لابد قبل الكلام عن المدرسة الإصلاحية التي قادها الأفغاني ومحمد عبده ومن
تتلمذ عليهما في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وهل ينطبق عليها مفهوم
التجديد أم لا؟ أن نعود مرة ثانية إلى تعريف التجديد وتحديد مضمونه وأن نفرق
أيضاً بينه وبين (التطوير) أو (العصرانية) حتى لا يختلط الأمر وتلتبس المفاهيم.
عودة إلى معنى التجديد:
جاء في العددين الأول والثاني من (البيان) حول معنى التجديد: فتجديد الدين يعنى إعادة نضارته ورونقه وبهائه وإحياء ما اندرس من سننه
ومعالمه ونشره بين الناس، ويكون التجديد بإحياء الفرائض المعطلة، وإزالة ما
علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة، وتخليص العقيدة من
الإضافات البشرية لتفهم بالبساطة التي فهمها سلف هذه الأمة، وإحياء الحركة
العلمية في مجال النظر والاستدلال، والعمل على صياغة حياة المسلمين صياغة
إسلامية شرعية ".
وجاء في كتاب (مفهوم تجديد الدين) : إن التجديد يشمل حفظ نصوص الدين
الأصلية صحيحة نقية، ونقل المعاني الصحيحة للنصوص وإحياء الفهم السليم لها،
والسعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر، وبين المجتمع النموذجي
الأول الذي أنشأه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإحياء مناهج ذلك المجتمع في
فهم النصوص والاجتهاد، كما يشمل التجديد تصحيح الانحرافات النظرية والفكرية
والعملية والسلوكية وتنقية المجتمع من شوائبها [1] .
التطوير أو العصرانية:
(إذا كان التجديد يعني الإحياء والعودة إلى منهج المجتمع النموذج في فهم النصوص فإن التطوير يعني أن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية المعاصرة) [2] .
وقد عرفت حركة تطوير الفكر الديني الغربي باسم (العصرانية) وهي تطويع
مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها، وإخضاعه لتصوراتها ووجهة نظرها
في شؤون الحياة، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر ظهر في أوربا نزعات بين
صفوف اليهود والنصارى سميت بالتحررية أو الإصلاحية، وهدفها إعادة تفسير
مفاهيم الدين في ضوء ما يسمى معارف العصر، فقالوا:
إن الشريعة الإلهية رغم أنها موحى بها من عند الله فهي موقوتة بظروفها التي
جاءت بها وليست دائمة. وفرقوا بين (الإلهي) و (البشري) وأعطوا الثاني حق
التطوير والمعرفة الجديدة في كل عصر أو (الوحي المتطور) ، وأنكروا معجزات
عيسى عليه السلام مثل إحياء الموتى وتكثير الطعام، كما أنكر بعضهم ألوهية
المسيح (وهذه من حسناتهم) وفي سبيل هذا المبدأ راحوا يقترحون ويخترعون أي
فكرة لتطوير الدين وجعله ملائمًا لعصرهم. فقالوا بفكرة (الروح) ، و (الشكل)
فروح الدين دائمة وأما شكله فهو متغير، ونادى بعضهم بالحلول حتى يعطي ... لكل كلمة يقولها فيلسوف قيمة الوحي الإلهي. وظهر بين صفوف المسلمين من ... يمثل هذه الروح وراح يعبث بالنصوص يؤولها حسب هواه وحسب انهزاميته أمام الغرب وعلى رأس هؤلاء سيد أحمد خان الهندي.
وإذا اضطر كتاب اليهود لتأويل نصوص كتبهم وتفسيرها تفسيراً لا يتعارض
مع التقدم العلمي فقد يكون لهم بعض العذر في ذلك لما في كتبهم المحرفة من تناقض
واضطراب وقصص ومقولات تستعصي على الفهم، وتناقض العقل تناقضاً ... صريحاً، إذا اضطروا إلى ذلك فليس للمسلمين أي عذر أو أي مبرر للمحاولات المكشوفة للتقرب من الغرب، والتظاهر بأن الإسلام لا يتعارض مع حضارتهم، ... ذلك أن الإسلام محفوظ بحفظ الله، سواء أكان ذلك بحفظ النصوص من القرآن ... والسنة، أوطريقة فهم هذه النصوص، والقواعد التي وضعت لاستنباط الأحكام ... والاجتهاد تعطي العلماء المرونة الكافية لفهم كل عصر وبيان ما هو حق وما ... هو باطل، دون خضوع لضغوط العصر ومشكلاته.
