نقد على نقد
إبراهيم بن منصور التركي
أجدب النمط الشعري في عصر الانحطاط، وبلغ من التصحر درجة الترمّد
والتجلمد، فهبت أيدي النهضويين تستدعي النص التراثي الغائب تعيد إنطاقه
واستنطاقه، وتحاول امتداداً عمودياً يتصل بالسلف الشعري، ويمتد في الوقت نفسه
أفقياً ليعبر عن واقعه المعاش.
ولم يكن هذا الوضع ليرضي ثلة معاصرة رأت فيه ارتكاسا فجاً، يتبتل في
محراب القديم «المتكلس» ، فمضت فيما تحسبه حداثة أو تحديثاً تزعم اقتراض
النافع من يمين أو يسار، فاتحة بذلك باب الانبهار بالآخر الغربي على مصاريعه،
كل ذلك مع محاولة استنكاف يتأبى خضوعاً للسابق العربي، فكان أن جاءت تلك
المحاولات مسخاً للشرق ونسخاً للغرب.
وحاول بعض المهتمين تلمس أسباب تلك الميول المتفرنجة، واكتناه ما وراء
الأكمة، فجاءت طروح كثيرة يأخذ بعضها برقاب بعض، تعرض لهذه الظاهرة
التحديثية وتتناولها بالدراسة والتقويم، وأبحرت مقاربات رديفة لتنتشل الأدب من
التشظي المرتقب، وتحثو في وجوه الناكصين بعض الحقيقة، وانبرت الثلة الغيورة
لتتمترس صوت الحوار والنقاش، مطلقة أعيرتها الحوارية عبر توجهين متباينين
انشعبت إليهما الرؤى، تعلن في أولهما الفئة الأولى عن رفضها القاطع لكل
إفرازات تلك الظاهرة التحديثية، وترى حتمية القطيعة المعرفية مع كامل نتاجاتها،
في حين رأت الفئة الأخرى إمكانية الانتفاع بالمعطى الجديد ما لم يصادم الثوابت أو
يزعزعها، هذه الفئة الأخيرة تتكئ على تأسيس معرفي بالرأي والرأي المضاد،
فتتناور بعد استكمالها شرائط الحوار وطرائقة، من غير ان تتخذ من دون الحق
وليجة، وسنقارن فيما يأتي بين النهجين في حوارهما الحداثة حواراً أدبياً فكرياً.
أولاً: جوانب التجديد الشكلي:
لقد تخلقت الحداثة من رحم التجديدات وارتياد ذرى التحديث، فما لبثت الأكلة
أن تداعت إلى قصعتها مبهورة بجديد الموائد، إلا أنها أعني الحداثة أصطدمت
بالابتناء المحصن عن بعض ضد اجتياحاتها الجسورة، فهي لم تكتف بالاندساس
الدلالي في صميم المتن الشعري، وإنما مارست انزياحاً متمرداً انتهك الأنساق
الشكلية السائدة، وحاول بعض الغيورين ربط هذا الانتهاك الشكلي بجوانب التمرد
الدلالي، فالشعر الحر أو شعر التفعيلة وفق هذه النظرة مرفوض بجميع أشكاله
وألوانه، لأنه يشارك في الجريمة الواسعة ويمهد لها، والشعر الحديث جريمة يمتد
في أسلوب متدرج حتى يقتل الكلمة العربية ويلغي تاريخها، وحتى يحاول قتل اللغة
كلها، ثم يمتد المكر إلى التاريخ والعقيدة والدين، ومن ثم لا يرضى أصحاب هذا
التوجه عن عدد من الشعراء المسلمين شرعوا يكتبون الشعر الحديث، وهم يدرون
أو لا يدرون أن جميع أشكاله بضاعة واحدة خطط لها نهج واحد لتحقيق أهداف
واحدة.
ولم يرتض المنصفون فتح أبواب المصادرة والإلغاء وإساءة النية، أو جعل
التماهي بين الكيانين الشكلي والدلالي أمراً حتمياً، فجاء نهجهم ليقرر بأن لنا «أن
نعاف الطارئ وليس لنا رفض وجوده وإن اختلف مع الموروث.. فشاعر النثرية
والغموض نرفضه فنياً ولا ننظمه في عقد المشبوهين إلا أن يتعمد بنزوعه تقويض
الكلمة الطيبة، والمتأثر فنياً بشاعر حداثي لا نسلكه في مساره الفكري» [1]
وحسبما يعلم فإن التجديد العروضي ضارب بجذوره في تراثنا الأدبي كما أن
الغموض ليس قضية آنية راهنة، وإنما هو إشكالية تتجذر في تراثنا النقدي عبر
مقولة (المعنى في بطن الشاعر) أو مكاشفة (لم تقول ما لا يفهم؟) إنهما تخليص
للفن من تلك العبارات التي فقدت وهجها المثير، وأصبحت مضغة في شدق السائد
والمتبع.
