المسلمون والعالم
سلام وادي عربة
الاستفراد الثالث
د/ عبد الله عمر سلطان
تبدو عملية السلام المنطلقة بهذا الزخم الملفت للنظر عملية أحادية المكاسب
والتوقعات والتصورات والمستقبل، الجانب الصهيوني في كل تفاصيل أي اتفاق أو
إعلان مبادئ أو حفلة سمجة يطل برأسه وهو يرسم ابتسامته الماكرة وبرعاية
الحليف الأمريكي المحترف وكأنه يريد إذلال آخر معاقل الأنفة في النفوس التي
ذاقت الهزيمة مرتين وهي تقابل بني إسرائيل، مرة جرجرت أذيالها في ساحات
المعارك، وها هي اليوم تقدم فروض الطاعة والولاء وبقية الدراهم القليلة عربوناً
لقبولها في النظام الإقليمي الشرق الأوسطي.
صحيفة النيويورك تايمز علقت على عناوين هذه المرحلة بقولها: «مرحلة
قبول الوضع الراهن بكل واقعية وتكريس الوجود الغربي في المنطقة مع إعطاء
إسرائيل حجمها الحقيقي الذي طالما حاول العرب أن يخفوه عن أنظارهم..» ، أما
مراسل هيئة الإذاعة البريطانية فعلق على حفلة التوقيع الأردني / الإسرائيلي:
«بأنه اليوم الذي فتح الباب لحاخام يهودي بأن يقف على أرض إسلامية وفي ضيافة أسرة هاشمية تنتمي إلى نبي الإسلام ليصرح بمقاطع من التوراة وسط احترام وتقدير بالغين..» ، (برنت راسل) المعلق الأمريكي خرج بصورة تحليلية تمس عمق هذا السيل الجارف فقال: «الواقع الذي ترسمه القيادة الأمريكية في دفعها لعلمية السلام تطغى عليه حتى الآن الروح الدعائية والاحتفالية، وأنا لا أقلل من عدد المعاهدات أو كثرة اللقاءات الثنائية أو حجم التنازلات التي تلقتها إسرائيل بمباركة أمريكا فهذه ظاهرة للعيان لا تحتاج إلى عدسة مكبرة أو جهاز حاسب آلي، لكن الذي تجب الإشارة إليه أن هذه الاتفاقات لازالت اتفاقات حكومات لا شعوب وخيار رسمي لم يراعِ نبض الشعوب أو يأخذ بعين الاعتبار شعبية الذين يتمسكون بخيار الصلح فضلاً عن مستقبلهم.. إن من حق إسرائيل أن تحتفل لأن هذا السلام هو ما تمنته وحاربت وخططت من أجله لعقود بعد أن كانت منبوذة، وهو ينسجم مع السياق السياسي والشعبي لليهود في شتى بقاع الأرض، أما الشعوب العربية فإننا إذا تواضعنا واكتفينا بتوصيف دبلوماسي للواقع فإن واقعها يقول إنها تشعر بالغثيان أو دوار البحر من مظاهر الصداقة العربية - الإسرائيلية التي تشبه طبخة وضعت على موائد الجائعين والمحبطين على عجل ثم قيل لهم ليس أمامكم سوى الإشادة بالخلطة السحرية التي أخرجت لكم الطبق العربي/ الإسرائيلي المشترك.
لقد أتت خطوات السلام الأردنية - الإسرائيلية بعد حادثة تفجر الباص في تل
أبيب، هذا الحادث كشف بصدق عن النفسية اليهودية المنحطة التي تريد أن تقبض
ثمن الانهيار والانصياع العربي دون مقابل، حتى ولو كان عاطفياً، فرابين وصف
الحادث أمام الشعب البريطاني الذي كان يزوره بالقول:» إن الإرهاب هو من
طبيعة شعوب هذه المنطقة - من العرب - وإن علينا أن نجد من الوسائل ما يكفل
القضاء على الطباع المتأصلة لدى هذه الأمم «، أي بكلام آخر: إن السلام الذي
تبرمه أمريكا وتضغط من أجل إتمامه لمصلحة قاعدتها المتقدمة (إسرائيل) هو سلام
الحضارة المتفوقة التي يصفها كاتب يهودي» وجدت نفسها مضطرة إلى العيش
وسط جيران عدوانيين متخلفين فكانت مهمة إسرائيل إدخال مفاهيم السلام والاحترام
المتبادل قبل أن توقع اتفاقيات سياسية هامة «إن هذا الاحتقار وتلك الغطرسة
الإسرائيلية ظهرت في تصرف رئيس الدولة الذي يطلق عليه طابور التطبيع
العربي لقب (جنرال السلام) هذا الجنرال المسالم العجوز هو (عايزرا وايزمان)
الذي رفض أن يستقبل مكالمة ياسر عرفات في أعقاب حادثة الباص تعبيراً عن
احتقاره الممزوج بالغضب من هؤلاء الذين اضطر إلى توقيع اتفاقيات سلام معهم
رغم حنقه داخلياً عليهم ورفضه حتى اعتذاراتهم المتكررة والمهينة.