المدرسة الإصلاحية:
على ضوء هذا التعريف للتجديد والفرق بينه وبين التطوير، نحاول تقويم
المدرسة الإصلاحية التي توسم بالتجديد ويقال عن زعمائها إنهم مجددون. ودراسة
ما قام به جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومن تأثر بهما من محاولات لفهم
الإسلام على ضوء هذا العصر، وتفسير بعض نصوصه تفسيرًا يلائم الحضارة
الغربية، لنرى هل ينطبق عليهم اسم التجديد أم اسم التطوير.
إن زعيم هذا الاتجاه، والمذكي لناره، هو جمال الدين الأفغاني أو (الأسد
أبادي) كما صح أخيرًا من تحقيق نشأته. ومع أنه لم يترك وراءه عملاً علميًا يكون
دليلاً لآرائه وأفكاره - سوى كتابه (الرد على الدهريين) وآرائه المنشورة في مجلة
(العروة الوثقى) ؛ لكن بصماته ظاهرة وواضحة في تلميذه محمد عبده وغيره ممن
كانوا يحضرون دروسه ومناقشاته، وربما كان يفضل أن يلقي بآرائه شفاهًا، ليكون
التأثير أقوى (لا شك أنه ذو شخصية مؤثرة مسيطرة) وربما لخطورة ما كان يلقي
من آراء أيضاً فهو يثير موضوعًا هنا وموضوعًا هناك حسب نوعية الناس الذين
يستمعون إليه.
وإذا أردنا تقديم فكرة موجزة عن نشاط وآراء الأفغاني نقول:
1- له نشاط سياسي واسع وحركة دائبة لا تفتر، فهو يؤسس الأحزاب
وينشر الصحف والمجلات؛ ويتحالف مع الدول ثم ينقلب عليها، ويدبر المؤامرات، ويدخل المؤسسات العالمية كالماسونية، كل هذا وهو يتنقل بين البلدان يدعو
الشرق - والمسلمون منهم - إلى النهوض والتقدم، أو هكذا ظاهر دعوته، لأن
الغموض كان يحيط ببعض تصرفاته وأساليبه، كصلته بأمراء روسيا القيصرية،
وإقامته عندهم في بطرسبرج أربع سنين كان فيها موضعًا لإكرام القيصر [3] .
ولكن هذه الحركة لم ينتج عنها شيء علمي مما تتطلع إليه آمال المسلمين، ... كإحياء خلافة، أو تأسيس ملك إسلامي، ولم يصدر عنها تيار إسلامي قوي ... يصارع الغرب ويقف في وجه شروره.
2- من الناحية الفكرية كان الأفغاني فيلسوفًا قبل أن يكون مصلحًا، فهو من
الناحية السياسية يتكلم عن الشرق وأمراضه، ويقول: (فالشرق، الشرق، وقد
خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه وما
يعترض توحيد الكلمة فيه داء انقسام أهليه واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على
الاختلاف) [4] ، ويقول عثمان أمين: (إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني
ومحمد عبده ليست هي الجامعة الإسلامية وإنما هي في صحيحها الجامعة ... الشرقية) [5] ، وهو من الناحية الدينية يحاول الجمع بين الملتين السابقتين: اليهودية والنصرانية وبين الإسلام) لما لاحظه من تمام الاتفاق بينها في المبداً ... والغاية) [6] . ثم تراجع عن هذه الفكرة متهماً القائمين على هذه الأديان بأنهم يحبون التفرق، ويقول عنه رشيد رضا: (كان يميل إلى مذهب وحدة الوجود الذي يقول به فلاسفة الإفرنج وبعض الصوفية) [7] ، والإنسان عنده مَلَك أرضي يجب أن يرتفع بروحه إلى العالم العقلي، فكأنه يريد جمع الشرق والأديان كأحلام ... فلسفية كبيرة، وشعارات جذابة ولكنها غير واقعية.
أو أن في الأمر شيئًا آخر كان يخطط له من وراء هذه الشعارات، وليس
غرضنا هنا تحليل شخصية وأعمال الأفغاني بقدر ما هو استجلاء أفكاره وتطلعاته
من حركته الدائبة من ثم لبيان هل ينطبق عليها اسم التجديد؛ والحقيقة أنه إذا كان
سلوكه الشخصي فيه كثير من المخالفات لقواعد وآداب الإسلام وعقيدته كما وصفنا
عدا عن ارتباطاته السياسية فهل يكون مجددًا؛ والمجدد لابد أن يكون من أهل السنة
عقيدة وسلوكًا.