إن الرغبة السلطوية في التأطير وقولبة الإبداع ستقف حجر عثرة إن اتسعت
أمداؤها أمام محاولات التجريب والشكف عن اللامع المستكن.
ولهذا جاء النهج المتعقل ينداح في فضاءات التمايز بين الكيانين أعني محايثة
الفن للموضوع ويؤكد أن «الغموض الفني لا يعني إلغاء الدلالة.. إنه تخليص
للنص الإبداعي من الدلالة الواحدة المنتهية والتسامي إلى احتمال دلالات كثيرة
يتلبس بها النص، وتكون قادرة على الاستجابة لتطلعات المتلقي» [2]
إن النهج المنكفئ على مألوف الذات لا يشكل معضلة حينما يغدو الانكفاء
ممارسة فردية محصورة، ذلك أن الطرح الشعري الجديد يظل توجهاً ذوقياً يحق
للآخر استدباره مادام يرى القبلة في الجهة المخالفة، إنما الإشكال ينزرع عندما
يكون الاستنكاف الفردي فرضاً قسريا لرأي الأنا في وجه الرؤية الجماعية، أو
عندما يصبح تجبر اً عدائياً ضد مألوف الذات. إن رفض التجديد وإقفال الباب دونه
سيؤدي بالضرورة إلى تسطح الإبداعات الأدبية، وتحويل أشكالها إلى أختام
محفوظة يصم بها الأدعياء الدخلاء. فيختبئ من ثم الوسم البائن بين المبدع الأصيل، والمدعي الدخيل. كما قد تتسلطن الرؤية الأحادية لتكبسل الرؤى الجمعية
وتختزلها في مرتأى فردي وحيد.
ثانياً: إلغاء الحداثة وتصفيتها أم تنقيتها؟ :
إن التوجه الترويضي يميل إلى إمكان التعويض بديلاً عن إعلان التقويض،
ويطرح الرغبة في التنقية عوضاً عن الإلغاء والتصفية. فهو يتساءل عن جدوى
«التفكير في أسلمة الحداثة وجعلها إشكالية عربية متحاشية التورط في الإلحاد
والرفض والتصدي للإسلام» [3] ، «فالثابت أنها أي الحداثة تستمد لحمتها
وسداها من واقعها المعاش، ومن ثم فإن لكل زمان ولكل أمة ولكل ثقافة حداثة
متميزة، فهل نملك القدرة على بلورة حداثة عربية تصد وباء الطارئ.. لو استطعنا
ذلك لقبلنا بوصف الجديد بالحداثة، ومنحناها ملامح عربية وإسلامية ولنا أن نسميها
ما شئنا: حداثة أو معاصرة أو تجديدا» [4] .
وبرغم الروح المتفائلة التي ينطوي عليها هذا الرأي إلا أنه يعكس إشعاع
الترويض الذي يماهنه أنصار التقويض لطرح البديل الجائز، وهنا تصبح
محاولات التقويم فعل احتواء للشكل الحداثي دون النفاذ إلى دواخل المعنى الشعري، أي أنه يحرر الكلمة مما علق بها من غبار السنين فيطهرها ويغسلها. وهذا النهج
المتعقل يعيد في حواره إيجاد خطابه النقدي حول الخطاب الحداثي المتأسس فيندس
في أديمه المغصن، ويعيد تشكيله عبر رؤية مقبلنة تمارس الفرز والانتقاء. إنه
يذيب ولا يذوب، يجادل ولا يجامل، يختار الباقيات الصالحات ولا يرضى غيرها.
ولا يرى خطاب التقويض إمكانية استبقاء الصالح، بل إنه يشنع على الحداثة
بكل صورها، وينفي تعدديتها وتباينها، فلا يمكن حسب ذلك الرأي أن يقول حداثي
أن له حداثته الخاصة التي تختلف عن حداثية أدونيس أو كمال أبو ديب، لأن
ركائز الحداثة واحدة، وخطها العام واحد، وهذا الرأي قد اجتالته أفكاره الغيورة
المتحمسة إلى الرغبة في طمس المعالم التحديثية وغيبتها، دون إدراك مفارقة
الأدبي للفكري، في حين يؤكد الخطاب الآخر وبكل واقعية أن علينا «أن نتبين
ميادين الجدل الحداثي فهناك الحيز الأدبي والحيز الفكري ولكل مجال
متطلباته» [5] .
