النفاق الاجتماعي والازدواجية في

السلوك، ومن ثم فإن المطلوب هو قدر من التنوع الاجتماعي واحترام

الخصوصيات في إطار النظم الكبرى للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة.

(ب) حث الإسلام على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة، ورتب في ذلك

أحكاماً وآداباً عديدة، والالتزام بها ورعايتها من الخير العظيم، لكن ذلك لابد أن

يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى لا تقل أهمية وحيوية من مثل احترام النظم

التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع، حيث لا يصح لعامل

القرابة أن يمس العدالة الاجتماعية أو يضغط عليها، الملحوظ أن ما تسمى بـ

(سيادة القانون) لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور الحديثة إلا حيث اضمحلت

العلاقات الأسرية والقرابية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية أما في المجتمعات

الإسلامية حيث التواصل الأسري والعائلي أمتن وأفضل، فإن من الملحوظ أنه يتم

الكثير من التجاوز والتفلت من النظم العامة في سبيل إعطاء الأقرباء ما ليس لهم

من مكتسبات ظناً أن في ذلك صلة للرحم! لكن هذا يعني عدم النجاح في الابتلاء

والتشتت بين المتقابلات، إن إكرام الأقرباء لا ينبغي أن يتم على حساب الآخرين

ولا بخرق النظام العام، وإلا كان شراً وبلاءً.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن الإسلامي في تاريخنا الطويل

كان نقل العرب من مرحلة (القبيلة) إلى مرحلة (الدولة) حيث يتم الفصل شبه الكامل

بين العلاقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية، ونجد إلى جانب هذا في سيرة

النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلوك أصحابه الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن،

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي

ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئاً [1] وهو الذي قال:.... لو أن فاطمة

بنت محمد سرقت لقطعت يدها [2] .

2- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعاً من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها،

وهذا يعني نوعاً من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه، والذوبان فيه، وذلك

إنما يقع عند الغفلة عن (نواة) الابتلاء الكامنة فيه، على نحو ما حدث من غفلة

الرماة يوم أحد عن نواة الابتلاء في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالبقاء

في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة، فأدى ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح

في مستهل المعركة إلى هزيمة! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع المسلمين

يستسلمون لمرارة الهزيمة، ويغرقون في التلاوم والندم، وإنما اندفع بهم إلى ساحة

ابتلاء جديد بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار

إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو! [3] .

ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الاستبصار وتقليب النظر

في الحالة الراهنة خيرها وشرها، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى

ولادتها وتجسدها، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة، ونتصرف إلى

اتجاهات سيرها وتطورها، فإذا كان الابتلاء عبارة عن خير أي خير أصابه

المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد على نفس الوتيرة

التي كان عليها، وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن ورث مالاً وفْراً وجب عليه

أن يشكر الله على ذلك أولاً، وأن يقوم ثانياً ببحث الأسباب والعوامل التي تؤدي

إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته، حتى لا يشعر يوماً ما أن النعمة التي هبطت

عليه لم يكن يستحقها! .

وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه، فإن

النجاح في مواجهة ذلك الابتلاء لا يكون إلا بالخلاص مما اقترفت يداه، وبذلك

يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا

ما بأنفسهم] [الرعد: 11] .

وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر، ويحاول أن

يتجاوز ما هو فيه من بلاء بتحوله من (صالح) إلى (مصلح) لأن البلاء حين يعم

بسبب انتشار الفساد لا يتأهل للنجاة منه إلا الذين يسعون إلى تحجيمه وتطهير

المجتمع منه، كما قال سبحانه: [فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن

السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون] [الأعراف: 165] ،

ولابد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة والمكاشفة والنقد المنصف البناء

حتى لا تندغم الذات في الموضوع، ونصبح كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح

يجري وراءها مستسلماً لقوة اندفاعها.

3- إن مبدأ (الزوجية) ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات والموجودات،

وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع كذلك هو سبب في

تحول حالات الرخاء والشدة، ففي رحم كل رخاء (نواة) لمحنة، كما أن في أحشاء

كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله جل وعلا: [فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا] (الشرح: 5، 6) إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع

الحالة الراهنة التي نعيشها في السياق التاريخي والسببي، حتى يتبين لنا أنها ليست

أكثر من حلقة في سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات.

إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع (الأحوال النهائية) في خير

أو شر، وإنما هناك دائماً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا التصرف

بالإمكانات التي بين أيدينا، وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تفجّر روح المقاومة

والإصرار والعناد، تلك الروح التي كثيراً ما تظل هاجعة خامدة إلى أن تأتيها

صدمة قوية توقظها من سباتها، وهكذا فالمطلوب دائماً أن نكون في الموقع الصحيح

لمواجهة الابتلاء.

إن طبيعة الابتلاء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة، والإنسان

المبتلى يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا

يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا ...

4- تمتلك أمة الإسلام بحمد الله عدداً من المنظومات المعيارية والرمزية التي

تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه الابتلاء فيها، بل وتمكن

الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم الإيجابيات

والسلبيات في الواقع المعاش، وهذه المعرفة تنظم أيضاً ردود أفعالنا على الطوارئ

والوافدات الجديدة رفضاً ومدافعة وتعديلاً وتهذيباً وقبولاً وترحيباً، وهذا يعني أن

كل ابتلاء جديد لا يدخل في حياة الأمة (الحية) إلا بعد أن يمر بمصفاة قيمها

ومبادئها و (عقيدتها الاجتماعية) [4] أيضاً، وكلما كان وقع الابتلاء الجديد حاداً

ومكشوفاً استطاع أن يستفز ردود أفعال الأمة عليه بصورة قوية وسريعة، فظاهرة

الردة الأولى كانت ابتلاء كبيراً جداً واجهته دولة الخلافة الوليدة في زمان أبي بكر

رضي الله عنه بالقوة والسرعة المكافئة، لكن الابتلاء (المتدرج) الذي حصل بعد

ذلك في صورة فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة

وفق اتساع أمة الإسلام لم يستوفز الطاقات الكامنة في الأمة، فلم تقم بواجبها تجاهه، ولعل هذا يدفعنا إلى القول: إن أخطر ما يغيب الإحساس بالابتلاء على مستوى

الفرد والجماعة معاً ليس الكوارث الكبرى ولا الجوائح العظيمة وإنما (التغيرات

البطيئة) التي تدخل من أضيق المسام، فتتكيف الأمة معها سلبياً على سبيل التدرج، وهذا ما حصل بالنسبة لأمة الإسلام وما حدث لدول عظمى في عصرنا الحديث،

فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها العالمي، وبدأت الشيخوخة تدب في

أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم يظهر إلا في الحرب العالمية الثانية.

ومن الطريف أن بعض علماء (الأحياء) جاءوا بضفدع، ووضعوه في إناء

وأوقدوا تحته ناراً هادئة، فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء، وكان

المأمول أن يقفز الضفدع عندما يحسّ بسخونة الماء لكن حدوث التسخين على نحو

بطيء أدى إلى أن يتحول (المحرّض) إلى (مخدّر) وكانت النتيجة أن الضفدع

انسلق دون أن يبدي أية مقاومة!

وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون

حاسة (الاستشعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الآوان، ويقومون

بما تستحقه من مواجهة وعمل، وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: الفتنة إذا

أدبرت عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم.

وحتى ننجح في مواجهة الابتلاء (التغيرات البطيئة) فإن علينا أن نقوم بأمرين:

أ- الانشداد إلى الأصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار

منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير المستجدات

على تلك الأصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي ترسخها، وتجعلها

تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ب- المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا لا من ...

خلال الحدس والتخمين والملاحظة العامة، وإنما من خلال (الرقم) والأساليب الكمية، حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة والمآلات الصائرة إليها، وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة تنظيم حياتنا ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة قسماً أو موظفاً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو إحساس الناس ب (الكم) وطريقة قياسه، وليس من المستفز اليوم ذلك التلازم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الإحصاء فيها.

إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله

تعالى في كل حالة من أحواله، ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015