محمد عبده:
إذا كانت شخصية الأفغاني وأهدافه فيهما شيء من الغموض، فإننا مع محمد
عبده حيال شخصية واضحة، فآراؤه التي تأثر فيها بأستاذه أو فكره الخاص مكتوب
بقلمه أو بواسطة تلميذه رشيد رضا، وسنجد أن معظم الآراء التي طرحها فيما
يسمى بـ (الإصلاح) يمكن إدراجها تحت مفهوم (العصرانية) ومحاولة التلفيق بين
الإسلام وروح الحضارة الغربية أو تابع فيها خطأ المعتزلة من قبل، ففي كتابه
(رسالة التوحيد) أعاد منهج علماء الكلام في عرض العقيدة الإسلامية وتركيزهم
على توحيد الربوبية، ووافقهم في قولهم (إن أول واجب على المكلف أن يأتي به
هو النظر والفكر، وإن الأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند
التعارض) [8] ، وجارى المعتزلة في عدم الأخذ بحديث الآحاد في العقائد. يقول:
(ما قيمة سند لا أعرف بنفسي رجاله ولا أحوالهم، ولكنا نعرض هذه المأثورات
على القرآن فما وافقه كان القرآن هو حجة صدقه، وما خالفه فلا سبيل ... لتصديقه) [9] .
ويتبع أستاذه الأفغاني في موضوع (تقارب الأديان) فقد أسس بعد عام 1885م
جمعية سرية للتقريب بين الأديان شارك فيها عدد من رجال الدين (المستنيرين)
ممن ينتمون إلى الأديان السماوية الثلاثة [10] ، وهو لا يشنع على النصارى
شركهم وادعاء الربوبية لعيسى عليه السلام، ويحصر الخلاف معهم بأنهم لم ... يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول:
(وليس المراد بنبذهم الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته وإنما المراد أنهم طرحوا جزأ منه وهو ما يبشر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-)
وعندما تعرض لموضوع الزواج من كتابية قال: (فهي تدين بوجوب عمل
الخير وتحريم الشر والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة محمد -صلى
الله عليه وسلم-) [11] ، وقرر هذه القاعدة في كتابه (الإسلام والنصرانية) وذكر
بأن الأصل السابع من أصول الإسلام الثمانية مودة المخالفين في العقيدة [12] .
في التفسير:
أكثر ما تظهر (عصرانية) محمد عبده عندما يتعرض لتفسير القرآن الكريم
فهو يحاول تأويل بعض الآيات تأويلاً يتناسب - بظنه - مع العلم الحديث أو مع
روح العصر. ففي قوله تعالى [ومِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ] ، قال: المراد هنا
النمامون المقطعون لروابط الألفة، لأنه ينكر أن يكون السحر حقيقة ... ... ... ملموسة [13] .
عندما يقول رشيد رضا في تفسير المنار: (إن الأجسام الحية التي تسمى
بالميكروبات يصح أن تكون نوعًا من الجن) وأن كل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا. عندما يذهب بعيدًا في تفسير هذه الآيات فإنما يعبر عن رأي شيخه وموقفه من الجن والملائكة. بل إن الشيخ محمد عبده يدعو كل مفسر؛ لأن يتزود بشيء من اللغة العربية ودراسة السيرة، والنظر في الكون ثم يفهم القرآن حسب عصره، وهذه دعوة جريئة للخوض في كتاب الله بغير علم. ...
الفقه والسياسة الشرعية:
لم يتكلم محمد عبده عن الحكومة الإسلامية كما تكلم على عبد الرازق بعدئذ في
كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ولكن كلام الشيخ عن السلطة في الإسلام وأنها مدنية
من جميع الوجوه وأنه ليس في الإسلام سلطة سوى الموعظة الحسنة والدعوة إلى
الخير، فإن كلامه هذا كان مقدمة وتمهيدًا لما كتبه على عبد الرازق، وإن لم يكن
بالوضوح نفسه، وربما يقال إنه يقصد أن الحكومة في الإسلام ليست ... (ثيوقراطية) أو ليس في الإسلام سلطة كسلطة البابا عند النصارى ولكنه يبقى كلامًا غامضًا مما شجع هذا الاتجاه الذي يعتبر أن الحكم والخلافة ليستا من أصول الإسلام.
أما رأي الشيخ في الجهاد فهو ينم عن ضعف شديد أمام الغربيين فهو يرى أن
المسلمين إنما شهروا سيوفهم في أول الدعوة دفاعًا عن أنفسهم، أما الفتوحات التي
وقعت بعدئذ فهي من (ضرورة الملك) ورأيه هذا يعنى أن الفتوحات كانت سياسة
بحتة قصدها التوسع.