لماذا يريدون السلام إذن؟
إذا كانت شعوب المنطقة المسلمة همجية متخلفة بربرية إلى هذه الدرجة وإذا
كان زعماء السلام الأعرج إرهابيين مهما ركعوا واعتذروا وقبلوا الأيادي، فلماذا
إذن هذا الهجوم الضاري من أجل السلام وما الذي يدفع أمريكا (المتحضرة)
وإسرائيل» المتمدنة «لكي توقع هذه الاتفاقيات وترضى بالحديث مع قادة الإرهاب
(كما تحكي عنهم) وشعوب المنطقة التي تؤمن بالعنف وسيلة وحيدة للحوار.
الحلف الأمريكي الإسرائيلي ينظر إلى المنطقة العربية على أنها منطقة تمر
بمرحلة مخاض قاس، مرحلة تنهي القوى الدولية فيها عصر الحرب الباردة
ومخلفاتها وتسعى إلى تشكيل شبكة جديدة من العلاقات والرؤى والمفاهيم والقواعد
التي تكرس الانتصار الغربي الليبرالي عنواناً والصليبي حقيقة وإلى الأبد.. القوى
الدولية تشعر منذ (قمة مالطا) التي عقدت بين جورج بوش وميخائيل جورباتشوف
أن الأنظمة العربية لا سيما الثورية ضرورية لإنهاء مستحقات الحرب الباردة ولا
سيما الصراع العربي الإسرائيلي بالصورة التي حددتها هذه القوى، أي بتفوق
يهودي يكرس المرحلة الشرق أوسطية الجديدة وهذا يحتاج إلى قيادات المرحلة
الراهنة - التي على الرغم من كل تناقضاتها وتاريخها - تشكل حجر الأساس لهذه
الاتفاقيات التي توقع هنا وهناك وهذا الدور يتعاظم في ظل ارتفاع المد الإسلامي
الذي له موقف واضح من قضية فلسطين والقدس والصلح مع اليهود ...
لقد بدى للعيان بعد أكثر من عقد من الصلح في كامب ديفيد أن التطبيع ظل
تطبيع حكومات لا شعوب وأن الشعب المصري في أوسع قطاعاته ظل ينظر إلى
الصلح مع اليهود على أنه اتفاق حكومي فوقي لا يعنيه من قريب أو بعيد، وظل
دعاة التطبيع وعرابوه مجموعة منعزلة عن الشعب ونبضه رغم الإمكانات الهائلة
والمنابر المتعددة التي بين أيديهم، والتجربة الصهيونية حتى في القطاعات التي
جاءت في الاحتكاك مع الغرب من المجالات البحثية والرياضية والفنية ظلت مغلقة
في قطاعها الواسع أمام موجة التطبيع، والمحصلة إذن سلام توقعه حكومات
وقيادات مارست الهزيمة السياسية بالأمس وتوقع هزيمتها السياسية اليوم وتحت هذه
اللافتة الرسمية التي لا تستند إلي دعم شعبي يسعى الكيان الصهيوني إلى إقامة
كيانات تنشط في مجالات الفكر والإعلام والسياسة والاقتصاد، تكون بمثابة النخب
التي ترتبط بالمشروع الصهيوني الشرق أوسطي وتمارس دور الهتاف للتطبيع باسم
الشعوب التي لفظتها وعركتها منذ أيام النضال القومي والماركسي حتى انتهاء الحال
بهم اليوم طلائع للحل الصهيوني والسلام ببصماته الرامية إلى خنق الأمة.