لقد خلط الهم التحديثي عملاً صالحاً وآخر سيئاً فكان لزاماً استبقاء ما ينفع
الناس وإزهاق روح الزبد، أما محاولة نسف المنجز الحداثي بكل مفرداته فتفكير
عاطفي يهوي بالموضوعية في مكان سحيق. إن ذلك يعني إشراع النوافذ أمام حوار
فني تتبادل فيه الآراء حول الجديد الوافد دون فرض مصادرة أو استعداء.
ثالثاً: منهج التعامل مع الأقوال الحداثية:
الفارقان السابقان داخلان ضمن الفروق في منهج التعامل، لكن إفراد منهج
التعامل مع الأقوال بفقرة منفردة يأتي تنبيهاً على خطورة هذا الجانب. ذلك أن
كثيرين يستصدرون أحكامهم عن ظواهر الأقوال من خلال ما يستبطنونه من نوايا،
عبر توغل ينبت عن الظاهر البريء ليفتض بكارة الأصقاع المحجبة.
يؤكد خطاب التقويض مثلاً على أن في الحداثة ثورة على اللغة والعقيدة
والتاريخ والدين، ويضطر أحياناً لكي يؤكد هذه المقولة إلى لي أعناق النصوص
المحايدة ليجعلها رفضاً للدين أو اللغة أو التاريخ! . رغم أن النص حمال يمكن أن
يستوعب دلالة أرأف! .
إن العقل المتجرد يوجب «أن نتخطى التعميم والتشهير وعشوائية التصدي.
وتلافي إطلاق الأحكام العامة.. وتحرير المسائل وتحديد الأحكام وأخذ الأمور بقوة
الفهم ودقة التصور» [6] ، كما يأخذ على عاتقه «إقامة جسور العودة، وفتح
قنوات الاتصال، وطرح الفظاظة والغلظة وتحامي التشهير» [7] .
إن التعامل الواقعي مع الظواهر المحدثة ومحاورتها كفيل ببلورتها وتصحيح
منهاجها، أما استعداء الآخرين واتهامهم بالمروق والفسوق والعصيان، فلا يجب أن
يكون إلا مع «الفئات المكشوفة، التي تعلن الحرب على الله والكون والإنسان فهذه
لا هوادة معها ولا حوار» [8]
إن وجود حوار خلاق يدرع جنح الكلمة المهذبة سيرسم الدروب والمسالك
ويقتطع من البيداء المهالك، وهو ما قد يعيد للأصيل تعملُقه، ويقزم دور الطارئ
الدخيل، فضلاً عن أنه يمنح النقد مصداقية هو في مسيس الحاجة إليها.
إن الإسلام كما يأبى في الشعر والقصة إثارة الشهوة، فإنه يأبى في النقد شهوة
الإثارة، وهو كما يرفض أن يتسامق النقد لذات النقد فهوأيضاً يرفض أن يتسابق
النقد لنقد الذات، وكما الحرص علي إيجاد أدب إسلامي في الشعر والنقد يجب أن
يكون الحرص على وجود أدب إسلامي في الحوار، هذه البدهيات المغفلة يجب أن
تنسرح إلى حيز الفعل في كل حوار نقدي، حتى لا يزل النقد الإسلامي أو يُزَل في
مهاترات لا تجدي شيئاً. وأحسب أن زلات كتلك قد تعني سلباً للمعطيات الإيجابية
التي يمكن أن تريع في حضن النقد والإبداع الإسلامي بفعل التحاور الخلاق بين
الرأي والرأي الأخر.
إني هنا لا أتهم أشخاصاً أو أبرئ آخرين، بقدر ما أحسب أني وازنت بين
نهجين من مناهج التعامل مع الرأي المضاد، الذي وإن اختلفنا معه، فلا يجب أن
يكون اختلافنا ضدياً متشنجاً، بل يجب أن يكون حوارياً هدائاً يمتلك مع فرادة
التصور فرادة الأسلوب.
وعلى أي حال، يمكن لمن أراد الاستزادة في معرفة الحداثة، سواء أكان من
جهة جذورها أو أفكارها أو المنهج الناجع للتعامل معها، أن يقرأ مع كتاب
د. الهويمل السابق كتاب: الحداثة في ميزان الإسلام للدكتور عوض القرني
وكتاب: أدب الردة للأستاذ جمال سلطان، ففيهما حول هذا الموضوع غناء شاف وبيان واف.