ومجمل آرائه الفقهية يلحظ فيها هذا الضعف، فعندما استفتي: هل يجوز منع
تعدد الزوجات؟ أجاب: نعم، لأن العدل المطلق شرط واجب التحقيق وتحقيق هذا
العدل مفقود حتمًا، فللحاكم والعالم منع التعدد اللهم إلا في حالة واحدة، ما إذا كانت
الزوجة عقيماً.
وهذا تحكم منه في شرع الله لم يأذن به، وكذلك فتواه في حل إيداع الأموال
في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها، ويبلغ الشيخ قمة التقرب من الغرب
والانبهار أمام حضارته عندما يتكلم عن الرسم والنحت وسائر الفنون فيقول:
فحفظ الآثار والرسوم والتماثيل هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة
على الإبداع فيها. ويقول لتلميذه رشيد رضا: إن الراسم قد رسم والفائدة محققة، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان (فنحن أمام رجل يريد إعمال عقله في النصوص وليس فهم النصوص ومقاصد الشريعة، ومع ذلك فالشيخ محمد عبده يختلف عن أستاذه، فقد رأى من خلال تجربته أن الاهتمام بالتعليم وتربية الأجيال والابتعاد عن مشاكل الأفغاني ومشاغله السياسية هو الحل الصحيح، وهذا مما أغضب أستاذه فأرسل إليه يعنفه ويقول: كن فيلسوفًا يرى العالم ألعوبة ولاتكن صبيًا هلوعًا (ولكن محمد عبده آثر وصمم على انتهاج طريق إصلاح التعليم لأنه يرى أن أسباب الخذلان عند المسلمين هو القصور في التعليم الديني [14] ، ونقد الأزهر وجموده وطرق تعليمه، وعبارات الكتب المتأخرة المتداولة، ودعا إلى كسر قيود التقليد الأعمى، وهاجم الصوفية الذين يعتقدون بالأموات وقال: إن هذا من أعمال الوثنيين، كما نقد جمهور العامة لأنهم إما جبرية ... أو مرجئة، وبعض هذا النقد من الإيجابيات إلا أنه غالى في مهاجمة التقليد، فكان ... من وراء ذلك فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لمن يحسنه ومن لا يحسنه، كما أنه في هجومه على عقيدة (الجبر) والتكاسل ضخّم من شأن الاختيار حتى قرب من المعتزلة، وهجومه على الصوفية وإن كان حقًا إلا أنه لم يتبن عقيدة أهل السنة، بل كان كهجوم المعتزلة عليهم لأن الصوفية لا يأبهون للعقل ويعتمدون على الذوق والوجدان، وإذا كان أهم أعمال محمد عبده هو كسر الجمود الذي ران على التعليم والأزهر، وعلى المفاهيم بشكل عام، فإن ذلك كان على حساب مبادئ الإسلام وتعاليمه، وسنرى أن تلميذه رشيد رضا كان خيرًا منه ولكن ليس كل تلامذته على هذه الشاكلة فمنهم قاسم أمين وسعد زغلول.
وعلى كلى حال لا يزال يتمسح بمحمد عبده من يريد إسلاماً عصرياً يلائم
هواه أو ضعفه.
رشيد رضا:
من أبرز تلامذة ومحبي محمد عبده، وهو وإن اختلف معه في بعض الأمور
أو ابتعد عن منهجه في التفسير بعد أن استقل به منفردًا ولكنه ظل وفياً له، منافحًا
عنه وعن الأفغاني حتى آخر حياته، ولا شك أن رشيد رضا يعتبر من المصلحين
البارزين في هذا العصر، فقد كانت مجلة المنار من المجلات الإسلامية التي تهتم
بشؤون المسلمين وتدافع عن الإسلام، وفيها كتب آراءه في الإصلاح، ونبه الأمة
وحذرها، وأبدأ وأعاد في أهمية الإصلاح السياسي بتقييد الحكومات بالشورى،
وركز على سنن الاجتماع البشري وعمارة الدنيا في سبيل الآخرة، والارتقاء
بالمسلمين والاهتمام بالصناعة وثروة الأمة، وهاجم الترف والإسراف، ودعا
العلماء للقيام بواجبهم دون خوف أو ملل، واهتم بالتعليم وتربية الأمة، وكان من
آماله الكبيرة إنشاء معهد للدعوة والإرشاد لتخريج أجيال تفهم دينها وتتعلم ... العلوم الحديثة، وقد حاول جاهدًا إقامة هذا المعهد، فرحل إلى العاصمة استامبول،
وأقام هناك سنة، ولكنه لم يوفق ثم رجع إلى القاهرة، ولكن جهوده لم تدعم ولم يقم
المعهد [15] ، وفي تفسير المنار أودع نظراته الثاقبة في داء الأمة وأسباب رقيها،
وتكلم عن فلسفة تاريخ الاجتماع البشري [16] ، كما دعا إلى نبذ التقليد والتعصب
للمذاهب الفقهية إلا أنه ذهب إلى أبعد مما تحتمله هذه المسألة.