إن إسرائيل وأمريكا تسعيان اليوم إلى توقيع الصلح مع العرب وهم في
أضعف حال، حينها سيقول اليهود رأيهم في السلام مع العرب في الانتخابات
المقبلة، وهو موقف سيكون في مجمله راضياً عن الخطوات السلمية، في مقابل
ذلك نجد أن الشعوب العربية مغيبة بل مسلوبة حتى من حق الاعتراض، وهذا
بالتحديد ما يهدد جنين السلام منذ يومه الأول، فالشعوب تثأر لكرامتها ولو بعد حين
حتى ولو كان على طريقة النازية حينما ثارت ضد اتفاقية (فرساي) التي اعتبرها
الألمان مهينة لهم» كما يقول (فرانسيسكو دوتشيني) المعلق الإيطالي، هذه القوة
الصهيونية تمثلت يوم أن وقف الرئيس الأمريكي كلنتون خلال زيارته الأخيرة
للكيان الصهيوني وهو معتمر الطاقية اليهودية واعداً إسرائيل بحماية وأمن وتفوق
إلى الأبد ثم قام زعيم المعارضة (بنيامين نتان ياهو) وخاطب كلنتون قائلاً «لسنا
بحاجة إلى وعود مستقبلية واتفاقات مع زعامات صغيرة إن أبناءنا اليهود هم الذين
صنعوا المعجزة الإسرائيلية وإن السلام الذي يوعد اليهود بإبرامه مع جيرانهم
سيحرمهم من أرضهم التوراتية المقدسة» في الوقت نفسه كانت قوات الأمن
الأردنية تعتدي على عضو في البرلمان الأردني أراد أن يعبر عن موقفه من
المعاهدة في ظل «الشرعية الدستورية وضمن حقوقه النيابية» ولكن الرد كان
يتمثل في إقدام عناصر الأمن على ضربه وهو يهم بارتقاء المنبر، أما زملاؤه
الذين طلبوا أن يعبروا عن وجهة نظرهم من السلام المفروض على الأردن فإن الرد
كان واضحاً: ليس أمامكم سوى التأييد والدعم لهذا الاتفاق خصوصاً أن الرئيس
الأمريكي كان ضيف البرلمان.. عندها وجد المعارضون الأردنيون أن مقاييس
السلام وارتباطه بالقوة والضعف يجعل من زعيم المعارضة الإسرائيلية يقول رأيه
بكل صراحة في حضرة (الإمبراطور كلنتون) أما هم فقد اكتفوا بأن يقاطعوا الجلسة
ويشاهدوا زملاءهم على شاشات التلفاز وهم يغمرون «الراعي» الأمريكي بفيض
من الهتاف والتصفيق.
السلام الآن مطلوب ويكفي أن النفسية اليهودية المعقدة والمشوهة قد رأت
كلنتون يلقي بثقله في محطات رحلته الشرق أوسطية يكيل المدح لمن سار على
الخط الإسرائيلي ويكيل الوعيد لمن تردد أو تساءل، ثم بعيد هذه الرحلة يعقد مؤتمر
الشرق الأوسط للتنمية بالمغرب وتشارك الوفود العربية بقضها وقضيضها لتمرر
وتقر المخطط الإسرائيلي لمرحلة الهيمنة الصهيونية المقابل للضمور العربي.
وفي رأي محلل فرنسي «السلام الأردني الإسرائيلي نموذج للاتفاقيات
النفسية.. فالحدود الإسرائيلية الأردنية ظلت هادئة لأكثر من أربعين عاماً الذي
حصل هو تكريس السلام العسكري وترجمته إلى قبول بالتفوق الإسرائيلي وفتح
نوافذ شعبية له حتى يحرق جدار العداء..» .
ما فات هذا المعلق هو أن أخطر ما في اتفاق وادي عربة وما تلاه من مشاهد
وعروض مسرحية يهودية مستفزة تغذي في الإنسان المقهور والمطالب بالانسلاخ
عن دينه ومنطقه ومعاناته بذور الرفض لسلام المنهزمين لا سيما وأنهم قد خرقوا
طبلة أذنه أيام الكامب ثم أيام اتفاق أوسلو بالجنة التي ستبزغ حينما يصالح
المغتصب اليهودي المتكئ على الترسانة الغربية المستكبرة التي نالت منه في
(صبرا وشاتيلا) والقدس والخليل وحوض البقر ودير ياسين ثم يفتح عينيه ليرى
الزعيم الفلسطيني يُذل صباح مساء ويعامل باعتباره رئيس محمية هنود حمر مهمته
قمع شعبه ومحاصرته، بينما لم تتحول صحاري النيل إلى أنهار وجنات بمجرد أن
تصالحت مصر وإسرائيل، بل زادت معاناة المواطن المصري الذي حاول أن
يصدق من قال له: إن السلام معناه الازدهار.. وهذا بالضبط ما يجعل تمرير مثل
هذه الكذبة الممجوجة وجبة ثقيلة الظل وعسيرة الهضم.. تماماً كوجه رابين وجوقته
العربية التي ترقص على المزامير اليهودية وتصر على أن نصاحبها في الرقص..
على الطريقة الصهيونية المقززة، كما رقصت النخب (إياها) أيام الكامب أو هتفت
مع عرفات نخب التطبيع يوم أن احتفل الغرب المتصهيتن بالاستفراد الثاني بالعرب
في حديقة البيت الأبيض قبيل حوالي عام، بينما جاء الاستفراد الثالث في وادي
عربة رتيباً ومملاً لأن الجميع اكتشفوا أن النائحة المستأجرة التي باعت ضميرها
وقلمها وحنجرتها وهي تندد بأعداء السلام من المتطرفين إنما تمارس الانتحار
البطيء منذ أن اختارت أن تكون ظلاً للمشروع الصهيوني في المنطقة.