مجله البيان (صفحة 1843)

حكم الانكار فى مسائل الاجتهاد

من فقه الدعوة

حكم الإنكار في مسائل الاجتهاد

خالد بن عثمان السبت

تمهيد

جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات صفيه من

خلقه صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه حيث قال [الذين يتبعون الرسول النبي

الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم

عن المنكر] [الأعراف: 157] ، وهذا الوصف أيضاً من أخص أوصاف من

اصطفاهم من سائر البشر ليكونوا أتباعه ورسله وأنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم

أجمعين [والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون

عن المنكر ويؤمنون بالله] [التوبة: 71] وبين جل جلاله أوصاف المؤمنين:

[التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف

والناهون عن المنكر] [التوبة: 112] وجعل الله تعالى مناط خيرية أمتنا الإسلامية

بهذا الوصف [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر] ... [آل عمران: 110] .

وهذا الوصف له آداب وضوابط يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن

المنكر معرفتها والالتزام بها، وسيكون حديثي في هذه الحلقة عن حكم الإنكار في

مسائل الاجتهاد وعلى النحو التالي:

أهمية هذه المسألة:

الكلام في هذه المسألة يعتبر من أهم ما ينبغي معرفته في هذا الباب، وذلك

لسببين رئيسين:

الأول منهما: كثرة وقوع اللبس والخلط في هذا الجانب.. فإن الكثيرين ممن

يتكلمون عن هذه المسألة يعبرون عنها بـ «الإنكار في مسائل الخلاف» فيطلقون

القول بـ «عدم الإنكار في مسائل الخلاف» .

ولو جعلنا عبارتهم هذه قاعدة وأردنا تطبيقها لتعطل باب الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر تماماً.. لأن الخلاف واقع في أصول الدين وفروعه في القديم

والحديث، فما هو الضابط في ذلك؟ الحق كما قيل:

وليس كل خلاف جاء معتبراً.. إلا خلاف له حظ من النظر

السبب الثاني: هو استغلال كثير من أهل التلبيس والتدليس والخلط، ذكر

بعض أهل العلم مثل هذه العبارة في كتبهم..! ! فأصبحت مُعَوّلاً لأولئك لتثبيت

جذور التمييع لمسائل الشريعة العلمية والعملية..!

وإن من عادة أهل البدع إطلاق العبارات المجملة.. والموهومة، ليصلوا منها

إلى معان باطلة! ! والحق في خلاف مسلكهم هذا.. قال ابن القيم -رحمه الله- في

نونيته:

فعليك بالتفصيل والتمييز ... فالإطلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا ... الأذهان والآراء كل زمان

وقال:

فعليك بالتفصيل إن هم أطلقوا ... أو أجملوا فعليك بالتبيان

وقد علمت مما سبق أنه لا يحكم على الشيء أو الفعل بأنه منكر إلا إذا قام

على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع

المسلمين.. وعليه فإنه إذا وُجد النص فلا عبرة بخلاف المخالف كائناً من كان..!

فالقول بأن «مثل هذا من المختلف فيه الذي لا ينكر» قول باطل.. وإنما

العبارة الصحيحة «لا إنكار في مسائل الاجتهاد» .

فإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي لم يرد فيها دليل من الكتاب أو

السنة الصحيحة، أو وقع عليها الإجماع.. أو كانت مما تضاربت فيها الأدلة -

ظاهراً - في نظر المجتهد أو خفي المأخذ، أو غير ذلك من الأمور المعروفة، فهذا

مسلم، وبه تعلم أن هناك فرقاً بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد، فالأولى أعم

من الثانية كما هو ظاهر.

والحاصل أنه كلما قوى الخلاف كلما كان العذر أقرب.. والعكس يقال في

حال ضعفه.

جاء في نصاب الاحتساب: «.. ومن لم يستر الركبة ينكر عليه برفق لأن

في كونها عورة اختلافاً مشهوراً، ومن لم يستر الفخذ يعنف عليه ويضرب لأن في

كونه عورة خلافاً عند بعض أهل الحديث» [3] .