ومع هذه اللهجة الصادقة في الإصلاح وانتهاج مذهب السلف في الأسماء
والصفات والرجوع إلى الأحاديث النبوية - وهذا مما يختلف به عن شيخه - إلا أنه
ظل متأثرًا به في كثير من المواضيع، فهو يردد شبهة العقلانيين التي تقول بأن
علماء الحديث لم يبحثوا في المتون أو يعتنوا بها، وإنما كانت عنايتهم بالأسانيد،
ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها لانتقصت كثير من الأسانيد [17] ،
وظل متأثرًا بشيخه في موضوع المعجزات التي ذكرت في القرآن يحاول تأويلها
تأويلاً بعيدًا غير مقبول، اعتذارًا من أحرار الغرب كما يسميهم. فمعجزة حمل
السيدة مريم بعيسى عليه السلام هو أنها عندما بشرت به انفعل مزاجها ففعل في
الرحم فعل التلقيح، وكان نفخ الروح الذي ورد بعدئذ متممًا لهذا التأثير [18] ! !
وعندما تكلم عن إصلاح المرأة وتعليمها، وموضوع التعدد كانت لهجته اكثر تقيدًا
بالشرع وبالأحاديث، وأكثر ثقة بالإسلام من منهج شيخه، ولكنه وافق شيخه في
موضوع التعدد وأنه يجوز منعه، كما حاول تبرير كل تصرفات شيخه وأستاذه
الأفغاني، واعتذر عن بعض مواقفهم مثل دخولهم في الماسونية.
وبعد:
فإن المدرسة الإصلاحية أو (المعتذرون) ليسوا على درجة واحدة فالأفغاني
غير محمد عبده، والأخير غير رشيد رضا، وإذا كانت أهداف الأفغاني ومحمد
عبده متقاربة من ناحية الشكل النهائي رغم اختلافهما في الوسائل، فإن رشيد رضا
أقرب منهما إلى الإصلاح المنشود، وأقرب إلى فهم الإسلام.
ومشكلة المدرسة العصرانية أن منهجها غير قابل للتطبيق لأنهم يريدون
استنبات بذرة أجنبية وإدخال جسم غريب لا تتقبله طبيعة هذه الأمة.
ولأنهم انطلقوا من فرضية انهزامية تقول بأن الدين يجب أن يتلاءم مع
العصر الحاضر بظروفه وأحواله وعلومه وتقدمه لم يصلوا إلى النتائج المتوخاة،
فالدين لا يساير كل تطور بل الصحيح كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (إن
الدين يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى ... بناءة) [19] .
ورغم أننا لا نستطيع التقليل من شأن ما قام به رشيد رضا من جهود لإصلاح
حال الأمة الإسلامية، وصدق لهجته في ذلك، وما قام به أستاذه من كسر للجمود،
وتوجيه النظر للأخذ بالأسباب، إلا أننا لا نستطيع اعتبار هذه المدرسة (مدرسة
تجديدية) -رغم تباين أصحابها في الأخذ بالعصرانية - لا نستطيع اعتبارها مدرسة
تجديدية حسب التعريف والأوصاف التي وضعت للمجدد والتجديد، والحقيقة أنهم لم
يستطيعوا إرجاع الدين غضًا طريًا بعلمهم وعملهم وسلوكهم، بل حاولوا تطويره،
وهنا تكمن الخطورة لأن التطوير يشوش مفاهيم الإسلام بإدخال الزائف على
الصحيح حتى يظن الناس أن هذا من الدين، وسيئة أخرى للتطوير هو أنه ينتهي
بالتفرق لأن كل جماعة تذهب في التطوير مذهبًا يخالف الأخرى [20] ? والفرق
بين العصرانية التي ينادي بها بعض المفكرين المستغربين وبين التجديد في الإسلام
أن الأصول الصحيحة للإسلام موجودة وعلى ضوئها يمكن تجديد الدين وبعثه نقيًا
خالصًا.