ومما يُستدل به على بطلان القول بعدم الإنكار في مسائل الخلاف: إنكار

الصحابة ومن بعدهم على المخالف للسنة الثابتة كائناً من كان، والأمة مأمورة

باتباع نبيها-صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى بما يخالف هديه الثابت وسنته فهو

مخطئ قطعاً وينكر عليه.

وقد أنكر الصحابة على من منع من التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر،

وعلى من أباح وطئ المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية بالنار، علماً بأن

القائلين بهذه الأقوال الآنفة الذكر هم من أفاضل الأمة وخيارها بعد نبيها-صلى الله

عليه وسلم-، ولا يدانيهم من كان بعدهم لا في علم ولا في تُقىً..! !

وإن مما ينبغي أن يُعلم أنه ليس كل مجتهد مصيب، وإنما المصيب واحد لأن

الحق لا يتعدد، وإن كان المجتهد المخطئ مأموراً بالعمل بما وصل إليه اجتهاده

حتى يتبين له خطؤه، وهو مأجور أجراً واحداً في حال الخطأ، وله أجران في حال

الإصابة.

وكثير ممن غلط في مسألتنا تلك إنما دخل عليه اللبس بسبب عدم وضوح هذه

المسألة الأخيرة..! !

ونحن في هذا لمقام أردنا الإشارة إلى هذه النقطة للتنبيه عليها دون الخوض

في تفاصيلها، لأن هذا محله كتب الأصول.. وقد أطنب في شرحها وبيانها شيخ

الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فراجعه إن شئت.

وبهذا تكون قد عرفت أن الصواب إنما هو القول بعدم الإنكار في مسائل

الاجتهاد.. وضابط هذا ما تقدم.. وأنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ، كما أن مثله لا

يجعلها مسائل اجتهاد، والواجب في مثل هذه الأمور الاجتهادية لزوم المناصحة

والبيان من قبل من تبين له وجه الحق في شيء من تلك المسائل.

وقفات:

الوقفة الأولى: هذا الكلام يقال في حق المجتهد أو المتأول الذي له فيما ذهب

إليه تعلق بالنصوص الشرعية، أما المقلد فلا، لأنه ينكر عليه، وقد نقل ابن مفلح

رحمه الله رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- تدل على أنه لا ينكر على المجتهد بل

على المقلد، قال إسحاق بن إبراهيم: عن الإمام أحمد أنه سُئل عن الصلاة في

جلود الثعالب. قال: إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً

ينهى.. « [4] .

الوقفة الثانية: لا يتنافى عدم الإنكار على المخالف في مثل هذه المسائل مع

دراستها ومناقشتها بين أهل العلم، ليعرف كل منهم مأخذ الآخر ليهتدي الجميع

للوصول إلى الحق، شريطة أن لا يؤدي هذا إلى فتنة أو مفسدة كبيرة، وبشرط أن

لا يكون التشاغل بها على حساب ما هو أهم منها.

الوقفة الثالثة: يندب المخاطب إلى العمل بالأحوط والخروج من الخلاف في

هذه المسائل جرياً على وفق القواعد الشرعية.

الوقفة الرابعة: تجنب الخلاف والحرص على تفاديه قدر الاستطاعة، مع

التماس الأعذار للمخالفين، بالإضافة إلى عدم جعل هذه الخلافات الاجتهادية مجالاً

للتفرق والانقسام واستباحة الأعراض.

الوقفة الخامسة: ينبغي حسن المحاورة والمناظرة في هذه المسائل وغيرها،

مع التجرد للحق متى ظهر دليله، وترك المراء والجدال العقيم والمخاصمة.

وقد قرر ابن القيم -رحمه الله- مسألتنا هذه أحسن تقرير في كتابه العظيم

إعلام الموقعين فقال:» وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن

الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف

سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه

ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب

إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه «لا إنكار في المسائل المختلف

فيها» والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا كان خالف

كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء!

وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على

من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل

الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.

والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل

به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها - إذا

عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به - الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء

الأدلة فيها، وليس في قول العالم: «إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ

فيها الاجتهاد» طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب،

والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير،

مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها

للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام،

وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح

على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على

الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة وأن الشفعة

ثابتة في الأرض والعقار.. « [5] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015